معركة الجندى الجريح محايد
فى اليوم الثامن من هذا الشهر نشرت وكالات الأنبا من جنيف، أن هيئة الصليب الأحمر الدولية قد نفت نفيا مطلقا، ما جاء فى إحدى الصحف الإسرائيلية من أن قوات الصليب الأحمر العاملة فى منطقة القنال بالشرق الأوسط قد ذكرت أن مائة أسير إسرائيلى قد عذبوا وقتلوا على أيدى القوات السورية بمرتفعات الجولان.
وبعدها بأربعة أيام، اتخذ المؤتمر الدولى الثانى والعشرون، لمنظمة الصليب الأحمر المنعقد فى طهران، قرارا باستنكار المعاملة الوحشية التي يعانى منها المدنيون فى الأراضى العربية التي تحتلها إسرائيل.. واتهم القرار إسرائيل بالعدوان السافر ومعاملة السكان العرب فى تلك المناطق معاملة همجية.. بعيدة كل البعد عن الالتزام باتفاقية جنيف الرابعة وغيرها من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية المدنيين أثناء الحرب ورعاية الأسر الممزقة بسبب الاحتلال ولم شملها، الشىء الذي تعوقه إسرائيل، وتضع أمامه العقبات.
وهذه الأيام تقوم قوات الصليب الأحمر الدولية باستلام الجرحى من الأسرى الإسرائيليين فى مصر، والمصريين فى إسرائيل، وتقوم بنقلهم عبر جسر جوى من طائراتها الخاصة.. جسر جوى فى خدمة الإنسان، هو بديل ختامى لذلك الجسر الجوى الرهيب الآخر الذي ظل ينقل الأسلحة وأدوات الدمار إلى أرض القتال طوال أيام المعارك وما بعدها أيضا.
ولعل ذلك الخبر الأخير الذي نشرته وكالات الأنباء من جنيف حول قرار سويسرا يدفع جميع تكاليف عمليات تبادل الجرحى الأسرى ونقلهم إلى بلادهم، والتي يقوم بها الصليب الأحمر قد دفعت البعض للتساؤل عن دور سويسرا فى هذا الموضوع.. وعن علاقتها بمنظمة الصليب الأحمر الذي يعتبر الآن مع شقيقه الهلال الأحمر.. أهم منظمة للإغاثة والإسعاف فى العالم.. إذ يبلغ عدد أعضائه فى العالم الآن أكبر من مائتى مليون عضو.
ولقد تشعب نشاط هذه المنظمة وتنوع حتى أصبح أمرها يلتبس على الكثيرين.. ولعل الأمر يتضح إذا ما حاولنا تتبع هذه المنظمة من بدايتها.
ولقد كانت البداية رجل اسمه:
هنرى دونان.
رجل من القرن التاسع عشر، من المؤكد أن ملايين كثيرة من رجال هذا القرن العشرين، لا يعرفونه.. على الرغم من أنه يتحتم عليهم أن يذكروه بالتقدير والعرفان، خلال الحروب، وكلما حطت على البشر فى أى مكان، كوارث الطبيعة أو مصائبها؟!
لقد ولد بمدينة جنيف فى سويسرا، وفى الثلاثين من عمره كان يشتغل بالأعمال التجارية.. وكان ممكنا أن يحيا ويموت كأى رجل أعمال آخر.. دون أن يحتفظ التاريخ باسمه فى دفتره العظيم المهيب، لولا أنه فى الرابع والعشرين من يونيو عام 1859، ساقته إحدى رحلاته التجارية إلى منطقة لومبارديا، حيث كانت تدور حرب قصيرة دامية بين الجيوش الفرنسية والجيوش النمساوية.. ولاحظ دونان أن الجنود الجرحى من الجيشين وقد بلغوا أربعين ألفا فى الساعات الأولى من القتال قد تركوا لأمرهم دون عناية أو رعاية وسط جحيم المعركة يلفظون الأنفاس الأخيرة وهم يئنون تحت وطأة جروحهم الشديدة، دونأن يهتم أو يجرؤ أحد على اقتحام الجحيم لإسعافهم.
وظلت مشاهد الألم المروعة التي شاهدها هذا الرجل فى تلك الأمسية فى معركة سولفرينو هذه، تطارده أعواما ثلاثة، دون أن يستطيع الفكاك منها، فعكف على تدوين هذه المشاهد فى كتاب أسماء «ذكرى سولفرينو» وصف فيه مأساة الجنود جرحى المعارك والظروف التعسة التي يتركون فيها لآلامهم حتى يلاقوا حتفهم نتيجة لعدم توافر الرعاية الطبية والإسعاف الفورى وتساءل فى نهاية كتابه عن السبل التي يمكن أن تتلافى بها البشرية تلك الفظائع!
وقد انتشر كتاب هنرى دونان واشتهر، وترك أثرا كبيرا فى نفوس الناس فى القرن التاسع عشر، فاجتمع حوله أربعة من مواطنيه السويسريين وشرعوا فى تأسيس اللجنة الدولية لإغاثة الجرحى.. التي عرفت فيما بعد باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر.. لدراسة تساؤلات هنرى دونان ومقترحاته.. ووضعها موضع التنفيذ.
وكنتيجة لمجهودات تلك اللجنة وأبحاثها، انعقد فى جنيف عام 1863 مؤتمر دولى يضم ممثلى ست عشرة دولة، وأوصى بإنشاء جمعية فى كل دولة، لمساعدة فى تقديم الخدمات الطبية وإعداد الممرضين والممرضات لإغاثة الجرحى فى زمن الحرب، وتشجيع المتطوعين لهذا الغرض وتدريبهم.
كانت حروب القرم وحروب إيطاليا والحروب الأهلية الأمريكية، مستعرة فى تلك الآونة.. وقد لاقت تلك الدعوة ارتياحا لدى الجيوش المتحاربة.
لقد أثارت اللجنة عدة أسئلة مهمة هى: لماذا لا يتم الاعتراف بحياد الجنود الجرحى ورجال الخدمات الطبية أثناء المعارك؟ .. لماذا تسرى عليهم صفة المتحاربين فى حين أنهم لا يشتركون فى القتال فعلا؟
لماذا لا يتم الاتفاق على حمايتهم؟ ولماذا لا يتم الاتفاق على تمييز وسائل نقل الجرحى ومنشآت إيوائهم وإسعافهم خلال المعارك؟ واحتضنت سويسرا ذلك المؤتمر بما يدعو إليه، وبتساؤلاته، وقدمت كل التسهيلات لعقد مؤتمر آخر فى أغسطس م ن العام التالى 1864 والذي تم فيه توقيع المعاهدة المعروفة باتفاقية جنيف الخاصة بتحسين حال الجرحى من الجيوش المتحاربة فى ميدان المعركة.. فكانت تلك المعاهدة حدثا مهما فى التاريخ الإنسانى.
فقد ظلت البشرية مقتنعة حتى ذلك الحين بأن القانون والحرب نقيضان، يصعب اجتماعهما، إلى أن جاءت تلك الدعوة تطالب بمحو هذا التعارض، وتطبيق القانون حتى فى ميادين الحرب وتنظيم سلوك المتحاربين.
وما لبث التاريخ أن أثبت صواب هذا الرأى، وأقرت دول العالم تلك المعاهدة ووافقت على بنودها التي تؤكد حياد المستشفيات العسكرية وعربات الإسعاف ورجال الخدمات الطبية فى ميادين المعارك الحربية، وتطالب المتحاربين بحمايتها جميعها وتسهيل نقل الجنود الجرحى والعناية بهم دون تمييز بين جنسياتهم.. على أن يتم ذلك تحت علم مميز، قاعدته بيضاء، يتوسطها صليب أحمر.
ولم يكن فى اتفاق الجميع على اختيار الصليب شعارا لهذا العلم، أى رمز دينى.. إنما كان مجرد تصميم عكسى للعلم السويسرى المكون من صليب أبيض على قاعدة حمراء تقديرا لجهود تلك الدولة فى هذا المجال الإنسانى.
وأثناء الحرب التركية الروسية عام 1877 أبلغت الحكومة العثمانية مجلس الاتحاد السويسرى المسؤول عن تنفيذ اتفاقية جنيف أنها قررت استعمال شارة الهلال الأحمر بدلا من شارة الصليب التي تثير المشاعر الدينية لقواتها.. وكان ذلك أيضا انعكاسا لعلم الدولة العثمانية المكون من هلال أبيض على قاعدة حمراء.
وجرى العرف بعد ذلك فى البلاد العربية والإسلامية على استخدام شارة الهلال الأحمر.
وفى عام 1923 قامت إيران من جانبها باختيار شعار جديد، هو الأسد والشمس الأحمرين.
وفى عام 1929، عندما أعيد النظر فى اتفاقيات جنيف، تم الاعتراف بهذه الشارات الثلاث: الصليب الأحمر والهلال الأحمر، والشمس والأسد الأحمرين.. كعلامات لا علاقة لها بالأديان تتيح لحامليها أن يزاولوا عملهم فى ميادين المعارك.. تحت النيران.. لتقديم العون للجرحى ولهيئات الخدمات الصحية بالجيوش.. ومتابعة مصير أسرى الحروب.. ثم تطورت خدماتها بعد ذلك فى الحرب السلم على السواء. لأن هدفها الأسمى فى النهاية، هو إنقاذ الإنسان.. من نفسه حين يحارب ومن كوارث الطبيعة بزلازلها وفيضاناتها حينما تقسو عليه.
صباح الخير العدد 933



