الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

بعد اعتذار مهني يحترم الرأي العام، جاء من الهيئة القومية للأنفاق، بشأن إعلان الفنان التشكيلي الروسي جورجي كوراسوف عن تضرره من تطابق بين لوحات له مثبتة في قسم الأصول المباعة لأعماله التشكيلية منذ يوليو الماضي، وبين لوحات تم استخدامها من المصممة المصرية غادة والي في مترو الأنفاق بمحطة كلية البنات بالخط الثالث.

 

أثار اهتمامي ما قاله الوكيل القانوني للفنان الروسي أحمد حسن العطار حول الواقعة، إذ صرح بأن نيابة الشؤون المالية والاقتصادية في التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة، قد أحالت غادة والي مصممة الجرافيك، المتهمة باقتباس أعمال الفنان الروسي كوراسوف دون إذنه، وعرضها باسمها دون علم صاحبها الأصلي.

وهى القضية المقيدة برقم 3117 لسنة 2023 جنح مالية، إذ تم تحديد جلسة لمحاكمة "والي" في 8 يناير 2024.

وبعيداً عن القيد والوصف الذي صدر عن النيابة العامة بتوصيف القضية جنح مالية، دار بعقلي ضرورة مناقشة الموضوع وفقاً للعرف والتقاليد الفنية المتعارف عليها وضرورة رؤيته في إطار قانون الملكية الفكرية.

ومصدر تلك الرغبة هي أقوال الوكيل القانوني السابق الإشارة لها فيما يتعلق بالاقتباس كمصطلح نقدي، ذلك أن الاقتباس في قانون الملكية الفكرية وفي التقاليد الإبداعية ليس جريمة طالما تم إثبات الاقتباس والإعلان عنه واعتباره مصدراً أولياً يمكن الانطلاق منه لتصميم جديد مبتكر.

ولذلك لا يمكن اقتران الاقتباس الفني بالسرقة والانتحال. ولذلك فضبط المصطلح في تقديري هو انتحال واستخدام واستيلاء على أعمال الفنان الروسي ونقلها كما هي دون اقتباس أو تطوير أو استلهام، وإنكار مصدرها الأصلي وقيام الفنانة غادة والي بنسبة تلك الأعمال لنفسها مما حقق لها مكاسب مالية ومعنوية من وراء ذلك الاستيلاء.

جدير بالذكر أن ما سبق ليس اتهاماً للمصممة المصرية، وليس حكماً نقدياً مسبقاً، فالأمر يحتاج لخبراء الفنون التشكيلية لإبداء الرأي. وما يبدو دفاعاً هو في جوهر الأمر دفاع عن المصطلح، وأقصد به مصطلح الاقتباس. والاقتباس بعيداً عن القضية المثارة أمام الرأي العام، والمحالة للمحاكمة هو أمر مشروع بشرط الإعلان عنه وذكر صاحب العمل الإبداعي الأصلي وحدود ودائرة الاقتباس. وتعيدنا تلك المسألة إلى ضرورة التذكير والتدقيق والفهم العملي النقدي لمسألة الاقتباس وحدوده. خاصة وأن هذا الأمر قد صار متكرراً في عدد من الفنون، ومنها الدراما التليفزيونية، وأحدثها وأشهرها دراما نجيب زاهي زركش والتي كانت من بطولة يحيي الفخراني إبريل 2021، وهى المأخوذة كحبكة أساسية من مسرحية الكاتب الإيطالي إدواردو دي فيليبو، والتي سبق وأن قدمها الفخراني للمسرح القومي عام 1998، باسم جوازه طلياني، هذا وقد سبق تقديمها أيضاً في فيلم شهير من بطولة صوفيا لورين بعنوان الزواج على الطريقة الإيطالية، وقد كتب السيناريو والحوار للفيلم الشهير المؤلف المسرحي ذاته، وقد تم طرح الفيلم عام 1964. إلا أن المعالجة الدرامية للمؤلف عبد الرحيم كمال للحبكة جاءت مبتكرة، وفي إطار تمصير تام، ورؤية معاصرة بل وتم في إطار التمصير ما هو اقتباساً يستخدم الأصل ويستند لحبكته الدرامية ولكن مع إضافات وابتكار جديد ولذلك وبكل بساطة تم إضافة اسم المسرحية الأصلية التي تم اقتباسها ليصبح زركس تأليفاً عن النص الأصلي، وهكذا تحقق شرط الاقتباس المهني والإبداعي والقانوني، ألا وهو الإشارة للمصدر الأصلي والإعلان عنه مع وجود إضافات مبتكرة في العمل الإبداعي الجديد. وقد تم ذلك الضبط والتصحيح بسلطة المتلقي المصري المستنير ومر الأمر بهدوء. إلا أن الجمهور كان قد استعاد القاعدة المهنية والإبداعية والقانونية في باب الاقتباس. مما يجدر معه ضرورة تذكير المبدعين في كل المجالات لعدم السهو مجدداً في ذكر المصادر الأصلية المقتبسة والإعلان عنها بوضوح. هذا ويجدر التذكير بفلسفة قانون الملكية الفكرية، والتي تعترف وتقر بحرية المبدع في التأثر بالأفكار والمدارس الفنية والطرق الإبداعية والتراث الإنساني كله دون أخذها كاملة كما هي. ذلك أن الفكر والإبداع الإنساني لا يبدأ من فراغ بل يتأثر ببعضه البعض بالتأكيد. وبالتأكيد فالحديث عن الإبداع الحقيقي يختلف تماماً عن الانتحال والسرقة الفنية، ولكن يجب الإشارة له حماية لعملية الإبداع ذاتها في عالم معاصر. ولذلك فدعنا نتفهم منظور النقد المعاصر للعمليات الإبداعية الشرعية القائمة على التأثر، آخذين في الاعتبار التراث الإنساني التاريخي للإبداع والذي يحضر في مخيلة المبدع المعاصر، إذ يمكن فهم الإبداع الفني الجديد في عالمنا الآن على أنه عملية تبدلة لمجموعة من الأعمال الإبداعية المتعددة، وهو عملية تقوم على الاقتناص، ففي دائرة الإبداع الجديد المتفرد، تتقاطع مفردات فنية من قطع إبداعية سابقة، فيبطل بعضها البعض الآخر. وفي هذا المعني يكون المشاهد أو المتلقي هو الحكم الأول كلما كان عارفاً وملماً بالأعمال الإبداعية السابقة.  وكلما كان الجمهور صاحب إطاراً مرجعياً ثرياً كلما كان جمهوراً حيوياً، وبهذا المعنى لا يمكن أن يكون الإطار الإبداعي نقياً تماماً. وفي هذا الإطار يتم استبعاد الإبداع السطحي التقليدي القائم في الفنون التشكيلية على رسم الطبيعة الصامتة دون إضافات جديدة، واستعراض مهارات التقليد للواقع، أو الأعمال الموسيقية التي تستند إلى إيقاع واحد متكرر مثل تلك الموجة مما يطلق عليها موجه أغنيات المهرجانات، وفي المسرح والسينما والدراما التلفزيونية يتم أيضاً استبعاد الأعمال الهزلية البحتة والأعمال البوليسية المحكمة وما إلى ذلك من أعمال من الدرجة الدنيا من الإبداع. ولذلك فإن حرية الإبداع في التأثر والتأثير تنبع من كون الإبداع جديداً ومبتكراً بالأساس، وفي هذا الباب يمكن تأمل الفراغ النغمي في الموسيقى والغناء، والفراغ المتروك لإدراك المتلقي في الفنون التشكيلية والدرامية المتعددة. وفي هذا الصدد يبتكر التفكير النقدي المعاصر مصطلحاً مهماً ألا وهو التناص intertextual، وهو ما يتيح البدء بقطع أصلية والبناء عليها مثل ما كان يفعل الشعراء الكبار بالبدء بأبيات شهيرة للمتنبي أو عنترة على سبيل المثال، ومعارضتها أو استخدامها كمنطلق لخيال وابتكار إبداعي جديد.  إذاً هذا هو الاقتباس المشروع عندما يكون المقتبس منه أشهر من أن يتم ذكره، أو مع ضرورة ذكر المصدر الأصلي في حالة كونه مصدراً ليس من الأصول المشهورة جداً والأخذ بالحيطة هنا ضرورة، فذكر المصدر الأصلي في كل الأحوال هو الفعل الإبداعي الشرعي والأمين والصحيح. وكثيراً ما يتعدد نوع الاقتباس فمنه ما هو حرفي كما هو في الأصل تماماً، وما هو بنائي أو هيكلي، أو على مستوى الصورة المجسدة. إنها حرية الإبداع الرحبة الرائعة إذن، لكنها حرية خطرة جداً والحدود فيها تكاد لا يمكن تمييزها بين الاقتباس المشروع وبين الانتحال. لا إبداع بلا حرية ولا إبداع بدون تأثير وتأثر، ولكن كل ما يؤثر في المبدع يجب إبراز مصدره الأصلي وذكره حتى يبتعد الفنان عن الشبهات، فالاقتباس المشروع شرطه الإعلان عنه حفاظاً على حق الملكية الفكرية الأصلي، مضافاً إليه شرط تطوير الاقتباس وإنتاج عمل إبداعي جديد لا يتطابق مع الأصل.

تم نسخ الرابط