السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

ضربناهم.. وعلمناهم إن دخول السويس ليس كالخروج منها

بوابة روز اليوسف

 

خمسة أيام قاتلت فيها السويس، برجالها وشيوخها ونسائها وأطفالها، إلى جانب القوات المسلحة، في معركة ضارية غير متكافئة، ضد دبابات ومصفحات وطائرات الجيش الإسرائيلي.

كيف قاومت السويس، وكيف هزمت العدو؟ لقد شهد المعركة واشترك فيها الضابط أحمد إسماعيل صبح. وسجل الأحداث التاريخية، مستفيدا بدراساته المتخصصة سواء العسكرية أو في علم النفس ما جعله يروي قصة المصريين في موقف التحدي والقتال، ويصور لحظات التحول العظيم، في حياة شعب.. بل حياة أمة بأسرها.

تابع الأحداث المثيرة، يوما بيوم وساعة بساعة في هذه الملحمة.. التي تبدأ صباح يوم 24 أكتوبر 1973 بهجوم مثلث للدبابات الإسرائيلية على مدينة السويس، وتنتهي مساء 28 أكتوبر 1973 باندحار العدو.. ما جعل المقاتل يصيح: لقد علمناهم أن دخول الحمام ليس كالخروج منه.

السويس

 23 أكتوبر.. في المسجد:

منذ الأيام الأولى من بداية القتال، كان عملي يقتضي التنقل بين مواقع قواتنا في الشرق وفي الغرب، وذات يوم انتقلت إلى المستشفى ومعي عدد من الجنود الجرحى لإسعافهم وهناك قابلت رجلا متلحيا يرتدي بدلة كاملة وطربوشا، وجدته واقفا عند مدخل المستشفى وبجواره سلة كبيرة بها علب من الحلوى، ابتسم الرجل، وتعارفنا، إنه الشيخ حافظ سلامة إمام مسجد الشهداء.. وبعد قليل تم نقل بعض المصابين من داخل المستشفى لتحويلهم إلى القاهرة.. عندئذ تقدم الرجل ومعه بعض علب الحلوى يقدمها إلى الجرحى يدا بيد وهو يسري عنهم، ويتلو لهم بعض آيات من القرآن الكريم.. وواصلنا حديثنا فعرفت أن عنده ما يقرب من مائة ألف كعكة يريد إرسالها إلى قواتنا في الشرق واتفقنا على كيفية إرسال هذه الهدية.

يوم 23 أكتوبر 1973 وصلت إلى المسجد لنقل الأسلحة، وقابلت الرجل فوجدته حزينا ولكنه مطمئنا، تحدث عن الإيمان بالله والصبر عند الشدائد، ثم صلينا المغرب ودعانا الشيخ لتناول طعام الإفطار.

كان بالمسجد مجموعة من الأهالي والمقاتلين، جلسنا نتدبر الأمر، ماذا سنفعل في ليلتنا، وصباحنا، كان الموقف غامضا، لا نعلم ما يخبئه الغد لنا من أحداث، العدو خارج المدينة يقصفها بمدفعية دباباته، وجنودنا منتشرون في كل مكان على مشارفها وداخلها. ولم تغمض جفوننا هذه الليلة.

بعد صلاة الفجر، برز من بين المصلين مسؤول كبير بالمدينة، شرح الموقف العام وأفاد بأن العدو يحاول اقتحام السويس وأن قواتنا المسلحة تحتشد الآن لضرب محاولة العدو، وعلينا جميعا أن نطمئن وأن نستعد لمواجهة مسؤوليتنا التاريخية.

 24 أكتوبر.. ماذا نفعل

 

في الساعة السابعة صباح يوم 24 أكتوبر نشط الطيران الإسرائيلي في غارات مكثفة تلقي حمولاتها زنة الألف رطل في أماكن متفرقة داخل المدينة لإخلاء الطريق أمام الاقتحام المنتظر.

وبعدما يقرب من ساعة وردت بالمسجد مكالمة تليفونية من أحد المهندسين المدنيين بمبنى معمل البترول في الزيتيات، والمتكلم يحذر من بالمدينة من أن العدو سيقتحم السويس اليوم بالدبابات، وأنه يقتل العسكريين ويأسر المدنيين، كما فعل بمنطقة الزيتيات.

وهناك في ركن من الغرفة كان يجلس رجل طويل القامة ترتسم على وجهه علامات إدراكه للمسؤولية الضخمة التي يحملها، في عينيه بريق عجيب، وأحيانا كنت أظنه تائها، ولكنه كان أكثرنا تيقظا وانتباها - كما سيتضح فيما بعد - رفض الرجل أن يخلع رتبته العسكرية أو يختبئ.

 ماذا نفعل؟

العدو داخل دباباته الضخمة وعرباته المدرعة في طريقه الآن إلى المدينة، والجنود هنا معهم أسلحتهم الصغيرة بالإضافة إلى بعض قنابل لاقتناص الدبابات.. إنها من غير شك لا تكفي لمقاومة قوة العدو الهائلة.

وتساءلنا: هل يمكن على ضوء ما لدينا من معلومات، الدفاع عن المدينة بهذه الكيفية.. إننا نملك رغبة أكيدة لمنع العدو من التقدم، وكيف نواجه تطور الموقف واحتمالاته المتوقعة وغير المتوقعة؟

ثم نجمع كل الشباب القادر على استخدام السلاح، وأخذ كل رجل سلاحا مما أحضرناه من المستشفى بالأمس، وتحول المسجد إلى مركز للمقاومة الشعبية، وتشكلت جماعات المقاومة، وتم توزيعها سريعا على أماكن متفرقة من المدينة وعند مشارفها.. فقد اتخذنا القرار بالمقاومة مهما كانت القوتان غير متكافئتين.

وقاربت الساعة التاسعة، ولم ينقطع صوت طلقات مدفعية الدبابات، الصوت يقترب ويزداد كثافة، الجميع يهرعون إلى الخارج ومعهم أسلحتهم.  

تسربت دبابات العدو في الساعة الثامنة صباحا في رعونة ومجازفة حمقاء.. اعتقد القائد الإسرائيلي أنه لن يجد أمامه مقاومة في المدينة، ذلك لأن استطلاعاته وحساباته قد قدرت الموقف على المستوى المادي، وحسب التكافؤ من ناحية الأسلحة والمعدات، وأغفلت تقديرات العدو العنصر البشري، للمرة الثانية لم يستعد العدو غرب القناة من درس ظهر السادس من أكتوبر، حيث كان للدور البشري قيمة فشلت التنبؤات العلمية في تقديرها، وعجزت العقول الإلكترونية في احتوائها.

حاولت دبابات العدو اقتحام المدينة من ثلاث طرق رئيسية:

(1) طريق الجناين شمال مدينة السويس، وهذا الطريق يؤدي إلى منطقة حوض شمال مدينة السويس، وهذا الطريق يؤدي إلى منطقة حوض الدرس على الضفة الغربية للقناة مباشرة، وهناك يوجد أحد معابرنا الموصلة إلى الضفة الشرقية للقناة.

(ب) الطريق الرئيسي: (مصر - السويس): وامتداده يوصل إلى قلب المدينة، ومنه إلى مدخل بورتوفيق. ومنه أيضا تتفرع الأحياء الرئيسية للمدينة. وفي وسط الطريق شريط السكك الحديد.

(جـ) طريق الزيتيات: ويمتد من منطقة الزيتيات حيث توجد شركات البترول والمعمل والنوادي والاستاد، ويوصل هذا الطريق إلى ثقافة ومبنى المحافظة وهو ممتد على كورنيش خليج السويس ويستمر إلى الشارع المؤدي إلى بورتوفيق.

وعلى ضوء ما سبق فقد اندمجت جميع الفئات من الضباط والجنود والمواطنين من أهالي مدينة السويس، وأصبحت الجماعات على النحو التالي:

(أ) جماعات احتلت مشارف المدينة داخل المساكن والحوانيت

(ب) جماعات احتلت مداخل الشوارع الرئيسية داخل المساكن والمساجد.

(ج) جماعات احتلت مداخل الشوارع الجانبية داخل المساكن.

(د) جماعات داخل مبنى المحافظة.

(هـ) جماعات اقتناص الدبابات منتشرة حول المدينة وعند مدخل بورتوفيق

ومما هو جدير بالذكر أن هذا التنظيم جاء في أغلب الأماكن تلقائيا بدون تخطيط مسبق.

أما بعض الوحدات شبه المتكاملة، وهي قليلة بالنسبة للفئات السابقة، فقد قام قادتها من الضباط بإجراءات تنظيمية سريعة تهدف إلى انتشار العربات في أماكن متفرقة على مشارف المدينة وداخلها.

وأصبح العامل المشترك الذي ينظم جميع الفئات العسكرية والمواطنين يعتمد على عنصرين رئيسيين، الأول أن الجميع مصريون، والثاني أن العسكريين ينتمون إلى أسرة القوات المسلحة الكبيرة.

وفي الساعة الثامنة من صباح يوم الرابع والعشرين من أكتوبر اقتحمت مجموعة من الدبابات والعربات المدرعة مشارف المدينة من الطرق الثلاثة السابق ذكرها في نفس الوقت تقريبا، فتصدت لها نيران الأسلحة الصغيرة بغزارة في كل مكان، وعاودت مرة ثانية الدخول بقصف للزراير من جميع أسلحة الدبابات، وقد تمكن الجنود من ضرب عجلات إحدى العربات المدرعة في منطقة الزراير فعطلتها وسدت الطريق، وأثرت بقية الدبابات في هذه المنطقة السلامة وتقهقرت إلى الخلف.

 بيان إسرائيلي:

وفي الساعة التاسعة من صباح نفس اليوم دفع العدو بمجموعة من الدبابات والعربات المجنزرة في مشارف الطريق الرئيسي لمدينة السويس بقصد احتلال المدينة، وفي نفس الوقت دفع بمجموعة أخري من الدبابات عن طريق الزيتيات، وأخذت الدبابات تهطل المدينة بنيران مدفعيتها ورشاشات النصف بوصة بكثافة شديدة، فتهشمت البيوت وشبت الحرائق.

كان المشهد العام لاقتحام الدبابات الضخمة لمشارف المدينة امرا ينبئ بسقوط مدينة السويس في أقل من ساعتين، ذلك لأن السلاح لم يكن متكافئا، وجنودنا لا تحميمهم مدرعات، كما أن كمية الأسلحة وقنابل اقتناص الدبابات لم تكن بالقدر الكافي لمواجهة هذه الأعداد الضخمة من الدبابات والمدرعات.

ولكن الذي حدث وقتها جاوز القدرات العسكرية جميعا، وكان امتحانا حقيقيا للإنسان المصري عندما يواجه المحنة الكبرى. وهذه هي الوقائع التاريخية لأحداث يوم 24 أكتوبر:

(1) مجموعة الدبابات التي تسربت عن طريق الأيسر (الزراير) واجهتها جماعات من الجنود وأحد قناصة الدبابات، وأصابت نيران البنادق الصغيرة إحدى العربات المدرعة فصدت الطريق أمام الدبابات فتقهقرت إلى الوراء.

(ب) ومن الطريق الرئيسي على مشارف المدينة، ومن الطريق الجانبي أيضا تسللت مجموعتان من الدبابات والعربات المدرعة وعربات الإمداد بالذخيرة.

دبابتان من طراز سنتريون وبانون ضخمتان- من أحدث ما أنتجت أمريكا- قادمتان بهالة ضخمة من القصف الشديد بجميع أنواع أسلحتهما دفعة واحدة.

أمام أحد أقسام الشرطة المدنية عند مشارف المدينة.. وكان بداخل القسم جماعة من الضباط والجنود والمواطنين.. اعتقد قائد الدبابة الأولى بغرور وصلف أن اللقمة «سائغة» وأن المكان مناسب لاحتلال قسم الشرطة واتخاذه مقرا للقيادة العسكرية في المدينة، وتحت ستار القصف الشديد، دخل الضابط الإسرائيلي المبنى ومعه عدد من الجنود، كل جندي يلصق ظهره في ظهر زميله وبأيديهم الرشاشات يطلقون منها النيران في صدور أفراد المقاومة.

سقط شهداء كثيرون في هذه اللحظات وهم يقاومون المعتدين ويحاولون منعهم من دخول المبنى.. وعندما تمكنوا من اقتحام القسم من الداخل هددوا من بداخله بالرصاص وبدأ الضابط الإسرائيلي يلقي تعليماته بلهجة فلسطينية ركيكة، بأن قيادة جيش الدفاع الإسرائيلي في هذه المنطقة قد تمكنت من السيطرة الكاملة على غرب القناة، وأن وحدات إسرائيلية أخرى في طريقها الآن إلى القاهرة.. وقد سقطت مدينة السويس والإسماعيلية!

هناك في مكان من داخل قسم الشرطة، جندي يوصف بأنه شارد، لكنه لم يكن كذلك، ولهذا الجندي المجهول قصة ينبغي تسجيلها. يجوب الطرقات منذ أمس، يحمل سلاحه الصغير، بندقية آلية، يبحث لنفسه عن كمين يتمكن منه من توجيه نيران سلاحه صوب العدو، لم يذق الطعام أو الشراب منذ أكثر من يومين، لم يغمض له جفن منذ أيام، وجد غايته منذ الصباح، صعد الجندي المجهول إلى مبنى قسم الشرطة، وتسلل فوق السطح، يشاهد الطريق، ويصوب بندقيته على الدبابات التي بدأت تتسرب، ولكن الطلقات لا تصيب أحدا من الأعداء.

يطل برأسه من مكانه فيشاهد الدبابتين تتربصان وتربضان أمام باب القسم، ينتقل بسرعة إلى صحن المبنى فيرى مشهدا لم يصادف مثله من قبل، ولكنه أدركه على الفور، وعرف دلالته ومعناه.. رأي الضابط الإسرائيلي يلقي بيانا ركيكا كاتب المحتوى.. الجنود المعتدون داخل المبنى ملتصقي الظهور زائغي الأبصار.

 فرحة عامرة طغت عليه

إنه يحاول منذ الصباح اصطياد أحد المعتدين، ولم يفلح.. الله يحبه.. إنه دعاء الوالدين.. الصيد الثمين يصل إليه.. جاء دوره الآن في أن يصطاد، مهمة سهلة وبسيطة، عليه أن يسرع لتنفيذها، أطل الشاب برأسه وصوب بندقيته الآلية تجاه الضابط المغرور وهو يلقي بيانه، لم يبق غير رصاصتين في بندقيته، عليه أن يدقق جيدا في (النشان) وليترك الضابط يلقي بيانه كيفما شاء.. المهم النتيجة.

وما أن انتهى الضابط من بيانه حتى كان صاحبنا الجندي المجهول قد تمكن من تصويب بندقيته عليه وضغط على الزناد، وسقط الضابط الإسرائيلي المعتدي قتيلا.. وفي نفس اللحظة صوب واحد من جنود العدو مدفعه الرشاش تجاه مصدر الطلقة فخرجت دفعة كاملة من الرصاصات تكفي لقتل عشرات الأفراد.

وسقط الجندي المصري المجهول شهيدا.

> المقاومة من قسم الشرطة إلى باب السويس:

ما إن رأوا جثة قائدهم ملقاة فوق الأرض، حتى هرعوا إلى الخارج مذعورين خائفين، تركوا القائد القتيل ولاذوا بالفرار دون وعي أو تفكير. وما إن وصلوا إلى خارج المبنى، حتى تلقفتهم طلقات الأسلحة الصغيرة في أيدي الجنود وأفراد المقاومة المنتشرين في كل مكان.. فقد كانوا منذ الصباح يوجهون نيران أسلحتهم المتواضعة صوب العدو.. وكنا نقول لهم لا تفرطوا في الذخيرة حتى لا تنفد، كنا نتهمهم بعدم الحكمة في استخدام الذخيرة.. واتضح بعد ذلك أنهم كانوا على حق، وكان الناصحون مخطئين.

فقد تبين أن هذه الطلقات المستمرة من أسلحتهم الصغيرة.. كان لها أثر عظيم ورد فعل قوي في الحالة النفسية والمعنوية لقوات العدو الإسرائيلي المقتحم لديارنا.

تملك المعتدون الفزع والهلع عندما واجهوا هذه الطلقات من كل مكان، ولم يتمكنوا من السيطرة على ما بأيديهم من أسلحة فتاكة تفوق ما بأيدي رجالنا الأبطال.

ثم تساقطوا واحدا بعد الآخر أمام باب القسم.

وظن العدو أنه وقع في كمين خطير.

وفي نفس اللحظة التي سقطت فيها الدفعة الأولى من المعتدين.. وعندما شاهد من بداخل الدبابة الثانية الرابضة أمام القسم زملاءهم ملقين فوق الأرض، قرر قائدها أن يلوذ بالفرار، تحرك بدبابته ليدور بها في اتجاه العودة، لكنه كان مذعورا خائفا فلم يتمكن من القيادة السليمة واندفع بدبابته فوق الرصيف فاصطدم البناء الحديدي الضخم بعامود النور فكسره، وسقط العامود الأجوف فوق الدباب وأحدث ارتطامه بها صوتا، وفي نفس اللحظة تلامست أسلاك كهرباء عامود النور بجسم الدبابة فأحدث بها ماسا كهربائيا، وفجأة فتح أفراد طاقم الدبابة البرج وهرعوا إلى الخارج للنجاة بأنفسهم من الحريق، استجاروا من هلاك المدرعة.. وما لبثوا أن واجهتهم الأسلحة الصغيرة بوابل من الرصاص فسقطوا فوق الأرض بجانب زملائهم ما بين قتيل وجريح، اللاحقون من طاقم الدبابة الثانية بجوار السابقين من الدفعة الأولى.

الله أكبر.. الله أكبر

ودوى النداء العظيم في أرجاء المدينة، يهز النفوس، وسرى الصوت الرهيب في روح كل جندي وكل مواطن.. الشباب والشيوخ، النساء والأطفال داخل المساكن الخشبية الواهية والبيوت المتهاوية والمحترقة.

رأيت صفا من الدبابات والمدرعات وعربات الإمداد والتموين أولها أمام قسم الشرطة، وآخرها خارج المدينة عند المدخل الرئيسي.. وأمام المبنى جثث لبعض الضباط والجنود الإسرائيليين.

الجماهير في الشوارع.. الأفرول العسكري، القميص والبنطلون، البيجامة، الجلباب والطاقية، العمامة واللاسة والطربوش، رجال ونساء وأطفال.. خرجوا جميعا عند مكان المعركة.. تحركهم إرادة قوية لمنع المعتدين من اقتحام المدينة.

إنها إرادة الرفض

وجاء التحول الكبير في دقائق.

فكيف حدث ذلك؟

في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ أمتنا المجيد.. أقول صراحة أنه لم يكن هناك متسع من الوقت لإجراء تنظيم دقيق وشامل لأعمال المقاومة الشعبية بما فيها من تكتيكيات أو معدات، ولم يحدث تدبير مسبق لهذه الأعمال، ولم يتول قيادة التنظيم الشعبي في المدينة قادة أو مخططون لسير العملية ومتابعتها ولم ينبثق من بين الجماهير زعيم له سطوة ونفوذ في نفوس المواطنين أصدر أمرا وسارت وراءه الجماهير.. ولم يحدث شيء من هذا، وإنما حدث أن كل جندي أصبح مخططا ومنفذا وكل مواطن أصبح زعيمًا وقائدا، وكل رجل دين أصبح موجها ومرشدًا.

أما بقية طابور دبابات العدو ومصفحاته وعرباته، فقد حدث لمن بداخل الدبابة الثالثة مثلما حدث لسابقتيها، واحدة تلو الأخرى حتى آخر الطابور، ففروا جميعا من داخل دباباتهم وعرباتهم خائفين من قنابل قنص الدبابات، فتلقفتهم ثورة الجماهير، ووقعوا في الغضب العظيم وسقطوا صرعى الأسلحة الصغيرة.

والذين مكثوا في دباباتهم قليلا عجلت بحياتهم هجمات قنابل القنص، وتقدم بعض الأطفال لم تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة بصدورهم نحو بعض الدبابات وألقوا بداخلها خرقا مشتعلة بالكيروسين واستشهد منهم غلام بعد أن دمر دبابة ضخمة وأشعل بمن في داخلها النيران.

أصبحت الدبابات مثل لعب الأطفال، الجنازير مقطعة، وممتدة بجانب جسم الدبابة كما لو كانت أذيال الخيبة التي لحقت بالعدو، فوهات مدفعية الدبابات ممزقة وموجهة إلى أسفل مثلما يحني المذنب رأسه حزنا وخجلا.

لم يهب الناس البسطاء التكنولوجيا العسكرية المتمثلة في المساعدات الأمريكية، واجهوها بصدورهم، انتصر الجندي العلاج للمرة الثانية في نفس الشهر على الجندي المتحضر المتأمرك، انتصرت البندقية الآلية والرصاص 9 مم على الرشاشات نصف بوصة سريعة الطلقات وغيرها من مستحدثات الدمار.. غلبت أدوات الحرمين وأصحاب محلات البقالة والجزارة إرادة العدو وحطمت مقاصده في احتلال المدينة.

 

الإسرائيليون: «لسنا جولدا مائير»!

سارت أحداث الجهة الأخرى من اقتحام مشارف مدينة السويس على النحو الآتي:

تقدمت مجموعة من الدبابات في الساعة الثامنة والنصف من صباح نفس اليوم عن طريق الزيتيات، وهذا الطريق يمتد على كورنيش الخليج يمينا وبقصر الثقافة ثم مبنى المحافظة يسارا.. ويوصل هذا الطريق إلى مدخل بورتوفيق.

وكما يقضي أسلوب الإرهاب فتحت الدبابات جميع أنواع أسلحتها لهدم المباني وتشعل فيها الحرائق، ثم وقفت دبابتان بالقرب من مبنى المحافظة على حذر، ووقفت دبابتان أخريان عند مداخل الطرق الرئيسية، بينما تدير فوهات مدفعيتها في جميع الاتجاهات لتغرق المدينة بوابل من النيران.

مسجد الشهداء.. اسم مناسب تماما للموقع، فالذين ينتهون من الصلاة يخرجون ومعهم سلاح للوقوف في وجه العدو واستشهد منهم الكثير، ترى أسماءهم عند مدخل المسجد الآن، ومن بداخل المسجد معرضون جميعا للاستشهاد وهم راكعون ساجدون، زجاج المسجد يتساقط فوق المصلين، بينما تزمجر مدفعية الدبابات.. كان بالمسجد ثلاثة من الجنود المسيحيين، رحب بهم شيخ المسجد.. رأيتهم يؤدون صلاتهم في الصفوف الخلفية ويبتهلون ويرددون الدعاء مع المصلين المسلمين.

قائد المسجد يحمل صينية مملوءة بالكعك والبسكويت - كان قد أعده ليقدمه إلى المقاتلين في سيناء يوم العيد - ويقدم لمن يداخل المسجد وخارجه، يأخذ المقاتل والمواطن حاجته ثم ينطلق إلى موقعه، فقد كان الجميع يعملون.

وعند آخر ضوء، انسحبت الدبابات التي كانت تحوم حول المحافظة ومشارف المدينة، ما عدا دبابتين إحداهما وقعت في حقل ألغام ووقف أمامها رجال الصاعقة عند بداية مدخل بورتوفيق، أما الثانية فقد تعطلت أمام أحد الفنادق بالقرب من مبنى المحافظة، وعندما حاول أفرادها إصلاح العطل واجهتهم نيران بعض جنود كانوا بالمنطقة، حاول الأفراد الاختباء في الفندق، فاقتحموه ودارت معركة بالطابق الثاني قتل فيها اثنان من أفراد العدو واستشهد اثنان من جنودنا الأبطال، وعاد بقية الطاقم إلى الوراء بخفي حنين.

وفي منطقة الزراير تقهقرت الدبابات التي حاولت اقتحام المدينة، وذلك بعد أن دمر أحد الجنود إحدى العربات المدرعة للعدو، فسدت الطريق أمام بقية الدبابات التي آثر قادتها السلامة ناجين بأنفسهم من هلاك أكيد.

أما الدبابات والعربات المدرعة واللوريات وجميع أفراد العدو الذين اقتحموا مشارف المدينة من الطريق الرئيسي، فلم يتقهقر منهم أحد، فقد دمرت الجماهير الثائرة جميع المعدات.

وكانت قوات العدو غرب القناة قد شعروا تماما ولأول مرة بأنهم في مأزق فعلي، فقد انقطعت الاتصالات اللاسلكية بين القيادة غرب القناة وبين مجموعة الدبابات التي اقتحمت مشارف المدينة من الطريق الرئيسي منذ الظهر، وأصبح واضحا للجميع أن دخول الحمام ليس مثل الخروج منه، كما يقول المثل الشعبي السائر، وقد كان دخول دبابات العدو مدينة السويس يختلف حقا عن خروجها.

خيم الظلام على المدينة، ونام الناس بعد طول عناء، بعد أن أدوا أمانتهم نحو مدينتهم، بل نحو مصر كلها، وظل العدو خائفا مذعورا خارج المدينة، ليس للأمان عنده مكان، كأنما هم يخشون هؤلاء الوحوش الذين يستخدمون أسنانهم عند الحاجة، فربما تسللوا إليهم ليلا (وتعشوا) بهم مثلما (تغدوا) بزملاء لهم عند الظهر.

ولكي يأمنوا شر المصريين.. أضاءوا المدينة بالمشاعل الكاشفة ليلا، وقبل أن ينتهي مفعول المشعل يطلقون غيره، وباتت المدينة كلها مضيئة.

ولكي يصبح الموقف واضحا للقارئ، يحسن بنا أن نستكمل الرواية، ونوجه عدسات التصوير إلى منطقة الزيتيات، حيث كان العدو يظن أنه يسيطر على المنطقة، وحيث عادت إليهم بعض دباباتهم مساء 24 أكتوبر تجر أذيال الخيبة، وقد جمعت المعلومات الواردة في الصفحات التالية من بعض المهندسين والعمال الذين شاهدوا الوجود الإسرائيلي في هذه المنطقة.

بضع مئات من الأهالي المدنيين والعاملين بشركات البترول ومبنى المعمل يقعون تحت تهديد دبابات العدو ونيرانه داخل المباني. قال لي المهندس سعد الهاكع بعد ذلك، وقد كان في هذه المنطقة، إن تصرفات العدو منذ كان بالزيتيات اتسمت بالخوف والذعر، واشتدت علامات خوفه يوم الرابع والعشرين من أكتوبر، كان العدو يبدي في أول الأمر ثقة مزيفة بقدرته على احتلال المدينة، فاستخف بالأهالي يوم 22 أكتوبر وأذاع عليهم بيانات مضللة عن سيطرة قوات جيش الإسرائيلي على منطقة غرب القناة، وأن عملية احتلال مدينة السويس أمر مفروغ منه.

وفجأة تغير أسلوبهم مساء يوم 24 أكتوبر وحاولوا استمالة المدنيين، فقالوا إنهم لا يريدون الحرب وأنهم يبغون السلام، وأن جولدا مائير والرئيس المصري يزجون بشعوبهم في نيران الحرب، إلخ.

وعندما لم يستجب لهم المواطنون وأظهروا لهم احتقارا وسلبية، عادوا ثانية إلى أسلوب التهديد، وفي تأرجحهم بين الاستمالة والتهديد انكشفت حالتهم النفسية الفعلية، فضحوا أنفسهم ولم يتمكنوا من تخبئة أو مداراة خوفهم، ولاحظ العاملون أنه إذا تحرك أحدهم حركة عادية انتاب أفرادهم الاضطراب والخوف المفاجئ، كانوا يخشون حركة المواطنين العزل من السلاح، بينما هم يصوبون فوهات رشاشاتهم في صدور الأهالي.. تظهر على الحارس علامات الاضطراب ثم يأمر المصري بعدم التحرك، وقد عرف العاملون بذكائهم المصري الفطري أن شيئا قد حدث لجنود العدو في مدينة السويس، وأن الموقف أصبح ليس في صالحهم تماما، فأخذ بعضهم يقوم بحركات مقصودة مثل السعال أو وضع اليد فوق الفم عند التثاؤب.. فيهتز الحراس يمينا ويسارا، وقد أثار هذا الموقف الصعب سخرية الرجال فأخذوا يسرون عن أنفسهم في هذا الموقف الصعب بالمبالغة في الحركات والالتفات ويسلون أنفسهم بمشاهدة الحراس المضطربين.

واستدعى القائد الإسرائيلي في منطقة الزيتيات المهندس المسؤول عن جماعة الموظفين والعمال، وأخبره أن المياه لا تصل إلى الصنابير، وطلب منه الكشف عن المحابس وفتحها، وقد أدرك المهندس أن الفرصة متاحة للكشف عن موقف العدو وتخويفه، فأخبره أن صهاريج المياه فوق سطح المبنى وأنه (أي الضابط الإسرائيلي) يمكنه الصعود وفتح المحابس، ومرة أخرى كشف العدو عن موقفه إذ رفض ذلك وطلب من المهندس أن يصعد وحده إلى السطح لفتح محابس الماء.

ونفذ المهندس الذكي الأوامر، لكنه بدلا من أن يفتح محابس المياه التي تجعل الماء يتدفق إلى المبنى والمباني المجاورة أحكم إغلاقها، وقام بفتح المحابس التي تجعل مخزون المياه في الصهاريج يتدفق عائدا إلى خزانات المياه الموجودة لمدينة السويس، وكان لهذا التصرف العبقري بالغ الأثر بعد ذلك على حياة الناس والمدينة، كما سيأتي ذكره بعد.

وعاد الرجل إلى مكان الضابط يبلغه أن العملية معقدة، وأنه لم يتمكن من عمل شيء، وأنه (أي الضابط) يمكنه أن يصعد بنفسه إلى السطح لمعالجة المحابس، ولكن العدو الخائف آثر السلامة على العطش.

 

 10 دقائق و10 رجال:

جاء آخر أيام رمضان، الموافق 25 من أكتوبر.. ومنذ الصباح الباكر وقذائف الدبابات لم ينقطع سقوطها فوق المدينة، الحرائق تشتعل في المنازل.. والناس في الشوارع يعملون مثل خلية النحل.. منذ ليلة أمس أدرك المواطنون والجنود ألا فرق بين الأفرول وبين الجلباب.. عمل مشترك وعدو واحد، كل فرد يعلم دوره جيدا.. الجنود يندفعون إلى مداخل الطرق وإلى الأماكن التي يحتمل أن يتسرب منها العدو مرة ثانية.. القنابل اليدوية توزع على الناس.. قنابل المولوتوف تصنع في البيوت ومحلات الجزارة والبقالة.. آخرون ينتظرون المواد التموينية من مخازنها المحترقة إلى أماكن أخرى.

المزارعون في منطقة الجناين حيث يوجد العدو منذ يومين.. لا يهابون الموت ولا يخشون بأس العدو وأسلحته الفتاكة، تجاهلوا أفراده تماما وأخذوا على عواتقهم المسؤولية المناسبة.. هم يعلمون أن الجنود المصريين داخل المدينة يتعرضون لدباباتهم وهجماتهم القاتلة.. الكرم المصري في دمائهم والذكاء الفطري من سماهم.. ما عليهم إلا أن ينقلوا الأقفاص المملوءة بفاكهة الموسم.. البلح السويسي الشهير بأنواعه المتعددة ومذاقه الحلو.. والبرتقال الأخضر.. وفوق الحمير توضع أقفاص الفاكهة والخضر وما تصنعه وتحتفظ به الزوجات والأمهات في البيوت الريفية من خبز وجبن وزبد وعسل، يمتطي الفلاح حماره ويتحرك به بين دبابات العدو كان الأمر لا يعنيه والعدو داخل حصنه يشاهد هذه التحركات في مواقعها الزراعية فلا يستطيع أن يصنع شيئا.. فلا هو قادر على ترك دبابته ومنع هذه التحركات خشية من التعرض للمخاطر المخبوءة..

ولا هو عنده القدرة على التصرف العسكري بتصويب مدفعية الدبابات عليها، وأغلب الظن أنه لم يجد في قاموسه العسكري الإجراء المناسب، حينما يجد أمامه دواب تتحرك تحمل فلاحين كأنهم لا يهمهم أمر الحرب.. وتسير قوافل الدواب من مواقع العدو إلى المنطقة الزراعية إلى داخل المدينة حيث يضعون أقفاصهم أمام الجنود يأكلون منها وينصرفون إلى مواقعهم.

وفي داخل المسجد، وفي غرفة المكتب بالدور الثاني.. الساعة الحادية عشرة من صباح يوم 25 أكتوبر سنة 1973 الموافق 29 رمضان يوم وقفة عيد الفطر كنا عشرة رجال.. خمسة من الضباط وخمسة من المدنيين، مسؤول كبير في مدينة السويس يجلس معنا نتدارس جميعا الموقف من جوانبه المختلفة.. المناقشة غير منظمة ولكن الهدف واحد والمشكلة واضحة تمامًا.. كنا وقتها نشعر أن العدو قد رد على أعقابه بالأمس وخاب رجاؤه.. لم يفشل في احتلال المدينة فحسب، وإنما أهدرت كرامته وانخفضت معنويات قادة الثغرة والجيب ومن بداخل الشريط الزراعي ما بين الدفرسوار إلى ميناء الأدبية.. وكنا نتوقع أن يقوم العدو بعمل انتقامي سريع.. انتقام ليومين سوداوين في عصر إسرائيل، يوم عيد الغفران في 6 أكتوبر، والوقت المناسب للانتقام هو يوم عيد الفطر، وهو أقرب أعيادنا للعدو ملاءمة للانتقام. كنا عشرة رجال نذكر أحداث الأمس.. ونعبر عن مشاعرنا نحو العدو، الاستياء يغلب علينا لعلمنا أنه ما زال خارج المدينة.. نستعد للقائه أيضا اليوم، وسوف نضحي بأعز رجالنا بأيدينا ونيران رشاشاتنا لنمنع العدو من تحقيق مآربه.

ودق جرس التليفون:

ورد المسؤول الكبير.. ومرت فترة ثقيلة من الصمت وانتهت المكالمة، ونظر إلينا الرجل.. في عينه بريق.. تعبيرات وجهه تحمل معاني الجد والمسؤولية والرغبة.. كلنا أذان صاغية.. تشعر أن أمرا خطيرا يحدث الآن.. قال الرجل:

أخبرني.. بأن القائد الإسرائيلي في منطقة الزيتيات اتصل به تليفونيا وطلب منه رفع الراية البيضاء فوق مبنى المحافظة والحضور إلى استاد المدينة.. وأنذره أنه إن لم يفعل ذلك فإن سلاح الجو الإسرائيلي سيتولى المهمة، مهمة تدمير مدينة السويس بمن فيها بعد نصف ساعة.. وأمامنا الآن عشر دقائق لنقرر فيها الرد. عشرة رجال أمامهم عشر دقائق.

ولو أن هذه الجلسة كانت في مكان آخر، ومع أشخاص آخرين في هذه المدينة لكانت النتيجة واحدة، وذلك لأن الناس قد انصهروا وأصبحوا عقلا واحدا، وإرادة واحدة ويعملون في ذلك من أجل هدف واحد.

رأيت تعبيرات وجوه الجالسين وقد تحولت بفعل خطورة الموقف وعظمته إلى ملامح محددة واضحة ومتشابهة.. وأصبحنا جميعا متماثلين في التفكير والرؤية والمشاعر والانفعالات.. كما لو تحولنا إلى عين واحدة وأذن واحدة وعقل واحد.. إن أي علامة من علامات الضعف الإنساني تتكشف لنا في نفس اللحظة التي تنفلت فيها.. شعرت أن شبكة مواصلات تربط بين عقولنا جميعا وتوصل انفعالاتها بعضنا ببعض.. الضعف البشري مكشوف.. الخوف.. والقلق يصعب حجبهما.. والقوة البشرية والمزايا الإنسانية أيضا مكشوفة وظاهرة للجميع.

 الدقيقة العاشرة:

القضية الآن أصبحت واضحة

إما أن نوافق على تسليم المدينة.. والنجاة بأنفسنا من الهلاك، إما أن نوافق على تسليم المدينة وهذا القرار لن يكلف غير الموافقة على وقع العلم الأبيض فوق مبنى المحافظة.. والقماش متوافر.. ثم الموافقة على ذهاب مسؤول إلى الاستاد.. والمسافة لا تزيد على مائتي متر.

وإما رفض الاستسلام.. وهذا لن يكلفنا غير الموافقة على ضرب المدينة بالطيران.. لذلك لأنه ليس بأيدينا الأداة التي تمكنا من إحباط طائرات الفانتوم والسكاي هوك والميراج.

الموافقة على حالة الاستسلام تنقضي حركة لرفع العلم وتحرك المسؤول إلى الاستاد وتنفيذ تعليمات القائد الإسرائيلي.

والموافقة في حالة رفض طلبات العدو.. لا أكثر من تجاهله.. وعدم تنفيذ طلباته.. لا نحضر العلم العلم الأبيض، ولا نرفع فوق المحافظة شيئا أبيضا أو أحمر، ولا يذهب مسؤول إلى الاستاد، فقط نصمت وننتظر.. سمعت فيها سمعت آراء كثيرة.. لحظات مرت.. والحياة حلوة، والاختبار صعب والنتيجة في كلتا الحالتين مرة.. ومن الذي يستطيع أن يقاوم الطيران الإسرائيلي.. وبأن أداة ونحن في عزلة من القيادة وعن قواتنا الجوية.. ولا نعلم ما يدور في الغرب أو الشمال أو الجنوب.. الآراء مختلفة ولا تخلو من المنطق والعقل، ولكن الخوف من الاحتلال الإسرائيلي وعواقبه جاثم فوق الصدور، هل يمكن أن نستسلم لهؤلاء المختبئين ذوي الشعور الطويلة والملابس الداخلية الزاهية الألوان.. هؤلاء الذين كانوا بالأمس يرتعدون خوفا وهلعا من المواطنين السويسيين العزل من السلاح.. هل نستسلم لهم وينقضي الأمر.. مقابل أي شيء.. مقابل الحياة.. يا لها من حياة رخيصة عندئذ.. لا أن نستسلم مهما كان الأمر.

ودخل الرجل قائد المسجد.. وعرف القضية.. قرأ آيات من القرآن وقال بهدوء واطمئنان أن نخضع للعدو أبدا سنقاومه وليفعل ما يشاء.. وهب عشرة رجال وراءه، سنقاوم إلى آخر قطرة من دمائنا.. وتم الاختبار تلقائيا وانحنى التاريخ ليرسم اتجاها صحيحا مشرفا للوطنية المصرية.. ويتحدد مسار الارتقاء الحضاري للأمة العربية.. وأكرر مرة ثانية، لو كان هذا الاختيار في مكان آخر غير المسجد ومع أفراد آخرين غيرهم لكانت النتيجة واحدة.

لم يشترك المسؤول الكبير في المناقشة.. وإنما كانت عينه اللامعة تدور حول الجالسين.. ثم يسرح ببصره قليلا مفكرا حتى ظننت مخطئا أنه يفضل الاستسلام.

رفع الرجل سماعة التليفون في الدقيقة العاشرة، وأدار القرص وقال كلمتين بإرادة حاسمة: اخترنا المقاومة.

ونظر إلينا قائلا: (انتشروا في البيوت المجاورة.. لا تتكدسوا هكذا في مكان واحد).. من الواضح تماما أننا اخترنا الموت.. فالطيران الإسرائيلي لا يعرف المزاح، علينا أن نواجه مصيرنا بشجاعة.

ومرت الساعة الأولى.. ولم نشعر بالوقت.. ولم ينفذ العدو وعده، وساعة أخرى والعمل مستمر.. وكتبنا السر.. لم نتحدث عن إنذار العدو بقصف الطيران، ليس بقصد عدم إشاعة الخوف بين الناس.. ولكننا لم نجد متسعا من الوقت للكلام..

الظروف غير ملائمة.. الوقت مناسب للعمل فقط.. فشاهدنا الممرضات بالمستشفى يساعدون المرضى.. الأطباء يقومون بأعمال التمريض بجانب العمليات الجراحية العاجلة.. المستشفى ينقصها الدم والأوكسجين.. والجرحى مكدسون، الممرضات يتبرعن بدمائهن.

مدفعية الدبابات مستمرة في قصف المدينة.. وسط زحمة العمل لم أسمع صوتها وتسببت جلسة الصباح، ثم شعرت بالجوع، أكثر من ثلاثة أيام لا نأكل سوى ثمرة، أو كعكة صغيرة.. والصيام مستمر نهارا وليلا.. أجسامنا تحتاج إلى الغذاء رغم أن الشهية منعدمة، ولكن مشهد الموتى والدماء أنسانا الجوع.. ما أروع المصريين حينما يواجهون المحسن، الشهامة الريفية في دمائهم.. القادرون يشاركون الجرحى آلامهم.

وبين فترات صمت مدفعية الدبابات يهرع الناس في الشوارع وكلما أشعل العدو نارا هرعوا لإخمادها، وكلما أسقطت مدفعية الدبابة شهيدا هبوا لنقله ودفنه.

صلينا الفجر وأخذنا نردد الأدعية المألوفة قبل صلاة العيد.. العيد اليوم مختلف تماما، ويحاول الناس نسيان ما هم عليه.. فيهللون بعضهم البعض كل عام وأنتم بخير.. وإمعانا في تجاهل خطورة الموقف تم وضع منديل أمام المنبر وأخذ المصلون يدفعون زكاة العيد.

ودخل المسجد طفل لا يتجاوز العاشرة، إنه علاء ابن الجزار لقد كان بالأمس يعمل بالمستشفى ويساعد في نقل الجرحى، وكانت ملابسه ملوثة بدمائهم الطاهرة، رأيته أمس فأشفقت عليه وأكبرته، إنه اليوم يلبس حلة جديدة زاهية اللون يبتسم ويحيي المصلين.

وفجأة سمعنا صوت طائرة ألقت حمولتها فأحدثت دويا رهيبا.. ومع صوت الطائرة المفاجئ هرع الواعظ من مكانه إلى العتبة الأولى من سلم المنبر.. وسمعنا أقصر خطبة دينية فالوقت غير مناسب للخطيب.

ثم بدأ تنفيذ تهديد الأمس.. الساعة تقترب من السابعة صباحا.. أسراب الطائرات المعادية تقصف مدينة السويس بالقنابل.. الطيران يقوم بما لم تستطع أن قوم به الدبابات أول من أمس.. دوي الطائرات شديد وقريب والقنابل تدك المدينة دكا.. وكلما مرت طائرة سمعنا أصواتا هائلة تهز الأرض من تحت أقدامنا.. وبلغ من شدة الصوت وعنفه وقربه أن آذاننا كادت تصم مع سماع صفير وشعور برعشة بدنية قريبة الإحساس بالماس الكهربائي.

استمر قصف الطيران حتى قرب الظهر.. وألقيت فوق مدينة السويس مئات الأطنان من القنابل بأنواعها المختلفة.. ودكت أحياء بأكملها واشتعلت النيران في المدينة.

تهدمت المساكن المجاورة للمسجد.. وألقيت قنابل آلاف رطل في الشوارع ففجرت المياه من باطن الأرض.. وهناك على امتداد الشارع تهدم مسكن أسرة علاء وكانوا جميعًا في الدور الأسفل من المنزل فلم يصبهم أذى.. يا لهم من أبطال.. النساء والأطفال يجابهون قصف طيران العدو في أول العبد.. وأثناء قصف المدينة بالطيران رأيت الناس في المدينة يتحركون ويعملون ويساعدون..

رأيت عم محمد الرجل العجوز الفقير الذي يسترزق من بيع التمر والبرتقال ينقل أقفاص الفاكهة إلى المسجد وسط قصف الطيران لا يهاب شيئا ولا يتقاضى ثمنا لبضاعته.. كان أول من أمس يخرج جلبابه الأبيض الجديد الذي سيلبسه في العيد ويعطيه لأحد الجنود ليتسلل إلى موقع العدو ويستطلع أخباره.. عم محمد نموذج للمواطن المصري الشريف.. وقد أصابت طلقات العدو المكان الذي يأويه ويضع فيه بضاعته.

رأيت الحاج غندور الحلواني يطهو الأرز في محله معرضا نفسه من غير خوف لنيران العدو.. ويحمل الأواني بنفسه، حيث يقوم بتوزيعها على الجنود والأهالي الجائعين.. فالحياة يجب أن تستمر رغم استمرار التدمير.

وغاب الشيخ عبد الله واعظ المسجد قليلا ثم عاد ليخبرنا أن مسكنه قد تهدم تماما بفعل الطيران وأن النيران مشتعلة الآن في أثاث البيت.. يقول ذلك وهو يبتسم ويحمد الله.. ثم يؤذن لصلاة الظهر ويؤم المصلين.. وبعد الصلاة ومعه بعض الجنود يفتش في المساكن المجاورة، سألته: عم تبحث يا شيخ عبد الله؟ أخبرني أن العدو قد يرسل أفرادًا لمعرفة أخبارنا وعلينا أن نتأكد من ذلك بالتفتيش في المساكن المجاورة التي لم يلحقها الدمار بعد.. الشيخ يقوم بدور رجل الاستطلاع.

 

 نفذ العدو وعده

توقفت غارات الطائرات حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر، ومثلما فعلنا في اليومين السابقين بعد معارك الدبابات وسط شوارع المدينة، خرجنا اليوم أيضًا للبحث تحت الأنقاض عن المصابين والشهداء وجمعنا عددًا لا يزيد على العشرة، ما زالت الحرائق مشتعلة في البيوت منذ يومين، وقد أضيفت نيران أخرى أكثر عددًا واشتعالًا اليوم.. وفي الطرق شاهدنا القنابل الزمنية تنفجر وأخرى أسطوانية لم تنفجر بعد.. وغيرها كروية الشكل فارغة من حمولتها وقنابل البلي.. وأشكالا غريبة من مستحدثات التكنولوجيا الأمريكية.. وفوق الفوارغ أرقام إنجليزية وعلامات أمريكية توضح تاريخ الإنتاج في أواسط عام 1973، متى أنتجت ومتى شحنت؟ لا بد أن أمريكا قد أمدت إسرائيل بهذه الشحنات فور إنتاجها.. وربما شحنت من أمريكا داخل الطائرات فوق حاملاتها، ومنها لتسقط فوق مدينة السويس.. الشوارع مملوءة بالفجوات التي أحدثتها القنابل الثقيلة، والأرض مغطاة بشظايا القنابل بأحجام وأشكال مختلفة.. وأن شظية واحدة مهما كانت صغيرة قد تودي بحياة الإنسان في لحظة واحدة، وقد تحدث به عاهة مستديمة.. وقد تخترق مجموعة من أجهزة الجسم وتشل وظائفها.. آثار الدمار في كل مكان.. لا يوجد بيت واحد لم تصبه قذائف الدبابات أو الطيران.. كل بيت وكل مسكن بل كل حائط أخذ نصيبا من القذائف.

وهناك عند مدخل المدينة، في حي العوايد قنبلة زنة الألف رطل جوار شريط السكة الحديد، وحفرت فجوة ضخمة امتلأت بمياه معدنية جوفية ملوثة.. ونتج عنها تمزيق شريط السكة الحديد وانثناء الشريط الآخر وارتفاعه إلى أعلى حتى استقر طرفه الآخر داخل غرفة بالدور الثالث لأحد البيوت المجاورة.

لقد نفذ العدو وعده بالأمس متأخرا عن موعده ما يقرب من عشرين ساعة.. وماذا حدث؟ مزيد من المساكن قد هدمت.. واشتعلت الحرائق واستشهد عشرة مواطنين شرفاء.. ولم يحقق العدو هدفه، لم يتمكن من احتلال المدينة ولم يقل من الروح المعنوية للرجال، وفي صباح يوم 27/10 قمنا بتوزيع معلبات الطعام على المواطنين والعسكريين وتجمع الناس في طوابير.. وتم صرف ثلاثة معلبات لكل فرد مع تعليمات باستهلاكها في مدى عشرة أيام.

واستدعانا القائد العسكري، حيث اطلعنا على تقسيم مدينة السويس إلى قطاعات.. وتسلمنا المهمة الموكولة إلينا.. وكانت تتركز في القيام بمهام إعادة تنظيم المقاتلين بالمدينة: إيواؤهم، وبحث احتياجاتهم الضرورية، الموقف الراهن يقتضي القيام بواجبات مناسبة حسب الضرورات اللازمة للقوات.

قمنا بالبحث عن مكان لنتولى فيه تنفيذ المهام الجديدة، الناس يسيرون في الطرقات غير عابئين بالمخاطر المحيطة بهم.. منهم من يبحث عن مكان للإقامة ومن يحمل طعاما.. رأيت بعض المحلات التجارية المحطمة يحاول أصحابها إصلاحها وإعادتها كما كانت.. دبت الحياة بسرعة في المدينة بشكل مثير للدهشة حقًا.. لم أجد أحدا لا يعمل.. أفراد الكمائن يخرجون من مواقعهم بعد استبدال الأفراد ويبحثون عن الطعام.. الأهالي يحملون صواني وأواني طعام يقدمونه للجنود في الطرقات، وعاظ المساجد وشيوخها ينتقلون من بيت إلى بيت لمعرفة أحوال الأهالي ونتائج الغارات.. فالناس في المدينة معروفون بعضهم لبعض وتغيب أحدهم يعني إما أنه استشهد أو أنه مصاب تحت الأنقاض.. حركة دائبة في الشوارع وداخل المنازل المحيطة.

المواطنون السويسيون يتولون بأنفسهم فتح المساكن التي لم تصب بالطيران لإيواء الجنود والأهالي المشردين بعد قصف مساكنهم. محلات البقالة والمخابز والألبان وغيرها فتحت للزبائن.. من معه نقود يدفع ثمن ما يأخذه.. والذي لا يملك نقودا يأخذ حاجته ولا يدفع شيئا.. هكذا كانت الحياة تسير في مدينة السويس في هذه الأيام.. وجدنا البيت المناسب ليكون مقرا للعمل الجديد.

واجبنا ينصب في تنظيم الحياة العسكرية داخل المدينة.

ما زالت النيران مشتعلة في المساكن - والشوارع الجانبية سدتها أنقاض البيوت المهمة، المدينة تحولت إلى أكوام من الحجارة والأخشاب المحترقة، شعرت بالحزن والأسى، فمشهد الخرائب يسري في النفس الألم والكآبة، ولكن سرعان ما يتلاشى حزني وشعرت بنشوة غامرة حينما رأيت الصف الطويل من دبابات العدو وعرباته المدرعة وعربات إمداده وتموينه وقد نال منها الجنود والمواطنون، شفوا غليهم فيها - حرقوها ودمروها.. كتبوا أسماءهم وأسماء قراهم ومحافظاتهم بالطباشير حول جدرانها الحديدية المهشمة.. تعرت الدبابات ورأيت هياكل الأجسام البشرية الإسرائيلية محترقة فوق المقاعد، هكذا فعلوا بأنفسهم، ألحقوا بجيشهم العار والدمار.. جرهم قادتهم إلى حيث لا يشاءون.. أين أمهاتهم وزوجاتهم ومواطنوهم في إسرائيل؟

وفي اليوم التالي الموافق الأحد 28/10 خرجنا نبحث عن مبنى يصلح لإيواء الجنود وتنظيم حياتهم العسكرية، وجدنا أن أنسب مكان هو مدرسة الست آمنة الابتدائية.. مبنى مكون من ثلاثة طوابق به ما يقرب من خمس وعشرين غرفة خالية تماما من المقاعد والفراش ومهجورة منذ عام 1967 بها فناء يصلح لعمل لقاءات مع الجنود، الأرض خشبية، ولكن النوافذ محطمة، أعددنا المبنى لإيواء الجنود والواقع أن الشعور الذي كان سائدا صباح يوم 28/10 أن العدو سوف ينسحب خلال ساعات.. ربما كان ذلك أمل الناس انتشر في شكل شائعة أو أن وجود العدو غرب القناة أصبح لا مبرر له، وفي غير صالحهم.

ومن ناحية أخرى سمعنا في الأخبار أنه قد تمت الموافقة على عقد اجتماعات عسكرية بين الجيشين المصري والإسرائيلي لبحث الموضوعات المترتبة على قرارات وقف النيران، والمشاكل الناجمة عن خرق إسرائيل هذه القرارات، وأن المناقشة تتناول الجوانب العسكرية المتعلقة بتنفيذ قراري مجلس الأمن رقم 338، 339 الصادرة في 22، 23 أكتوبر، ولم تلفت أنظارنا الأخبار العسكرية أو السياسية كثيرا، فقد كنا نعيش في مطبخ العمليات والأحداث العسكرية، وكنا نعدها، والطباخ عادة يهمه أن يعرف رأي الناس في طعامه ولا يرغب في أكله وأصبح الذي يهمنا الآن أن يعرف الناس ما صنعناه - أن يرى الآخرون الدبابات المحطمة.

كان أفراد العدو في ذلك الوقت خارج مدينة السويس لا يستطيعون التحرك شبرا واحدا إلى الأمام خشية أن يلحق بهم مثلما لحق بزملائهم يوم 24/10 وكان موقفهم سيئا للغاية يعرضهم للهجمات الجنود المصريين. فلم يغادروا دباباتهم ليلا أو نهارا.. ولم يتمكنوا من إنشاء مواقع محصنة لهم أو ملاجئ يحتمون بها أو سواتر ترابية تقيهم رصاص المصريين.. والعدو الإسرائيلي لا يتحرك إلا من وراء حصون - اختباءات في أماكن بعيدة عن رؤية جنود المدينة.

وكانت قوات العدو عند مدخل مدينة السويس مرابطة بعيدة عن مباني عمارات المثلث، أما القوات في منطقة الجناين فقد اختبأوا في المزارع بعيدا عن المساكن الريفية، والقوات في منطقة الزيتيات تحتل مباني الشركات بعيدا عن مدينة السويس وقوات أخرى تختبئ في مباني عند مدخل الطريق الموصل إلى مبنى المحافظة.

خلاصة القول أنهم كانوا داخل دباباتهم لا يستطيعون التحرك لعمل التجهيزات الهندسية.. وكانوا يضيئون المدينة ليلا بالأنوار الكاشفة.. حتى وصلت مشاعلهم المضيئة فوق المعبر الذي يصل المدينة بالشرق عن طريق القناة خشية من تحرك قواتنا من الشرق إلى المدينة. أما جنودنا فكانوا يختلفون تماما عن جنود العدو في تصرفاتهم وتحركاتهم، فمنذ أن بدأت مقاومة القوات المعادية يوم 24 أكتوبر، أنشأ الجنود الكمائن حول مدينة السويس في أماكن كثيرة.. وكانوا يحفرون الأرض كما يفلحونها في الأراضي الزراعية دون أن يختبئوا من رشاشات العدو ونيران دباباته.. فلسفتهم في ذلك أن كل رصاصة مكتوب عليها اسم صاحبها، وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

وعلى مشارف المدينة وجد العدو نفسه شبه محاصر داخل دباباته وعرباته فإذا عاود اقتحام المدينة مرة أخرى تحطمت دباباته وهناك.. وإذا خرج من الدبابات لتجهيز هندسي أو حتى لقضاء حاجته تعرض للقناصة المصريين.. فكان كلها أراد التحرك تحت نيران مدفعيته ورشاشاته في الهواء، أو كيفما اتفق.. فتواجهه قواتنا المرابطة في مواقعها بسيل متدفق من النيران.

 

روزاليوسف العدد 2417  

تم نسخ الرابط