قراءة في رواية "ضابط احتياط" للكاتب محمود عوض عبدالعال
•من الروايات المهمة التي كُتبت عن حرب أكتوبر 1973، رواية "ضابط احتياط" للروائي المقاتل محمود عوض عبدالعال، والتي صدرت عن دار الهلال عام 2014.
والرواية صوَّرت الشخصية المصرية التي انتصرت، وعَبَّرت وأبدعت في تصوير البطولات، حيث كان نصر أكتوبر 73 حصاد تخطيط، وجهد وعمل، وقدرة على إدارة المواقف والمعارك، وهي قدرات تمتع بها الجندي المحارب المصري منذ التاريخ المصري القديم حتى الآن.
• تيار الوعي
ما يميز رواية "ضابط احتياط" أنها كُتبت بأسلوب جديد يعتمد على تيار الوعي الذي أزدهر في أوروبا على يد فرجينيا وولف، وجيمس جويس.
أما محمود عوض عبدالعال فقد كان رائد هذا الأسلوب وهذه التقنية الروائية في الأدب العربى المعاصر، وقد استخدمه في رواياته جميعا بدءً من روايته "سُكَّر مُر" التي صدرت عام 1970، وروايته "عين سمكة" عام 1980، وروايته "قارئ في الشارع" عام 1995 وقد استخدم العديد من الكُتاب في روياتهم "تيار الوعي" منذ ستينيات القرن العشرين إلا أن محمود عوض عبدالعال قد برز فيها، ولم يكتب في غيرها حتى كادت أن تُعرف به، ويُعرف بها كما يرى شوقي عبد الحميد في كتابه "الرواية في حرب أكتوبر 73"
ويعتمد تيار الوعي على التدفق وتداعى الرؤى والذكريات والأفكار، مع تداخل الأزمنة والامكنة وهي رؤى في حالة تغير مستمر.
وقد نجح الروائي في استخدام هذا الأسلوب الفني إذ تناول فترة طويلة زمنيا ما بين 1967 وما بعد حرب 1973.
لذا يمكننا أن نلمح في نسيج السرد العديد من الشخصيات مثل الملازم أول محمود صالح ضابط الاحتياط، والفنان التشكيلي مصطفى، والفنان سيف وأخوه أدهم وانلى، والموديل الجميلة، والعريف "عرفة"، والقائد، وعدد من الجنود، ولواءين، ومع هذه الشخصيات العديدة التي عاشت أزمنة مختلفة تعود إلى زمن الاحتلال الإنجليزي حتى عام 1948 ثم تمتد إلى فترتى الخمسينيات والستينيات حتى سبعينيات القرن الماضى فقد كان تداخل الأزمنة طبيعيا، من استعادة ذكريات الماضى، واستدعائها في حاضر الشخصيات وواقعها بل واستشراف المستقبل حيث يعد الترتيب الزمني صعبا من الناحية الفنية والعملية في معالجة المواقف والأحداث، إذن فنحن أمام رواية اتخذت أسلوبا حداثيا كان جديدا في زمنها متناسبا مع موضوعها "حرب أكتوبر" التي استخدمت فيها أحدث الأسلحة وبرزت فيها عبقرية التخطيط، وكما غيَّرت الحرب من التفكير الحربى باتباع استراتيجيات جديدة، كانت هذه الرواية التي كتبها مقاتل وروائى مصري بأسلوب جديد.
وكما يقول ميشيل بوتور في كتابه "بحوث في الرواية الجديدة": [الرواية تُغـﻴﱢر الطريقة التي ننظر بها إلى العالم، والأسلوب الذي نتكلم به عنه، ومن ثَمَ تُغـﻴﱢر العالم نفسه]
• فكر جديد
يتجاور السرد عن الشخصيات والأحداث في هذه الرواية ليتفق الشكل الروائي مع الموضوع والمعنى الذي تدور حوله الرواية، فعن طريق التجاور والموازاة والتغييرات تلتقى الشخصيات جميعا لبناء حدث النصر فنجد محمود صالح الملازم الأول السكندري يتمرد على الصمت، كاشفا عن الحقيقة لقائده مهما كلفه الأمر، وآخر يستعيد ذكريات جده وأبيه الأزهري فيفسح السرد مجالا لهذا ضاربا في عمق الزمن ليرصد تمرد الأب على الرؤية الجامدة في التربية والتنشئة الاجتماعية فوالده يرفض نظام الحفظ والتلقين ويتمرد على شيخه في الكُتَّاب الذي يقسو عليه ويهينه، ليصل بنا الروائي إلى المعنى الذي يريده وهو أهمية بناء الشخصية وكيف تؤثر فيما يتعرض له المرء في حياته من هزائم وانتصارات، يتوازى هذا مع تصوير تسلط الأم على حفيده الذي تريد له التمرينات الرياضية التي لم تسأله عن رأيه فيها، وإن كان يريد أن يلتحق بها أم لا؟، ليناقش فيما بعد فكرة الطاعة دون إعمال العقل، ودون التعبير عن الأفكار، مطالبا بالجرأة في كشف الجديد، والقدرة على الحوار مع الآخرين مهما علت مراتبهم ومنزلتهم الاجتماعية.
هذا التكوين للشخصية هو ما يبحث عنه الروائي ليدرس كيف تحولت الشخصيات من الهزيمة إلى النصر، من الاستسلام للأوامر إلى ابتكار طرق جديدة في التفكير والتعبير عنه.
ينتصر الملازم أول محمود صالح بجرأته وذكائه ليعبر خطوط التفكير الحمراء، يجتاز العوائق ليقول لقائده عن حقيقة ما اكتشفه أثناء خدمته، ويصفه الروائى فيقول: "هو واحد من أربعة آلاف وخمسمائة جندي من ضباط الاحتياط ، التحقوا بالجيش فهم تعبير عن الفكر الجديد للجيش بعد نكسة 67، فكان تجنيد الجامعيين لقدرتهم على الاستيعاب والتدريب في زمن قصير"، الملازم أول خريج طب الإسكندرية، ويحمل في داخله مدينته بتراثها الفكري والفني العريق، وشجاعة أهل الثغر وانفتاحهم على الحياة بميادينها الواسعة، لقد تحول محمود صالح في لحظة إلى مواطن فائق الشجاعة متمردا متطلعا إلى مستقبل يقوده الكشف والمصارحة فها هو يخترق الصفوف ليعـﺑﱢر عن رأيه لقائده حول ما اكتشفه من غياب مائة وسبعين لغما من معدات تم استيرادها، وعن تفريغ مدرعة من أجهزتها الإلكترونية، فيوافق القائد فورا على استجلاء الحقيقة ومن السبب فيها؟، وتم تكليف محمود صلاح ولواءين هما اللواء هشام، واللواء أمين لمعرفة الحقيقة، حيث سُرقت هذه الأجهزة بسبب بَحَّارة أجانب، وُجدت في رحالهم عنبر "الديبو" في الأسفل. لكن اللحظة التي انطلقت فيها شخصية محمود صالح هي لحظة ميلاد لشخصية قادرة وشجاعة.
فيصف محمود عوض عبدالعال بطله: [الملازم أول ابن الجزار أصبح مغناطيس القبلات والتهاني بالجرأة، ميلاد شاب ومُعـﺑﱢر جيد يشق طريقه وسط الضباط مثل الغواصة بدون إرهاق، والثرثرة البعيدة، والقريبة جعلت منه موهبة من الحديد والمعادن، كيان لم يفقد شجاعته أمام قائد الجيش المصري، وانفصل تماما عن فارق الرتبة بين ملازم أول، والفريق، حتى خرج عن كل ما يحيط بالموجودين من رعب وقلق وحذر، واتجه دون أن يمهل نفسه لحظة خوف].
بين صوَّر الروائي خيالات وأفكار زملائه وإكبارهم لشجاعته: [كانت خيالاتنا ونحن وقوف في دوائر، أن الدماء سوف تسيل على الرصيف الحربي، صورة مجردة من الشجاعة تحتمى بالسلبية والمجهول أو الدفاع عن النفس ضد مفاجئ غيبي غير متوقع]
• من نصر إلى نصر
وتتداخل الأزمنة بين زمن الاستعداد للحرب وبين زمن ما بعد الحرب، حيث يسأل محمود صالح عن بذلته العسكرية التي أصبحت في حياته رمزا، في إشارة إلى ما حققه من نصر ممتد من الجبهة وساحة المعارك إلى حياته اليومية بعد الحرب فهي مصدر للفرح والصمود فيسأل محمود زوجته عن بذلته العسكرية بعد عمر:
- البدلة العسكرية عندما كنت ضابطا احتياطيا
- لماذا تسأل؟
- أريدها
- لا أعرف مكانها .. إن ظلت باقية في ملابسك
- أقول بدلتي في الخدمة العسكرية، إبحثوا لي عنها
- بعد هذا العمر؟
- أحتاج إليها بسرعة أرجوكم]
ثم بعد مسافة زمنية تساوى مسافة سردية يجدون بلدته العسكرية ليكون هذا اللقاء النفسي العميق بين المحارب وزيه العسكري الذي يُشبهه برائحة القرنفل فيقول الراوي: [مثل عود القرنفل، ظل يتشمم رائحة البنطلون الميرى، أول ما عثروا عليه، لف وجهه به، ودموعه الجافة تنطق بفرحة غامرة]
• الوطن في القلب
ويوازى هذا السرد عن شخصية الملازم أول محمود صالح سرد عن شخصية أخرى هي شخصية الفنان مصطفى الذي أخلص لفنه وكان تلميذا نجيبا للأستاذ والفنان السكندري الشهير أدهم وانلى، ليفصح الراوي عن شخصيات أخرى لها جهدها في العمق الثقافي التاريخي للشخصية المصرية، مصطفى شديد الانتماء لمدينة الإسكندرية، يحملها تحت جلده وفى قلبه أينما ذهب، يرتقى بفنه حتى يصبح عميدا لكلية الفنون الجميلة، يحمل تاريخ الكلية العريقة وذكرياته مع أستاذه، ويمثل هذا الفنان حلقة الوصل التاريخية بتراث المدينة فيبرز عمق الانتماء إليها، وهو أحد الأعمدة الرئيسية للشخصية المصرية: محبة الوطن والانتماء العميق له فيقول السارد على لسان مصطفى : [تلسعني برودة الألوان حتى نخاع العظام والملح يطفح على الجلد ليقويه ويحفظه للسنين، لها رائحة في أنوف مريديها، المدينة الموجودة تحت سطح الشوارع والبيوت، ممرات ومعابد ومسارح ومدافن ومكتبات وفنانين بكل لسان يرسمون.
أنت ابن المدينة التحتية، أشعر بسقوط أسناني، وأنا جالس بينهم أجمع شتاتهم وأكز على ضروسي، حين أحفر بأظافري وبطاريتي، كان طويل الكريستالية مختبئ في سرها، بنات وبنين، وأنبوبة أكسجين نشطة، شوي السمك، وعشق الأجانب للبنات، عِرْق دساس ممتد نهيل عليه الأسمنت فيتشقق وتصحو المدينة، لا يوجد ولد يشبه القنوط]
• صمود الفنان
ثم يعود السرد بالزمن (فلاش باك) إلى حكاية الفنانين المصريين في مراحل زمنية مختلفة فيحكى السارد عن "أدهم وانلى" وأخيه "سيف وانلى" عندما كانا يرسمان طوال الوقت يستشعران أن الفن رسالة فيقول أدهم: [جلست أنا وسيف نقرأ كتاب الرافعي عن الثورة العُرابية، وعَلَّمت على بعض النقاط المهمة، وفى الحال قمت أرسم معركة كفر الدوار، وسيف رسم ضرب الإسكندرية".
وهنا يستعيد مصطفى ذكرى أستاذه أدهم وانلى، بل يكتب إليه رسالة في لحظة فارقة من حياته، حين يكاد يستقبل التكريم كعميد سابق لكلية الفنون الجميلة فلا يشعر بالتقدير الذي يستحقه، ويستعيد ذكرى أستاذه أدهم ليستلهم رحلة كفاحه واهتمامه بفنه وحرصه على تصوير لحظات خالدة من تاريخ الأمة فى لوحاته، حيث رسم وانلى لوحات بعد قراءته لأحداث الثورة العُرابية فى كتاب عبدالرحمن الرافعي، الثورة العُرابية كلحظة تمرد وكرامة تستدعى ميراثا من القدرة على المواجهة لا تزال حاضرة في الوجدان المصري، وتأتى تقنية كتابة الرسالة من مصطفى لأستاذه "أدهم وانلى" مؤثرة في عصب السرد، فنراه من خلال سطور الخطاب يقول: "عزيزي أدهم، ما جرى لي مؤثر ويستحق البكاء على القيم، والتقاليد التي تربينا عليها، ولا نعلم غيرها ، رغم أنك لا تسمعني، ولن ترد على رسالتي لكنك الفنان الملهم والأحب إلى قلبي، أغمس فرشاتي من معاناتك التي أعرفها وارتحت منها إلى الأبد حتى "فاني" التي عشقت فنك، تحولت عنك إلى أقرب الناس إليك.
العميد الجديد الذي تولى العمل بالكلية خلفا لي، كان الزملاء النبلاء قد جمعوا مبلغا كبيرا واشتروا لي به "بالتة" فضية نُقش عليها اسمي، هدية التقاعد، تصوَّر وأعلم أنك لن تتصوَّر بأية حال، المهم هو إبلاغك بما حدث، يوم الحفل بالكلية اعتذر العميد الجديد عن تسليمي الهدية بحجة نسيانها في عربة زوجته، ووعد بالمرور علىّ بالمنزل غدا لإعطائى الباليتة الفضية، لك أن تعد السنوات التي مرت ولم أتسلم الهدية!"
أخوك مصطفى
• صمود فنان
لكن الفنان مصطفى يصمد لنفسه، ويتذكر انتصاراته، وتتداخل الأزمنة والشخصيات فهل مصطفى فيما يكتبه وهو يستعيد ذكريات أستاذه مُـذﻜﱢرا بأدهم وانلى وصموده في رحلة الحياة وتمسكه برسالته وفنه دون أن تشغله قضايا الذات عن قضايا الوطن ومذكر بالفنانين المصريين وهم يستعيدون مشاهد مهمة من حياة أمة [كان يحمل على كتفيه عدة سطور من كتاب، أنت أمام كوبري الجامعة، الصراخ وخلفه عشرات الأقدام تهرول، بلادي، بلادي، زادت درجاتها، كل خطوة من خطوة، الوجه محايد يؤكد أصالته، والمحروسة كل همها في الحظ يأتي عفوا وبدون وعي، مشروع مكتب بريد داخل متحف الفنون الجميلة، يلجأ إليه الحصان والهدهد والجمل والزرافة والطاووس والحمام والديك والنخلة
- الريف المصري فقير، والفلاح صامت
- حتى ألوانك فقيرة
- الحال من بعضه
- والمرأة؟
- في كل أحلامك المرأة تعجن أو توﺼﱢل الطعام إلى زوجها في المزارع، أو تشارك الأطفال والرجال في التنقل على عربة يجرها حمار، هن عماتي وخالاتي وقريباتي وأغلب نساء جيلي، المرأة كائن له في الظل والنور جمال ساحر.
كانت هناك نساء في جيل أسبق يحلقن حواجبهن كي تنير الوجه، ولم أﻟﱢون الشفاه باللون الأخضر أو الأزرق رغم حيوية هذين اللونين، فإذا كانت ألواني فقيرة فلتكن فقيرة، يكفي ما اكتشفته بداخل الخطوط من جمال خاص، في كثافة الظل مساحات صامتة، وفى كثافة الفقر إفراز مرئي لأسرار النفس]
• مقومات الإبداع
التعبير عن الذات واكتشاف الجمال الخاص بعين الفنان، وتجليات النفس وأسراها كان أحد مقومات الشخصية المصرية المبدعة على مر العصور، والتي كانت دائما عنصرا فعالا في التكفير والتخطيط واستشراف المستقبل من خلال دراسة التاريخ والتراث ويتبدى هذا في مشاهد عدة، وفى مفردات مهمة في هذه الرواية، فيستحضر الفنان صوت سيد درويش فيقول: [سيد درويش قمة الصداقة والربط الدرامي جعل النوبي والإيراني والمغربي والشامي والمصري يغنون أوبراته، كل حسب لهجته وطريقته بينما عطيل أو هاملت لم تقدم في أوروبا إلا بلهجة واحدة]
• رموز الانتماء
وقد استخدم السارد أسماء شخصيات، تنتمي لعبقرية الإنسان والمكان يستحضرها الجندى المثقف وهو يتحدث عن خوذته فيقول: [على مسافة عدة كيلومترات، فصيلة الاستطلاع تتابع في سُحب كثيفة من الغبار لتحركات الدبابات، الخوذة على رأسك تعلمتها من المعمارى حسن فتحي، ذلك الفرعون الأكبر حجما من أبى الهول، لا تستطيع الرياح والأتربة أن تقف أمامها، تتبعه في أي مكان يركن إليه كدودة قز يُنشئ أمكنة قادرة على التصدي للزمن بعبقرية الصيف والشتاء]
وهنا استدعاء رموز أبى الهول، والمعماري حسن فتحي، وصورة لا تزول لتماثيل أو بيوت تتحدى الزمن، وخوذة أيضا كقباب هذه البيوت التي صنعها المعمارى الشهير مستلهما عظمة أبى الهول وبقاءه خالدا عبر الزمن لوصف الخوذة، إبداع فني يصل النصر بانتصارات أخرى مثل فن المعمار، وفن النحت وغيرها من الفنون، وكأنه يريد أن يقول إن الشخصية المصرية هي كل هذا الإبداع المتنوع الذي توحد في كيان واحد عميق الإرث والتاريخ، وحاضر في اللحظة ومستشرف لآفاق المستقبل.
• أحلام البسطاء
وكما استحضر السارد هذه الشخصيات البارعة في التعامل مع الواقع وصف عذابات وأحلام شخصيات أخرى مثل الجندى (عرفة) وشخصية أخرى هي (الموديل) الجميلة، ورغم هزائمهما الداخلية إلا أن ضوءا خافتا يتسلل من السرد ليضيء شخصياتهما ويكشف عن مواهبهما وقدراتهما التي طمستها الظروف القاسية التي أحاطت بهما، العريف "عرفة" عاشق للأرض، لم يحصل على قسط من التعليم لكنه كما يصف نفسه [شوقي للفلاحة، سنابل القمح وعيدان الذرة، وشتل الأرز وعليقة البهائم، يعملون ما بدا لهم أبى لازم وضروري مع أولاد عمى في المدرسة العالية؟، كل واحد وشوقه]
• بلا خوف
أما الموديل الجميلة الفقيرة فهي تساعد أسرتها بعملها كموديل، يرسمها طلبة الفنون الجميلة، في داخلها تشعر بأهميتها على الرغم من ظروفها القاسية ومعيشتها الصعبة، تُدرك عذاب المكان الفقير، والقاعدين على أبواب البيوت، نصف عرايا بالضرورة، أما هي فتشعر أنها بعملها حين تستند على حافة النافذة لساعات كموديل دون حراك تصبح أخرى واثقة من نفسها تقول: [أنا أريد أن أرى. أن أشعر بشيء واحد حقيقي..، الطيبة الموجودة في أعماقي أبرزها]
وفى موضع آخر تقول [أنا راضية عن نفسي تماما، وعندما أكون ممتلئة بالرضا أجدنى في المعرض بلا خوف، ببساطة أعظم من كل المشاركين في المعرض، هناك يعاملونني جميعا بحذر]
وهكذا نرى كل شخصية جديدة في السرد تأتى ومعها أعماقها، ودواخلها الحميمة، ذكرياتها، آلامها، وآمالها، قناعاتها، ما فشلت فيه، وما نجحت في تحقيقه وكأن كل شخص جديد في الرواية لا يتحدث عن نفسه فقط، [الرواية ليست معرفة ماضي هذا أو ذاك فحسب بل معرفة ما يعرفه الآخرون أو يجهلونه في وقت معين، فينبغي الاحتفاظ بالمفاجآت والاعترافات والكشف عن الأسرار] كما يقول ميشيل بوتور
• التحرير بالعبور
ثم ينتقل بنا الروائي عبر شخصياته وأحداث روايته المتشابكة، بدون تسلسل زمني وإنما بعد تواشج صوتين، صوت من الماضي وآخر من الحاضر، بل في حضور شخصيات عديدة، وأحداث فتتضاعف التغييرات في التسلسل الزمني حتى يصل بنا إلى الخط الأساسي للرواية: لحظة العبور فيصل إليها الجميع فيقول الراوي: [التحرير بالعبور هي المحطة الأخيرة بكل الأرواح الممكنة، بكل الرجال والنساء والأطفال، بأي مهر غال، أحببت الحياة بعد الاستشهاد، حياة ثانية، مصر الجديدة الحُرة خالية من دنس العدو الإسرائيلي، احتفظوا بابني في هيكل بيتي، حرارتي، طموحاتي، حكايتي، وتفاصيل مرور الزمن الصعب، كيف اندمجت بالعام، أنا هنا، لن أصبح كائنا خارقا، واحد مصري سكندري من مدينة الملح بجانب سريري بندقيتي]
• خط بارليف
ثم يصوﱢر الروائي عبور الأبطال، هذه اللحظة الفارقة المهمة ويبدأ من حلم الجنود الذي تحقق: [خط بارليف أمامك، رأيته مليون مرة، شمس إفريقية وآسيا عليه، السفر إليه مرسوم على الكف، خلفك الخرائط، والنمل البشرى، طرق طويلة من الكاكي والجنازير والصناديق الخضراء، منصات الصواريخ تقترب من بعضها رويدا رويدا، وتتعمق مترا بعد متر، موجعة إذا صرخت، ناعمة وثقيلة بسخاء، تحتاج عدسة زووم، قل لي: اعبر، أنا تحت امرك] ثم يصف السارد عبور الجنود جميعا وشعور المقاتل المصري وقد حقق حلمه فيقول:
[مثل رنة الفرح، أنا لا أفكر في شيء، رأسي يدور يمينا ويسارا، نستوضح بماذا أغنى، الله أكبر، باسم الله، هنا وهناك، حشود هائلة على الحافة تنزل الماء، الزوارق المطاطية تحملنا، تحملهم، تحملكم جميعا، متقاربة ومتباعدة، تُغطى سطح القناة، حوائط من خراطيم المياه صوب خط بارليف، صوت الماء في الساتر الترابي، الأتربة تسيح إلى تحت، مثل شمعة تسيل بالنار، أطبق الجنود صعودًا وهبوطا وبسرعة جنونية فوق الساتر، عن مدقات الأتربة الساقطة من بين الهبوط المروﱢع للأتربة]
• سيمفونية النصر
ويتدفق السرد برنة الفرح، وأصوات عديدة للأسلحة المختلفة، وأدعية الجنود وتقدمهم لنسمع سيمفونية النصر فيقول السارد: [موجات من الجنود، تزحف إلى قمة التلال على امتداد القناة، من الممكن سماع الله أكبر، ومستحيلا الانحناء في الصعود بالعَلَم، في داخلك وحش رمادي يريد حريته، أصوات صاخبة للمدفعية، وبطاريات الصواريخ، وجنازير الدبابات والطائرات المهمومة بضرب تحصينات العدو]
• نحو السماء
[كمن يتذوق في عيونهم إحراز نصر العبور الصعب، عبور شرس، تصعد على الجبال، تصعد رغم سيول الأتربة بخراطيم المياه، أمامك فرصة لا تُقاس ولا تفكر، افرض توازنك، المئات من حولك على طول القناة، يتدفقون صعودا صعودا لا ينتهى نحو السماء، من تلقاء نفسك، تسمع الله أكبر تشدك تعدل استقامة جسدك، وانحناءة القفز لأعلى، الذين سبقوني لحظات يمدون أذرعتهم، كأنهم بالملايين، أن أصل هو عمرى كله، ياه، أيقنت أن الله يحبنا، يُحب مصر، تلك ساعة جدي المنسجمة مع خط سير المعركة، ربحها جدي من أبيه حين بَشَّره بشراء قطعة أرض لبناء بيت سكنا له ولأولاده]
• تحرير الأرض
ثم ينتقل السرد في تركيز واضح إلى أحداث النصر من خلال مشهد حواري مع المقاتلين يعبرون فيه عن أنفسهم، وكل منهم يصوﱢر جانبا من جوانب الحرب والنصر: [- الزعفرانة والسُخنة، زوارق البحرية قامت بالواجب
- كسبنا خمسة عشر كيلو مترا في سيناء، العدو يتراجع
- أمريكا طلبت مجلس الأمن لحماية العدو
- الحمد لله خسائرنا معقولة أمام خسائرهم
- أساسا عبرنا "بارليف"، وسورية
أغرقت أحد عشر زورقا إسرائيليا
- كل يوم قادم لصالحنا
- وصاروخ سام 7، الذي تحملونه على أكتافكم؟
- نصطاد به الدبابات
- حتى الآن تدمير 45 دبابة إسرائيلية، وعدد كبير من المجنزرات والمدافع
- نحتاج إلى ..
لأنهم صدقوا كذبتهم، فشلوا، مصر، جنودها، معجزة، والعدو فقد توازنه]
ثم وقف أحد الجنود المقاتلين وهو بطل الرواية ليتأمل المشهد [لا تعرف لِمَ خطر لك التوقف لتحصى دباباتهم المحطمة، في المواقع هربوا في لمح البصر، التحصينات خاوية من الأحياء، بل هناك عدد من القتلى، وبعض زجاجات البيرة ومجلات بلاي بوي، زال المستحيل، وبدأت الخطوة الأولى لتحرير الأرض في وضح النهار]
.... لقد قدم لنا محمود عوض عبدالعال المقاتل والروائي رواية مهمة من أدب الحرب، لنسمع فيها سيمفونية النصر، متخذا أسلوبا جديدا في سرده، مبرزا قيم الانتماء، ومحبة الوطن، وعشق الأرض، والتكوين الإبداعي للشخصية المصرية حيث تضافرت جهود المقاتلين على الجبهة، مع جهود الكُتاب والفنانين في صياغة لحظات فارقة في تاريخنا القومي.



