المشير أحمد إسماعيل يتحدث لـ"روزاليوسف"
أجرى الحديث: عبدالستار الطويلة
نحن اليوم أقوى على مواجهة إسرائيل
كانت مهمتى استدراج العدو وأنا ثابت فى موقعى
كنت قد فرغت من اللقاءات التي أمر بتنظيمها لى مع أكثر من خمسة وعشرين قائدا فى الجيش من المختلف الرتب لاستكمال الصورة العسكرية لكتابى «حرب الساعات الست» الذي كلفنى الرئيس أنور السادات بأن أعيد كتابته.
وكنت قد عدت أيضا منذ يومين فقط من رحلة إلى بعض عواصم أوروبا الغربية حيث اطلعت على معظم ما نشر من كتب عن الحرب، وأجريت مناقشات مع أساتذة معهد الدراسات الاستراتيجية فی لندن وكثير من المعلقين السياسيين.
ومن هنا ومن هناك كانت تتجمع أمامى علامات الاستفهام تبحث لها عن طريق عند القائد العام للقوات المسلحة المشير أحمد إسماعيل على.
قال لى بصوته الهادئ العميق والودود: لعل هذه اللقاءات أعطتك فكرة عن الفرق بين الجيش بعد حرب 1973 والجيش بعد يونية 1967.. بين النصر والهزيمة.
واستطرد يقول:
إن أهم شىء فى الحرب هو أن تكبد عدوك خسائر جسيمة.. أن تحطم قوته العسكرية فى نفس الوقت الذي تحتفظ به بقواتك سليمة وقد عانت أقل الخسائر.
إننا فى حرب 1967 لم تكن الهزيمة منعكسة فقط فى احتلال الإسرائيليين لسيناء وغيرها من الأرض العربية، إنما الهزيمة كانت منعكسة فى تدمير قواتنا المسلحة.. تشتيت الجيش وتمزيقه.
فطالما قواتك العسكرية سليمة.. فعندك الفرصة دائما لضرب عدوك واستعادة ما احتله من الأرض.
قلت: إن هذه القاعدة.. التي هى بديهية أولى من بديهيات الحرب غير معروفة جيدا للناس.. فالذهن يذهب دائما إلى مسألة احتلال أرض كالمقياس الأساسى فى تحديد النصر أو الهزيمة.
وبناء على هذا المقياس.. أود أن أناقش معك قضيتين أساسيتين أثيرتا فى كثير مما كتب عن الحرب بواسطة الكتاب الأجانب. إن أشد خصومنا عداوة.. لم يستطيعوا أن ينكروا قط أن العرب قد حققوا نصرا فى حرب 6 أكتوبر وألحقوا بالإسرائيليين خسائر فادحة.
وإن نجاح العرب كان مفاجأة إذ كان الجميع يتوقعون أن الإسرائيليين سيبادرون بتأديب الجيوش العربية فى أيام قليلة.
ولكن ما يثار هو:
< لماذا لم يتقدم الجيش المصري بعد العبور وإقامة رءوس الكبارى، نحو ممرات سيناء المشهورة لاحتلالها واكتفى باحتلال مساحة على طول الشاطئ الشرقى للقناة بعمق ما بين عشرة وخمسة عشر كيلومترا؟
أجاب المشير أحمد إسماعيل:
لأول مرة فى تاريخ العسكرية المصرية تخرج توجيهات سياسية مكتوبة للقائد العام للقوات المسلحة بجانب التوجيهات العسكرية توضح طبيعة المهمة والعملية.
وليس ثمة مجال الآن لنشر تلك التوجيهات.
ولكن ليس سرا أن نقول إن واحدا من أهم تلك التوجيهات هو إلحاق أكبر خسائر ممكنة بالعدو.. مع تقليل خسائرنا قدر الإمكان.. بصرف النظر عن مساحة الأرض التي تحتلها. إن الهدف هو ضرب نظرية الأمن الإسرائيلى، بكسر التفوق الإسرائيلى الأسطورى المزعوم. وقد نجحنا فى تحقيق ذلك.
قلت:
- هذا حسن.. ولكن إذا كنا قد نجحنا فى إلحاق خساذر فادحة بالعدو وهو ما اعترف به الخصوم قبل الأصدقاء سيظل السؤال يلح: لماذا لم نتقدم إلى أبعد.. إن كتاب السانداى تايمز يقول مثلا: إن المصريين أضاعوا انتصارهم الذي أحرزوه فى الأسبوع الأول من الحرب؟
- كان هناك أمامنا طريقان .. أو أسلوبان: إما أن نتقدم بعد أن أقمنا رءوس الكبارى.. إلى الأمام.. وسنتعرض عندئذ إلى خطرين:
- سنكون تحت رحمة سلاح الطيران الإسرائيلى الذي هو متفوق على سلاح الطيران عندنا.. من ناحية الكم والكيف أى عدد الطائرات ونوعيتها.. إن طيارينا أثبتوا أنهم متفوقون على الطيارين الإسرائيليين.. ولكن يبقى تفوق الطيران الإسرائيلى، هذه مسألة يجب ألا ينساها أحد عند مناقشة حرب أكتوبر.
من ناحية أخرى ستطول خطوط مواصلاتنا إلى داخل سيناء.
- أما كان ممكنا نقل شبكة الصواريخ أو حائط الصواريخ من الغرب إلى الشرق لحماية تقدمنا؟
- ممكن لكن هذا يأخذ وقتا.. ومرتبط أيضا بالمدد والعون الخارجى.
واستطرد المشير يقول:
- نعود إلى الطريقين أمامنا..
الطريق الثانى هو أن نقوم بعملياتنا ا لعسكرية على مراحل.. أى نتقدم على طريقة الوثبات.
إننا طبعا نتوقع أن يقوم العدو بهجمات مضادة بمجرد إطلاق الطلقة الأولى للعبور، وقد حدث ذلك فعلا.
كانت مهمتى استدراج العدو وأنا ثابت فى موقعى.
لا داعى لأن أخرج من مواقعى وأدخل معه فى معركة تصادمية بعيدا عن حماية الصواريخ. وقد نجحت هذه الطريقة.. فدمرنا له اللواء 190 مثلا ودمرنا ألوية أخرى فى الجنوب جزئيا. وقد سمى الإسرائيليون هذه الطريقة «مفرمة اللحمة ».
ولقد كنا نتقدم ونوسع خطوطنا وعمق هذه الخطوط ببطء حقا ولكن بثبات.
- ولكن البعض يقول إنه كان متوقعا أن نخسر فى العبور نصف القوات التي عبرت أى أكثر من عشرين ألف جندى.. بينما الذي حدث أننا خسرنا بضع مئات فقط.. لماذا لم نتقدم ولم نكن سنخسر ما كان مفروضا أن نخسره عند العبور؟
- الحرب ليست مغامرة، وإنما حسابات.. وإنه من الاستخفاف بعقول وأرواح الناس أن نقول إنه كان لابد أن نخسر عشرين ألفا فى جميع الأحوال.. رغم أنه بوسعى أن أحقق أهدافى دون هذه الخسارة الجسيمة.
إن الأعداد المتزايدة، من قتلى الإسرائيليين وأسراهم هى خير دليل على نجاح تكتيك «مفرمة اللحمة» هذا.
ثم إننا كنا نتقدم أيضا ونوسع ما اكتسبناه من أرض.. وكنا أعددنا أنفسنا لتطوير الهجوم واللقيام بوثبة أوسع وأعمق فى سيناء بعد أن درسنا أسلوب العدو وفهمنا تكتيكه وطباعه. واستطرد المشير يقول:
لو اتبعنا هذا الأسلوب المغامر وخسرنا قوات عديدة فى سيناء لما كان بإمكاننا أن نحاصر الثغرة بمجرد حدوثها.
- هل لى أن أفهم كيف حدثت معركة الدبابات الشهيرة؟
- قلت لك إننا كنا نعد أنفسنا لتطوير الهجوم.. وقد كانت خطتنا بدء هذا التطوير يوم 15 أكتوبر، لكننا بكرنا الموعد يوما واحدا وذلك لتخفيف الضغط على الجبهة السورية.
من ناحية أخرى كان الإسرائيليون قد بدأوا يحصلون على المدد من الولايات المتحدة ومنذ يوم 11 أكتوبر بدأ الجسر الجوى الأمريكى.
فعززوا قواتهم للقيام بهجوم مضاد كبير.
- لماذا تعتبر هذه المعركة من أشرس معارك الدبابات فى التاريخ؟
- لأنه اشترك فيها فى معارك تصادمية «أى دبابات تواجه دبابات» أكثر من 1600 دبابة.. وحدثت فيها خساذر جسيمة للعدو.
- وخسائرنا نحن..
- نحن لم ننظر قط أننا أيضا خسرنا.. ففى الحرب يخسر الطرفان المتحاربان، فقط إن الأرقام التي ذكرها بعض الكتاب الأجانب مبالغ فيها.
- هل كسبنا فى تلك المعركة؟
- نعم، رغم خسائرنا فقد كبدنا العدو خسائر مروعة.. كما تقدمنا أيضا بضع كيلومترات إلى الأمام علاوة على تخفيف الضغط فعلا على زملائنا فى سوريا.
- تقول بعض المراجع الأجنبية إننا أخطأنا فى معركة الدبابات هذه بأننا لم نستخدم المشاة من حاملى الصواريخ الذين يدمرون الدبابات كما تعودنا على استخدامهم منذ بداية الحرب وأثبتوا فعاليتهم.
- إن أى قيادة لا يمكن أن تستخدم أسلوبا واحدا فى الحرب دائما.. لقد كان استخدام المشاة مفاجأة للعدو فى البداية.. ونجح.
ولكن بعد بضعة أيام كان لابد من تغيير التكتيك.
وسأضرب لك مثلا بالعبور ذاته.
إننا نعلم أن العدو تفوق علينا جويا كما قلنا.. فاتبعنا عدة وسائل للتغلب على هذا التفوق. كان عبورنا على طول خط المواجهة 170 كيلومترا فاضطررنا العدو إلى توزيع قواته الجوية.. وبعثرة دباباته حيث لا يعرف نقاط التركيز.
ثم هى بعد ذلك سقطت فى شراك شبكة الصواريخ.
وأيضا لم أتحرك بسرعة إلى عمق يبعد عن هذه الشبكة.
بعد أن استقررنا.. بدأنا نغير التكتيك.. وهو انتظار العدو ليأتينا ونضربه.
بعد ذلك بدأنا نتقدم.. لتطوير الهجوم.
قلت:
- قبل أن ندخل فى مناقشة الموضوع الثانى وهو الثغرة.. أود أن نعرف شيئا عن معنى الفصل بين الجيشين؟
أجاب المشير:
المفصل هو المساحة بين أى جيشين يرابطان على جبهة واحدة.
لماذا لا يكونان متلاحمين؟
- لأنه تضيع المسؤولية فى منطقة التلاحم.
كيف إذن يؤمن كل من الجيشين منطقة المفصل؟
- التعليمات تقضى بأن على كل جيش أن يؤمن جانبه من ناحية المفصل.
كيف إذن استطاع الإسرائيليون النفاذ من هذا المفصل.. حتى وصلوا إلى الشاطئ الشرقى للقناة ثم عبروا؟
- لابد أن يعرف الناس أن أى جيش يمكنه بالتصميم وتركيز قوات هائلة أن يفتح ثغرة فى أى مكان.
نحن قد استطعنا فتح خمس ثغرات على طول 170 كيلومترا فى الضفة الشرقية بل احتللنا الشريط كله.
والعدو استطاع عمل ثغرة واحدة.
ونحن قد فتحنا الثغرات الخمس ما بين ست ساعات و36 ساعة.. أما العدو فقط ظل يقاتل من 15 أكتوبر حتى 22 أكتوبر ليفتح ثغرة واحدة عند الدفرسوار.. أى احتاج لسبعة أيام.. ولم يكن عندنا خط بارليف أو ما أشبه.
يعنى أنه كان يتقدم كيلومترين فقط فى اليوم.
ألم تكن تعرف باحتمال حدوث الثغرة؟
- كان لدينا هذه المعرفة.. وثابت أنى شخصيا لفت النظر فى تعليمات أيام 8 و9 و10 وهى تعليمات مكتوبة أنه محتمل أن يفتح العدو ثغرة وفى هذا المكان بالذات.
كيف إذن أخذنا على غرة وفتح العدو الثغرة؟
- نحن لم نؤخذ على غرة.. العدو أراد الحصول على نصر سياسى فركز قوات هائلة كانت تصله أولا بأول من الولايات المتحدة.. ورغم خسائره الفادحة فى وجه المقاومة المصرية، إلا أنه صمم.
هل حقا أن أحد أسباب نجاح الإسرائيليين فى فتح الثغرة هو أننا كنا قد نقلنا كل احتياطى الدبابات من الغرب إلى الشرق بحيث أصبحت الضفة الغربية عارية؟
- ليس هذا صحيحا، فلقد كانت الفرقة الرابعة موجودة مثلا.
ماذا كان يهدف العدو من الثغرة بجانب المظاهرة السياسية؟
- كان يريد أن تتكرر اللغة المألوفة الانسحاب.
كانت الثغرة طعما.
ولكننا لم نتحرك على النغم الذي عزفه العدو.. ولم نسحب جنديا واحدا من الشرق، بل بالعكس أثناء مقاومتنا العنيفة فى الغرب كنا نوسع الأراضى التي نحتلها فى الشرق.
- قيل إن من أخطائنا فى المعركة أننا ثبتنا دبابات لنا فى خنادق فى الضفة الغربية لتكون بمثابة مدفعية، وأن ذلك أعطى العدو الفرصة لتدمير هذه الدبابات وهى مثبتة فى الأرض؟
- هذا من قبيل الأكاذيب التي حاول البعض بها تشويه الانتصار المصري.. فلم تكن لدينا فى أى مكان أية دبابات مثبتة فى خنادق كهذه، كان عندنا مدافع مثبتة على شاسيهات لدبابات قديمة.
هل سقطت فى يد العدو أى صواريخ مضادة للطائرات كما زعم الإسرائيليون؟
- لم يحدث قط.. ولعلك تابعت فضيحة مندوب إحدى الوكالات الأجنبية الذي زعم أن السويس سقطت، بينما كانت ترد الإسرائيليين على أعقابهم.
بمناسبة السويس ما الذي حدث فعلا؟
- لقد حاول العدو احتلالها عدة مرات وفشل.. رغم أنه وصل إلى حد احتلال قسم البوليس. واستطرد المشير يقول:
- إن البعض يتصور أنه لم يكن هناك جيش فى تلك المنطقة.. وهذا غير صحيح.. إن الجيش الثالث لم يكن كله فى الشرق.. لقد كنا عندنا عشرة آلاف جندى فى الغرب.. وهؤلاء قاوموا العدو مع أهل السويس.
حسنا.. ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم تحدث الثغرة؟
- الثغرة بالونة كما قالى لى الجنرال بوفر ومع ذلك لو لم تحدث لكان بإمكاننا المضى فى محاصرة الثغرة ومقاومتها مقاومة شرسة فى البداية.
قالت بعض المصادر الأجنبية إن الجيش المصري مازال يعانى بيروقراطية تجعل الاتصال بين أطرافه صعبة.. واتخاذ القرار يحتاج إلى وقت أطول.
- هذا غير صحيح. فلا بيروقراطية بدليل أن خطة العبور وتفاصيلها اشترك فيها كثير من قادة الجيش والفرق. وكل قائد كانت له حرية الحركة وحرية اتخاذ القرار. ولم ينقطع الاتصال بين غرفة العمليات وبين أى فرقة فى الجيش، وإلا فكيف تم الانتصار الكبير الذي تمثل فى العبور.. واقتحام خط بارليف.. إن كل واحد فى الجيش كان يعرف دوره وموقعه بالضبط.
ما رأيك كقائد عام للقوات المسلحة فى كفاءة السلاح السوفيتى إزاء السلاح الأمريكى؟ ابتسما لمشير فى هدوء وقال:
- لقد كان رأيى دائما أن العبرة بالرجل خلف السلاح. إن الأمريكيين متفوقون فى أنواع من السلاح على السوفييت والعكس صحيح أيضا. والسلاح السوفيتى قوى.. وخشن.. بينما السلاح الأمريكى قوى.. ومرفه إذا جاز التعبير.. كوجود تكييف هواء فى الدبابة مثلا. والأمريكيون يحاولون بعد حرب أكتوبر إدخال تحسينات فى أسلحتهم على ضوء خبرة الإسرائيليين بمواجهة السلاح السوفييتى. إننا عندما استعملنا السلاح السوفيتى وعرفنا خصائصه استخدمناه بكفاءة 100. والمهم هو الرجل خلف السلاح، وقد أثبتت حرب أكتوبر ذلك.
إلى أى مدى يمكن تحقيق الحلم العربى بإقامة ترسانة عربية لإنتاج السلاح ببلايين الدولارات العربية المكدسة فى البنوك الأجنبية؟
- إذا اتحدنا نحن العرب.. والظروف أمامنا مواتية. عندنا الخبراء الفنيون. عندنا الأيدى العاملة الأرخص من أوروبا وأمريكا. وعندنا رأس المال. بل حتى عندنا السوق لبيع السلاح إذا فاض عن حاجتنا وهو الدول الأفريقية.
ما موقفنا العسكرى الآن بعد مرور عام من حرب أكتوبر؟
- لقد خرجنا بدروس جعلتنا أكثر قوة.. الخبرة.. المعنويات.. التدريب.. ونحن أقوى اليوم على مواجهة الإسرائيليين إذا ما ركبوا رءوسهم.. فاطمئنوا.
«عبدالستار الطويلة»
صرح المشير أحمد إسماعيل على، بنشر النص الكامل لهذا الحديث فى كتاب «حرب الساعات الست»، لمؤلفه عبدالستار الطويلة، وهو الكتاب الذي كان الرئيس أنور السادات قد كلف المؤلف بإعادة كتابته بعد تزويده بالمعلومات العسكرية الجديدة.



