مصطلح الشعوبُ والقبائلُ ودلالتهما في علم الأنساب
يبدو من الأهمية أن نعالج بإيجاز بعض المفاهيم التي تبدو ضرورية في ذلك السياق، لا سيما مصطلح "الشعب" (أو الشعوب) People، وكذلك "القبيلة" (أو القبائل) Tribe، ومفهوم كل منهما، ودلالة استخدام كليهما مما يفتح لنا ذلك الحديث بشكل أكثر عمقًا العديد من الطلاسم والإشكاليات التي نحاول أن نناقشها بشكل علمي ومنهجي.
ويختلف مصطلحُ "القبيلة" في ضوء المفهوم الخاص بكل من علم "الأنثروبولوجيا"، أو علم "الإثنولوجيا" بشكلٍ واضح عن مفهوم ذات المصطلح في علم الأنساب لدى العرب، فلكل علم منها رؤية ومنهجية متباينة في تداول مصطلح القبيلة أو الشعب بشكل يجعل مجرد الربط بينهما أمرًا ليس باليسير على الإطلاق.
ولا يزال مصطلح "القبيلة" ذاته، أو بمعنى آخر تعريف القبيلة، في ضوء "الرؤية الأنثروبولوجية" Anthropological Vision يحمل الكثير من الغموض الذي نحتاج أن نميط اللثام عنه، وعن طلاسمه.
ويجدر بالذكر أن بعض المتخصصين يصف ذلك الغموض بقوله: "لكونه (أي مصطلح القبيلة) مصطلحًا عائمًا، وحمال أوجه". وحتى لا نقع في فخ تلك الإشكالية علينا أن نتجاوز تلك النقاط الشائكة فيما يخص المصطلح، لأن ما يهمنا في المقام الأول التعرف على الشعوب والقبائل الأفريقية القديمة، وأدوارها التاريخية بشيء من الإيجاز بعيدًا عن تلك الإشكالات الاصطلاحية.
ويشير علماء اللغة إلى أن "الشعب" هو: ما تشَّعب من قبائل العرب والعُجم، وجمع تلك الكلمة: "الشعوب". ويُقصد بلفظ أو مصطلح "الشعب": القبيلة العظيمة، وقيل: إن أكبر تلك التقسيمات: هي الشعب، ثم يليها القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العِمارة (بالكسر)، ثم البطن، ثم الفخذ.
ويذكر اللُغوي الجوهري: "القبيلة واحدة قبائل الرأس، وهي القطع المشعوب بعضها إلى بعض، وبها سُميت قبائل العرب". وقالوا: كل قطعة من الجلد قبيلة.
وقالوا أيضًا: وقبائلُ الشجرة يقصد بها أغصانها. ويذهب بعضُ أهل اللغة إلى أن "القبيلة" كانت قد سميت بهذا الاسم وذلك لـ"تقابل الأنساب فيها"، وتجتمع القبيلة على قبائل.
ويرى البعضُ أن القبيلة كانت تُسمى عند العرب: (جماجم)، أو الجماجم. ويذكر النسابة الأشهر ابن الكلبي (المتوفى سنة 204هـ): أن الشعب أكبر من القبيلة، ثم تأتي بعد القبيلة: العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ بعد ذلك بحسب البعض. أما فيما يخص دلالة لفظ "القبيلة" في لغة العرب، فقالوا: واحدة قبائل العرب، وهم بنو أب واحد.
أما لفظ "القبيل" لغويًا، فإنه يُقصد بها الجماعة التي تتكون من ثلاثة فصاعدًا من قوم شتى، مثل الروم، والزنج، والعرب، والجمع: قُبُل. ويذكر اللُغوي ابن منظور (المصري) أنه اشتق لفظ القبائل من قبائل الشجرة، وهي أغصانها.
وقيل: أخذت قبائل العرب من قبائل الرأس، لاجتماعها، وجماعتها: الشعب، والقبائل دونها. وقالوا في لغة العرب: رأيت قبائل من الطير، أي: رأيت أصنافًا منها، وكل صنف من تلك الطيور قبيلة، فالغربان قبيلة، وكذلك الحمام قبيلة. وعلى هذا، فمصطلح القبيلة ربما لا يُشير لغويًا إلى البشر فحسب، بل تمتد دلالة المصطلح ومفهومه لبعض طوائف وأصناف الحيوانات في ذات الآن.
ويُقسم مُؤرخو الأنساب بصفة عامة الشعوب، والقبائل، والبطون، والفروع الصغرى لعدة طبقات، أو تقسيمات قبلية، وتُشير كلُ طبقة منها إلى دلالة معينة تختلف في مضمونها ومحتواها عن الطبقة القبلية الأخرى، ومن ثمة فإن لكل منها دلالةٌ خاصة بها تميزها عن غيرها، بل وربما تعبر تلك الطبقة عن عددٍ محدد من البشر أو الناس، ولعل أبرزها الشعوب والقبائل، والبطون، والأفخاذ، والفصائل.. الخ. ونعرف أن القبيلة تنقسم- في الغالب- لعدد من البطون.
ومن ثمة نقول: أن قبيلةً ما تضم بدورها بطون كذا، وكذا، وكذلك تقسم البطون ذاتها لطبقات أو فروع أخرى أصغر من ناحية العدد أو الحجم، وهي يُطلق عليها: الأفخاذ، ثم لدينا تقسيماتٌ، وفروع أصغر مثل: العشائر (ومفردها العشيرة)، والفصائل (أو الفصيلة)، والرهط.. الخ. واختلفت عدد تلك الطبقات والفروع من مصدر لآخر من مصادر الأنساب المعتبرة، ولكن تلك التقسيمات تبدأ- في الغالب- من ست طبقات إلى عشرة طبقات بحسب أكثر تلك التقسيمات. وعن تلك الطبقات القبلية، أو الشعوبية، يذكر النويري: "وإن جميع ما بنت عليه العرب في نسبها، وأركانها، وأسست عليه بنيانها، عشر طبقات..". وتم ترتيب القبائل والبطون العربية، وطبقاتها- بحسب ثلةٍ أخرى من علماء الأنساب- وكان من بينهم السويدي، وكذلك الزمخشري صاحب "تفسير الكشاف" بشكل مختلف،
وهذا التقسيم الخاص بالقبائل والشعوب وفروعها (بحسب الرؤية الآنفة) يبدو كالتالي: الشعب: وهم من خُزيمة، والقبيلة: وهم بنو كنانة، والعِمارة: وهم قريشٌ، والبطنُ: قُصي، والفخذ: هاشم وهو "ج" جد النبي محمد (ص)، وينتسب له بنو هاشم، وأما "الفصيلة" فتشير إلى العبس بن عبد المطلب عم النبي (ص)، ووالد الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وهو المشهور بـ"حَبر الأمة".
وتشير المصادر- ولعل من أبرزها ما أورده المقريزيُ (ت: 845هـ)- إلى أن القبائل العربية كلها تنقسم إلى 6 طبقات رئيسية: الشعوب، والقبائل، والعمائر، والبطون، والأفخاذ، والفصائل، وقيل عند العرب: "إن الشعب هو الحي العظيم"، مثل: بني ربَيعة بن نزار بن معد، ومُضَر بن نزار، وكذلك قبائل الأوس والخَزرَج الذين سكنوا أرض يثرب (المدينة المنورة) قبل الإسلام سموا بذلك لتشعّبهم واجتماعهم، كتشّعُبِ أغصان الشجر..".
ونخلص بعد كل ذلك الطرح الآنف إلى أنه من أهم تلك التقسيمات أو الطبقات الخاصة بالقبائل والبطون، وكذلك فروعها الصغرى، فإنها كانت في الغالب تنقسم على النحو التالي: "الجذم، والجماهير، والشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والعشيرة، والفصيلة، والرهط".
ويعتمد تقسيم العربُ لتلك القبائل، وطبقاتها، وفروعها الأدنى، في المقام الأول على اختلاف حجم كل طبقة، وقوتها، وبحسب أعداد كل منها من خلال الإشارة لعضو من أعضاء جسد الإنسان، إذ إن كل طبقة ترتبط بأحد أعضاء الجسد، فـ"الطبقة الأولى": تُعرف بـ(الجذم)، وتلك الطبقة بحسب تقسيمات الطبقات القبلية لدى النسابة القدامى ينتسب أهلها إما إلى نسب أو نسل عدنان (عرب الحجاز)، وعدنان هو من ولد إسماعيل عليه السلام، وهو جدُ العرب، وإما إلى نسل "عرب قحطان"، أو القحطانيين، وهم: عرب اليمن. ويُقصد بـ"الجَذم" لغة: القطع، وذلك لما كثر الاختلاف في عدد الآباء، وأسمائهم فيما فوق ذلك، وهذا بحسب ما أورده صاحب "نهاية الإرب".
أما الطبقة الثانية: وهي التي يُطلق عليها (الجماهير)، وتلك الطبقة هي على الراجح الثانية من طبقات القبائل والبطون العربية القديمة، وربما ترد في بعض المصادر باعتبارها الطبقة الثالثة، أو غير ذلك.. الخ، فالأمر لم يخل من تضارب، ولكننا نتحدث بحسب الأرجح فيما ورد في الروايات. ومفرد كلمة الجماهير:
(الجمهور)، والمعروف أنه يُقصد بلفظ الجماهير، والتجمهر في رأي علماء اللغة: الاجتماع، إشارة إلى الكثرة، ولذلك يقولون: جماهير العرب، وجمهرة العرب، وهو ما يشير لكثرتهم، وتعدد الجماعات الخاصة بهم.
ويميل نسابةُ العرب لإطلاق أسماء قريبة من هذا الاسم على مُصنفاتهم في الأنساب، ولعل أهمها،
وأقدمها في ذات الآن المُصنَف الموسوم "جمهرة النسب" لابن هشام بن محمد الكلبي (ت: سنة 204هـ)، وكذلك كتاب "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم الأندلسي المعروف بـ"ابن حزم الظاهري".
بينما تُعرف "الطبقة الثالثة" باسم: "الشعب"، وجمعها: (الشعوب)، ولعل من أهم أقوال العرب عن كلمة "الشعب" (أو الشعوب)، وأصلها، ودلالتها، وارتباطها بالقبيلة أو القبائل: سُميت الشعوب بذلك الاسم بسبب تشعُب القبائل منهم.
ويُقال (شَعب) في القبيلة بالفتح، وكذلك شِعب في الجبل بالكسر، والشعوب هي التي تجمع القبائل، ومن ذلك شعب مكة، وتتشعب منها، ومن ثمة فهي تشبه رأس الإنسان بالنسبة لباقي أعضاء الجسد. ويذكر اللُغوي الجوهري عن مصطلح "الشعب"، ومفهومه، ودلالته في اللغة: "الشعبُ: وهو أبو القبائل الذين ينسبون إليه، ويجمع على كل الشعوب..".
وتُعرف "الطبقة الرابعة" بـ"القبيلة"، وهي التي دون الشعب، وإنما سميت بذلك بحسب البعض لأنه يُراد بالقبيلة أي التي تقابل بعضها ببعض، واستوائها في العدد، وهي بمنزلة الصدر من الجسد. ويذكر السويدي أن القبيلة، وهي ما انقسم فيه الشعب مثل ربيعة، ومُضر. ويقول أهل اللغة: جماجم العرب، وهي القبائل التي تجمع البطون.
بينما الطبقة الخامسة، يقال لها عند العرب "العِمارة"، وجمعها: (العمائر)، وكلمة العِمارة تُكتب بكسر العين، وهي الطبقة التي دون القبيلة من ناحية الحجم، كما يقال إنها ما دون القبيلة من ناحية العدد، ويقال إن طبقة "العمارة" هي بمثابة اليدين من حيث ارتباطها بالجسد.
أما الطبقة السادسة، وهي التي تُعرف بـ"البطون"، ومفردها: (بطن)، ويبدو أن ارتباط لفظ (البطن) بهذه الطبقة من الأنساب لدى العرب القدامى لأن "البطن" هي التي تجمع "الأفخاذ" كافة، حيث إن الأفخاذ هي ما يتفرع من البطون، ومفردها (أي البطون): "البطن".
ويجعل آخرون "البطون" في "الطبقة الرابعة" من طبقات الأنساب عند العرب، وهي ما انقسم فيه أنساب العمارة، مثل بني عبد مناف، وبني مخزوم، وغيرهما من بطون العرب.
وفيما يخص الطبقة السابعة، وهي (الأفخاذ): ومفردها: الفخذ، ويقولون في وصف بعض الجماعات: هم من أفخاذ قبيلة كذا، أو كذا، ومن المعلوم أن الفخذ أقل حجمًا من البطن، وهو ما دون البطن بحسب شكل الجسد، وعلى هذا فإن الأفخاذ هي التي تجمع ما أقل منها من الطبقات، وهي طبقة "العشائر".
ويُقصد بمصطلح "الأفخاذ" عند العرب، في الغالب، بني هاشم بن عبد مناف جد النبي (ص)، وهو أيضًا جد بني أمية بن حرب بن عبد شمس.
بينما الطبقة الثامنة- (العشائر): وتتميز تلك الطبقة بأنها قليلة العدد مقارنة بالطبقات الأخرى من طبقات قبائل العرب السابقة عليها، ومفرد كلمة العشائر: "العشيرة"، وتشير المصادر إلى أنه يُقصد بهم هؤلاء الطبقة من العرب الذين يتعاقلون إلى أربعة آباء (أو أجداد)، ولقد سميت هذه الطبقة (من العرب) بهذا الاسم لمعاشرة الرجل إياهم، أي أنه لحق بهم في حياته.
بينما "الطبقة التاسعة"، بحسب هذا التقسيم، وهي التي يقال لها: طبقة "الفصيلة": وجمع هذه الكلمة: (الفصائل)، ويُقصد بالفصيلة في لغة العرب: أهل بيت الرجل، وهم خاصته، كما أن "الفصيلة" تعد بمنزلة "القدم بالنسبة للجسد".
وعن لفظ الفصيلة، ودلالتها، يذكر النسابة "السويدي": الفصيلة ما انقسم فيها أنساب الفخذ، مثل بني العباس، وبني عبد المطلب.
وأما الطبقة العاشرة، وهي التي يقال لها "الرهط": ويُقصد بهم رهط الرجل، وهم أسرته القريبة، وهم بمنزلة "الإصبع"، أو أصبع القدم، والرهط من ناحية العدد: هم دون العشرة أفراد، والأسرة أكثر من ذلك.
ولقد قيل غير ذلك في هذا الشأن. أما لو أخذنا طبقات النسب الآنفة الذكر، وحاولنا أن نطبقها على نسب النبي محمد (ص)، فإنها تكون كالتالي: عدنان (الجذم)، وقبائل معد (الجمهور)، أما نزار بن معد (الشعب)، ومضر (القبيلة)، وخندف (العمارة)، وهم ولد إلياس بن مضر، أما كنانة (فهم البطن)، وقريش: هم الفخذ، وقصي: هم العشيرة، وعبد مناف: هم الفصيلة، أما بنو هاشم: فهم الرهط.
ولقد قيل أيضًا في طبقات النسب الخاص بالنبي محمد (ص)، فإن جده الأقدم عدنان: وعدنان هو في الغالب بمثابة الجذم، بينما قبائل معد بن عدنان (أو بنو معد): فهم الجمهور، وبنو نزار بن معد: هم الشعب، وأما بنو مُضر بن نزار: فهم القبيلة، وخندف: هم بمثابة العمارة، وهم ولد إليـاس بن مضر. وأما بنو كنانة: فهم البطن، وقريش: وهم الفخذ، وقُصي: وهم العشيرة، وعبد مناف: وهم الفصيلة، أما بنو هاشم: فإنهم بمثابة الرهط. وعن أهمية علم الأنساب، وفضل معرفتها عند العرب، قال رسول الله (ص): "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم".
وقال عمر بن الخطاب: "تعلموا النسب، ولا تكونوا كنبط السواد، إذا سُئل أحدهم عن أصله، قال: من قرية كذا". ولا شك أن معرفة الأنساب، وبطونها، هي من خواص العرب منذ القدم، وهي أيضًا من أبرز سماتهم في المعارف الخاصة بأجدادهم، وأنسابهم، وكانت معرفتهم بها قبل الإسلام بهدف الفخر، والحماسة، وكذلك بهدف العصبية القبلية. ومع الإسلام، فإن لمعرفة الأنساب عند العرب دلالات شرعية، ومفاهيم بعيدة عن التفاخر والعصبية المعهودة عندهم. ولهذا يقول ابن خلدون (المتوفى بالقاهرة في سنة 808هـ): "اعلم، أن كل حي أو بطن من القبائل، وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام، ففيهم أيضًا عصبيات أخرى لأنساب خاصة، هي أشدُ التحامًا من النسب العام لهم، مثل عشـيرة واحدة، أو أهل بيت واحد، أو إخوة بني أب واحد، لا مثل بني العم الأقربين أو الأبعدين..".



