تظاهر بأنك بخير دائمًا مهما عصفت بك الحياة، فالكتمان أجمل بكثير من شفقة الآخرين عليك.. مقولة آمنت بها، ولا أعلم إذا كان بطل حكايتي يحذو حذوي أم لا، فهو يبدو كتومًا قليل الكلام، لا تشعر في حضرته إلا بالتواضع والطيبة في سريرته، شبه ابتسامة على وجهه، من الصعب قراءتها لمن لم يعايش الرجل اجتماعيًا. لم أعرفه بالقدر الذي يتيح لي فهم سريرته، لكنه شخصية وقصة نجاح لا يمكن تجاهلها رغم ما قيل وقال وتسريبات قد تكون من ملفات المخابرات، أو اجتهادات ممن لم يحب الرجل.
البليونير بطل قصتنا رجل منحه الله من المال ما يحلم به أي إنسان، أن ينعم ببيوت فارهة، تحفها المروج الخضراء، ويمتلك السيارات الفارهة، ومبالغ طائلة من المال يفعل بها ما يشاء وقتما يشاء لكن يكتشف أن سلبيات الثراء تفوق إيجابياته، فقد تثير الملايين الشهية لمزيد من الأموال، فيصبح الإدمان غير كاف، وتتلاشى معه الراحة وهي نعمة من النعم والرضا فإن رضيت.. هانت عليك الدنيا، وهنا بطل قصتنا أعطته الحياة المال، وعاش فى صراع مع النفس، بين إيمانه بدينه وتعاليمه، والغرق فى بحار الصفقات والتحالفات وعندما عرفته كان هو الرجل الستيني الذي طبعت الحياة بصماتِها على هيئته، فثنيات جلد جبهته الثابته؛ ربما تعبر عن مواقف نطقت فيها تعابير الوجه بالاستغراب والتعجب، وما بين حاجبيه ترى خطوط –ربما تدل على ما قابل من أحداث وظروف ومواقف قَطَّبَ فيها الوجه من الحزن والغم - أما على جانبى ثغره فهناك خطان رقيقان محفوران فى خديه يدلان على ما مر به من لحظات ابتسم فيها واستبشر وضحك قليلًا، وشعر رأسه الذي لم يسلم من أثر الحياة فيه، ببياض بعضه.
عرفته بمظهره ونظارته الطبية للقراءة والنظر بعدستها المتلونة بالضوء، مظهره بدون سيارته الروزرويس لا يوحي بالثراء رغم بذلته الكلاسكية التي تطل على كل مايعرفه بلونها الداكن كان الرجل هادئا، قليل الكلام، يعمل فى الظل ويصنع الخير شاهدته أول مرة فى كنيسة ما رمرقس بمنطقة كينجستون بلندن يقف أثناء مراسم الصلاة فى الصف الخلفي الأخير فى تواضع يصلي، وما أن تنتهي الصلاة، يصافح، ويُحَّيي من حوله ويختفي، قدمني له يومًا صديقى د. فؤاد مجلي أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية ويستمنستر بجامعة لندن، والمحاضر فى مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أكسفورد، وكان يتولي سكرتارية مجلس الكنيسة منذ إنشائها، قدمني مجلي لرشدي صبحي الذي كان يرأس مجلس الكنيسة، حياني الرجل بأدب شديد، وتعارفنا.
لم يكن أحد فى محيط العائلة القبطية المصرية فى إنجلترا يعرف أي شيء عن الرجل أو عمله، غير أنه إنسان غني وخير، وله ولد وبنت، كريم ودينا، وزوجته صوفي زكي مرقص، ويناديها الجميع بمدام "سوسو"، وكانت متزوجة من قبل ولها ابن هو شهير الزيات، الابن البكر الذي لم اتعرف عليه إلا بعد انتهاء غربتي الثانية وعودتي لمصر.
كان صبحي لطيفاً ومتواضعاً ولديه قدرة على أن يكون شخصاً اجتماعياً.. يعرف كيف يجمع الناس حوله ويكسب ودهم.
عرفت أن الرجل من صعيد مصر، درس القانون ليصبح محاميًا بأحد المصالح الحكومية، لكن طموحاته لم تأنس الوظيفة الحكومية، وقرر تجربة الحظ فى التجارة، اشترى، وباع وغزا القاهرة شأنه شأن العديد من أبناء الصعيد، تاجر فى كل شيء، ثم أنشأ شركة هابي تورز.. وكان شركاؤه فيها مكرم كمال عثمان ومحمد محمود نصير وأمين فخري عبد النور، وكمالك لشركة سياحة، كانت سفراتها كثيرة، ونجح فى إحدى سفرياته للندن على الحصول على صفقة من الأرز صدرها لمصر وباعها لوزارة التموين المصرية، ومن هنا بدأت علاقته بالحكومة المصرية، أيام الرئيس جمال عبد الناصر، ونجح كوسيط فى بيع أتوبيسات وسيارات مرسيدس للجيش المصري.
استقر صبحي فى لندن بعد عدة صفقات أجراها فى مصر خسر فيها كل ما ملك، أما شركة السياحة فقد تركها لشركائه، وفي عام 1999 تحولت الشركة المحدودة إلى شركة مساهمة برأسمال 150 مليون جنيه.. مدفوع منه 15 مليون جنيه.. وفي عام 2002 زاد رأس المال المدفوع إلى 20 مليون جنيه.. ورصد السجل التجاري للشركة أسماء المشاركين. كان المدير المسؤول عن الشركة هو أمين فخري عبد النور، أما أعضاء مجلس الإدارة فكانوا رشدي صبحي ومحمد سمير حلاوة وبطرس بطرس غالي.
في ذلك الوقت أيضا قويت الصلات بين محمد نصير ورشدي صبحي الذي ساعده فى تأسيس شركة "جيزة سيستم"، وشركة ألكان للتكنولوجيا، فى لندن كان صبحي يتصيد الصفقات لتوريد ما تحتاجه مصر فى جميع المجالات. لم أعرف عنه وقتها أكثر من هذا. ولم تتخط علاقتي به أكثر من السلام والتحية، إلى أن التقيت به مصادفة بالطريق بمنطقة البيكادلي، لأعلم بأن مكتبه فى البيكادلي لا يبعد إلا خطوات من مكتبى فى سان جيمز، فدعاني لفنجان شاي فى مكتبه، مكتب من غرفتين يقتسمه مع سكرتيرة إنجليزية، مكتب بسيط كبساطته، على الطراز الإنجليزي، وجدت فيه "رجلا لا يسود ولا يُساد" حسب وصف جبران خليل جبران عن الرجل العظيم، سألني عن عملي ونشاطي الإبداعي الإعلامي فى اللحظة التي أولج باب مكتبه ابنه كريم، الذي آثار حوارنا اهتمامه وشارك فى الحديث، فالشاب الذي أنهى دراسته حينها فى الثمانينيات، مهتم بالإعلام المسموع والموسيقى، وذهب إلى مصر مرارًا تعرف فيها على المنتج الموسيقى محسن جابر طالبًا التعاون معه فى إصدار ألبومات موسيقية لمطربين جدد فى لندن، وأخبرني مفتخرًا بمعرفته بملك الإعلان طارق نور الرجل الأشهر فى هذا المجال، الذي اتفق معه على أن يكون موقع الفيللا التي يسكنها بمنطقة سان چيمس وود، مسرحًا لمشاهد تصوير إعلان مشروب غازي "تمتع بسر شويبس" التي يملك توكيلها فى مصر صديق والده رجل الأعمال المصري سامي سعد، ويخرجها طارق نور، ببطولة الممثل حسن عابدين، فى أنجح الحملات الإعلانية لشركة المشروبات الغازية، وكان عابدين ثاني فنان يقدم إعلانات بعد الفنان عمر الشريف، تقاضى وقتها نجم المسرح خمسة آلاف جنيه نظير الإعلان، ولكنه أصيب باكتئاب بعد أن هاجمه النقاد والصحفيون.
عندما تسأل عن الرجل تسمع الكثير من القصص والحواديت والنوادر، لعل أطرفها عندما زار الرئيس السادات والسيدة حرمه لندن في زيارة رسمية، اجتهد رشدي صبحي فى محاولة معرفة لون الزي الذي ستردتيه جيهان السادات عند لقائها مع ملكة إنجلترا، جند كل من يعرفه فى السفارة المصرية بلندن، وكذلك من يعرف من أعضاء القصر الجمهوري المرافقين للرئيس، ومساعدي السيدة الأمل، وقيل وقتها إن صبحي أهدى زوجة الرئيس سيارة مرسيدس بنفس لون الفستان.
ولحكاية البليونير الصامت بقية..



