د. إيمان ضاهر تكتب: إحسان عبد القدوس "وإمبراطورية ميم"
روايات خالدة، جسد الكمان الذي يصدر
الأصوات، روح القارئ.
الطيب والجميل لا ينسى أبدا، الروائي الكبير إحسان عبد القدوس، ولماذا نحبه؟ نحب هذه الموهبة العبقرية في تأليف اللحظات النادرة والثمينة كالعطور الخالدة التي لا تمحى إنه العمل الذي يسقي الموهبة الروائية لتنمو وتكبر دون أن يمحوها الزمن.
ماذا تعكس هذه الروايات العظيمة؟ قصص وروايات مرايا تنتقل بإبداع قلم الإنسان على الطريق السريع، تارة تعكس لعينيك زرقة السماء وتارة تعكس مستنقع الطريق.
وأليس هذا الروائي الأصيل من الواقعيين الموهوبين الذي يوجب أن نطلق عليهم اسم المتخيلين؟ الخيال في صميم الروايات يجسد بداية الخلق، عين الروح، يتخيل ما يرغب به ليخلق ما يريد، خياله الخصب ساعده على تحفيز تقدم وتطور رواياته. من" الوسادة الخالية "حتى "لا أنام" "دمي ودموعي وابتسامتي"، "الرصاصة لا تزال في جيبي".. وغيرها من الجواهر الفنية. أكثر من ستمئة عمل أدبي وروائي ومسرحي تحولت بأكملها إلى أفلام ومسلسلات ومسرح تحدت الزمن بإبداعها وواقعيتها الخالدة.
بعد مرور نحو نصف قرن على الفيلم الأسطوري "إمبراطورية ميم"، من بطولة الكبار أحمد مظهر وفاتن حمامة، تعود الدراما المصرية الأصيلة بالتركيز على روح القصة الأصلية للكاتب الأديب إحسان عبد القدوس، من خلال عمل رائع يلعب دور البطولة المتميز خالد النبوي بمعية تلقائية حلا شيحا، والقديرة نشوى مصطفى وباقة رائعة من الممثلين الأطفال.
"إمبراطورية ميم"، قصة رسم ملامحها الروائي الكبير من مجموعة قصصية "بنت السلطان" حول رجل أب لستة أولاد لكنه يصدم بتمردهم لعمل انتخابات لاختيار من له سلطة إصدار الأحكام والتعليمات.. من هنا ولادة جديدة ومتميزة لقصة الأديب الراحل، بسيناريو مميز لمحمد سليمان عبد الملك، وإخراج محمد سلامة.
إنها الدراما الرائعة ولا يمكن تحقيق أي شيء عظيم بدون أدباء عظماء وهؤلاء أرادوا أن يوهبوا المجتمع ثمارا أدبية عاقلة وحكيمة لنشر الوعي المجتمعي حول مواضيع تشغلنا في كل العصور، حب الأسرة ودور الأب، عاطفة التعلق بالبيت، الطموح والفساد والتمرد والإحساس بالحب وغيرها من المواضيع التي تتناغم مع حاضرنا الواقعي وتحيي قلوبنا بتفوقها الأدبي، حيث البساطة وحدها تروي اللحظات الرائعة في لقاءات مشوقة وغير متوقعة. إنها قمة الانسانية في طرح المعالجة الدرامية بمقياس اعتبار الأسرة حجر الأساس في الحياة المشتاقة إلى نفسها. أيها القراء الحساسون إمبراطورية ميم، دراما سجل للقلب البشري، الصدى الرائع للعواطف الصادقة لشخصيات قوية يمكن الارتباط والتعلق بها، إبداع في الرؤية الفنية التي تقع داخل العالم المرئي وليس خارجه بما فيه من خيال وتفكير وعمل إبداعي من الإثارة والتشويق، في الإنتاج والتصوير والسيناريو والإخراج الرائعين.
مواضيع عدة تأسرنا بعنوانها الإنساني وأهمها أولا: دور الأب في الأسرة دور الأب، مختار الأب الحاضر والمحب والملتزم في رفاهية وسعادة ومستقبل أبنائه في كل مراحل حياتهم، الأب الصديق الهادئ والحنون، مختار (خالد النبوي الرائع)، أما ثانية لأولاده ولأخته التي ترعى أولاده. إنه ليس صدى للسلطة إنما القانون والحضور المعنوي والجسدي في دمج الحياة الأسرية. يمارس قانونا ديناميكيا بنوتة الإصغاء بكل جوارحه والصبر لأقصى الحدود، بالرغم من التجاوزات والتحديات من الأولاد مثال على ذلك الابن الأكبر المتمرد العنيد والانتخابات في البيت ومن يصدر الأوامر والابنة الكبيرة وطموحها العالي أو المتوسطة وعنفها غير المقبول .
ومختار هائم بحب أولاده وعفوية هذا الحنان يشعر به تلقائيا المتلقي فيذوب إحساسا وانجذابا بشخصية الأب الباحث عن تأكيد الذات لأبنائه داخل حضن الأسرة وخارجها. دور عاطفي قوي، يجسد فوائد الأبوة المضمونة والمرجعية الأولى. علاقة بنوة جيلية تتضمن البناء النفسي، حيث كل واحد من الأبناء يتمتع باستقلالية معينة فب تكوين نضجه النفسي والتربوي.
يعمل على توجيه ميولهم التلقائية دون فرض الصرامة بل طريق العقل والعاطفة الملموسة.
وأليس هو المشرف في التخفيف من التصرف العدواني وإنزال العقاب اللازم في الموقف العنيف لابنته عندما حطمت وكسرت محل صديقته مي.
.وأخيرا.. النضج والإنسانية للدور القيادي للأب سواء مع الفتاة أو الصبي أو الأخت وباقي الأصدقاء. ولا ننسى لفتة الأولاد لأبيهم وخوفهم أن يقع في الغرام، لأن حب الأب هو حب صعب لا يشبع بالعفوية بل يجب أن يكون أكثر عمقا من أي حب.
ثانيا: البيت، ركننا في العالم البيت كعتبة تسكن الذاكرة على حدود النسيان، وكيف يتخلى مختار عن بيته وهو صندوق ذكرياته، إنه كونه الروحي والحميمي الذي يضم أسرته وأحلام اليقظة مع زوجته الراحلة؟ ألا يربطه بهذا البيت، الذي يريد هدمه أهل الفساد، علاقة حميمة لا يمكن الحياة دونها علاقة حميمة، سواء في العناصر الخارجية أو الداخلية؟ بيت مختار مع أبنائه وكأنه هدية في عمقه آليات الانفتاح وتفسير العملية الزمنية لوجوده ودعم قلب ذكرياته السعيدة والحزينة، الخفيفة والثقيلة. أليس هو الوطن الصغير الذي لا يباع ولا يستبدل ولا يسمح للفاسدين والمؤتمرين الدوس على كرامته واغتصابه بالقوة؟
ماذا يجسد هذا المأوى الغالي بالنسبة له؟ شحنة من العواطف الهائلة تجعله يرفض بيعه أو التخلي عن أرض "المعادي" التي لا تستبدل.
هذا البيت، أفق التناهي والولادة والموت، هنا في هذا البيت ولد أطفاله وتوفيت زوجته الحبببة والتي ما زالت حاضرة في كل ركن من أركان البيت العتيد. هذا البيت يمنحه الحاضر الثابت الذي لن يرحل، فكرة الموطن، انعكاس الماضي وحلم المستقبل. ألا يستعيد روح الحياة في منزله وأولاده وأولاده يكبرون في ربوعه الفائضة والدافئة؟
لطالما كان البيت عنصرا أساسيا في روايات الكاتب الراحل إحسان عبد القدوس، الضحك الصادق شعاع من أشعة الشمس في المنزل. فلن بكون منزل مختار مرساة بل صاريا ليس الساتر اللامع الذي يغطي الجرح بل جفنه الذي يحمي العتبة.
من جيل إلى جيل، أليست معركة حضارية بين الأجيال؟ ماذا ننقل من جيل إلى جيل؟ كيف يمكن للقصة والصمت أن يعبروا العصور؟ ماذا نرث؟ وإذا رفض الشباب اليوم أجزاء رئيسية من تراثهم وتقاليدهم وأعراف المجتمع لإعمار الأسرة والعمل على وعيها وتطورها؟ فهل نتحدث في إمبراطورية ميم عن هذا الصراع؟ والجواب نعم، فالانتخابات الحاصلة في عائلة مختار تصور هذا التمرد للولد الأكبر وتاثيره السلبي على إخوته علما أن مختار يجسد هدف الأب الديمقراطي والمشبع بروح التفاهم والحرية.
مع أولاده.. يحاول الأب أن يرسم الحدود ليعالج الصراعات بشكل بناء وهادف لتجنب التصعيد.. هل سيتغلب على الانقسامات؟ يقول رومان غاري: "لقد سئمنا اللون الأبيض والأسود. الرمادي هو الشيء الوحيد البشري"، ويبقى تحديد هذه "الظلال الخمسين من اللون الرمادي"، والتي ستجعل من الممكن مراعاة التنوع البشري بأكمله والتوفيق بين الأجيال.. وأخيرا، الحب ليس أن ننظر لبعضنا البعض، بل أن ننظر معا في نفس الاتجاه. وما علاج الحب للروائي الكبير؟ هناك علاج واحد لصانع الحب هو أن نحب أكثر.. الحياة نوم والحب حلم وسوف نعيش إن أحببنا.. شعاع الشمس العذبة الذي نسميه الحنان. هل سيحب مختار مرة أخرى، أليس كل حب جديد، ربيع جديد؟ جسد رحيل ميسون الزوجة الحبيبة بداية طريق جديد فريد للجميع.. بالنسبة للبعض، سيكون لمختار الأب هو الطريق إلى العزوبة الدائمة، حيث سيكون قادرا على تكريس نفسه بالكامل للأطفال، لمشاريع جديدة، للاستماع إلى احتياجاتهم الحقيقية، لمسار أكثر تألمًا أو تكريسًا للآخرين، للعثور على الاسترضاء يوما بعد يوم في العلاقة الداخلية مع الكائن المفقود.. ولكن الحياة لن تتوقف . ثم نشعر بالانزعاج مما يحدث داخل أنفسنا: يبدو أن مختار يعيش بدهشة شعور الحب بينما يستمر في نفس الوقت بألم الخسارة.. هل سيغرم بعد وفاة شريكة حياته، إن الشعور بالذنب يمثل عقبة رئيسية: خيانة الشخص المتوفى، أو حتى خداعه.. على الرغم من مرور السنين، ما زال يشعر بأنه ملزم بعقد الولاء، على الرغم من وفاة ميسون.. لديه انطباع بالسعادة المسروقة وغير المشروعة تقريبًا.
ومع ذلك، فإن الحزن على شريكة حياته والحب مرة أخرى ليسا متعارضين.. عملية الحزن تظل مستمرة، حتى لو انخرطنا في عملية محبة.. كلاهما يتعايش داخل الذات على مستويات مختلفة.. التحدي لديه إيجاد توازن عادل بين عمل الحداد الذي يجب أن يستمر وبناء رباط الحب الجديد.. وسيكون من الخطأ الاعتقاد بأن أحدهما سيلغي الآخر.. وكلما اهتممنا بحزننا دون أن يغزو العلاقة الجديدة، كلما وجد مكانه الصحيح. ونهاية، الحياة لا تكفي ونحن سنبقى بحاجة ماسة إلى شمس الروايات موطن الحريات التي يقصها علينا الطيب والجميل الروائي العظيم إحسان عبد القدوس، انه يعيش في وجداننا ، احلامنا، أفلامنا، حكاياتنا. شحنة من العواطف الهائلة تجسدها إمبراطورية قصصه، إنها الذاكرة البعيدة والقريبة، والديمومة الحية. همسات الزمن القديم والحاضر الأمين لرواية تتحدث عن نفسها قائلة أين أنا؟ ويرد عليها الكاتب ذات المجد الهائل: "أنت في مكان مقدس من مصر أمي التي أدين لها بنفسي وإلهامي وقلمي وأدبي، أرض الولاء لحضارة مصقولة بالسقوف العالية من حكم الفن والانفتاح في العمل العنيد والأحلام المجنونة والفتوحات الحكيمة للدراما الخالدة.. أنت في امبراطورية ميم.
أستاذة متخصصة في الأدب الفرنسي واللغات والفن الدرامي، من جامعات السوربون في باريس



