د. صفوت عمارة: شعبان بين الغفلة والاجتهاد
قال الدكتور صفوت محمد عمارة، من علماء الأزهر الشريف، يُعرف الشهر الثامن في التقويم الهجري شهرُ شعبان الذي يأتي بعده رمضان المبارك، بأنَّه شهر الغفلة لأن الناس ينشغلون عنه لوقوعه بين شهرين عظيمين، وهما شهر "رجب" أحد الأشهر الحرم، وشهر الصيام " رمضان "، فإن الناس يهتمون بشهر رمضان لما فيه من الفضائل، ويعظمون شهر رجب لمكانته وحرمته، فانشغل الناس بهما عن شعبان، فصار مغفولًا عنه، ومن المقرر شرعًا أنَّ إحياء أوقات غفلة الناس وعمارتها بالطاعة أمر محبب عند اللَّه عزَّ وجلَّ ولها أجر مخصوص، وقال ابن رجب: لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شُرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن، ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاضُ النفوس بذلك على طاعة الرحمن.
وأضاف الدكتور صفوت عمارة، خلال حديثه لـ"بوابة روز اليوسف"، أنَّ النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كان من هديه الإكثار من الصوم في شهر شعبان؛ فعن عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت "ما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان"، وهذا دليل على أنه كان يخص شهر شعبان بالصوم أكثر من غيره، ومن المعلوم أنَّ الأعمال تُرفع سنويًّا إلى اللَّه تعالى في شهر شعبان، ولقد بيَّن لنا النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم، أنه يحب أن يكون صائمًا عندما يرفع عمله، لإحيائه بالطاعات وكذلك لشحذ الهمم قبل دخول شهر رمضان.
وأوضح عمارة، أنَّ النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قد بيَّن لنا الحكمة من كثرة صيامه في شهر شعبان؛ فعن أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما، قال: قلت: يا رسول اللَّه، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال "ذلك شهرٌ يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحبُّ أن يُرفع عملى وأنا صائمٌ "، أي: أرغب وأود أن يُرفع عملي وأنا صائم طلبًا لزيادة رفعة الدرجة، وقال ابن رجب: "أفضل التطوع ما كان قريب من رمضان قبله وبعده، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعُد عنه".
وأكد عمارة، أنَّ على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة وأن ذلك محبوبٌ للَّه عزَّ وجلَّ كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة"، والحكمة من تحديد هذه الأوقات لرفع الأعمال إلى اللَّه سبحانه وتعالى هى تنبيه الناس إلى أهمية هذه الأوقات وتشجيعهم على إحيائها بالطاعات حتى ترفع أعمالهم وهم على حال الطاعة فتجبر ما نقص منها أو تكون سببًا لغفران اللَّه لهم.
وأضاف عمارة نقلًا عن العلماء، أنّ أعمال العباد تُرفع للعرض على اللَّه عزَّ وجلَّ يوميًّا، وأسبوعيًّا، وسنويًّا، وختاميًّا كالتالي:
أولًا: الأعمال اليومية تُرفع مرتين، وقت العصر والفجر؛ فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أَنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون، ففي هذين الوقتين تُرفع الأعمال اليومية آخر كل يوم وليلة؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال قام فينا رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بخمس كلمات، فقال " إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل"؛ فعمل النهار يُرفع في آخره، وعمل الليل يُرفع في آخره.
ثانيًا: الأعمال الأسبوعية تُرفع مرتين يومي الاثنين والخميس على سبيل التفصيل؛ فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم " تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس؛ فأُحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائمٌ " ، لأن الأعمال الصالحة إذا صاحبها الصوم رفع قدرها، وأثبت خُلوصها للَّه عزَّ وجلَّ.
ثالثًا: الأعمال السنوية تُرفع على سبيل الإجمال في شعبان؛ كما ورد في حديث أسامة بن زيد "شهرٌ تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحبُّ أن يُرفع عملى وأنا صائم".
رابعًا: الأعمال الختامية تُرفع عند انقضاء الأجل، فحينئذٍ تطوى الصحيفة ويُختم عليها، ثم تُرفع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ.
فالأعمال تُرفع للعرض على اللَّه في أربعة أوقات يومي وإسبوعي وسنوي وختامي، جمعها ابن القيم في قوله: "إن عمل العام يرفع في شعبان كما أخبر به الصادق المصدوق، أنه ترفع فيه الأعمال فأحبُّ أن يرفع عملي وأنا صائم، ويعرض عمل الأسبوع يومي الاثنين والخميس، وعمل اليوم يرفع في آخره قبل الليل، وعمل الليل في آخره قبل النهار، فهذا الرفع في اليوم والليلة أخص من الرفع العام، وإذا انقضى الأجل رفع عمل العمر كله، وطويت صحيفة العمل".
وأشار عمارة إلى إنّ مفهوم الغفلة في اللغة هي: ترك الشيء سهوًا أو همالًا أو إعراضًا، وأما في الاصطلاح هي: غيبة الشيء عن بال الإنسان، وعدم تذكره له أو فتور النفس عن عبادة اللَّه، وعرفها الراغب الأصفهاني بأنها سهو يعترى الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، وعرفها الإمام الجرجاني بأنها متابعة النفس على ما تشتهيه.



