ينقلنا تشومسكي في الجزء الثالث من كتابه للحديث عن الشرق الأوسط والصراع المستمر؛ ويتعجب من الذين يدعون أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة بالشرق الأوسط، ويرد على ذلك بأنه تفكير معيب، يتجاهل تفاصيل العنصرية الموجهة إلى نصف السكان داخل حدود دولة الاحتلال، حيث يعاني العرب وغيرهم من اضطهاد دائم وطبقات عديدة من المواطنة، لا تشبه إلا سجن كبير.
وفي العالم العربي، يقول المؤرخ، حدثت أول انتخابات ديمقراطية في فلسطين عام 2006، والتي تمت مراقبتها والاعتراف بها كانتخابات عادلة وحرة، لكنها جاءت بما لا تشتهي الولايات المتحدة، فبدأت فورًا في تنظيم الانقلاب العسكري، وزادت إسرائيل من نشاطها الإرهابي ضد غزة فضلًا عن حصارها الاقتصادي، وانساق الاتحاد الأوروبي، لعاره، وراءها. تصبح الانتخابات عادلة ومقبولة فقط إذا فاز مرشحك. هكذا يفكر الأقوياء، ولتسقط كل النتائج الأخرى.. تحدث كذلك عن لبنان التي لديها انتخابات شبه حرة بنظام المحاصصة الطائفية الذي تركه الاستعمار الفرنسي، والذي، في الحقيقة، يعطل نمو ديمقراطية حقيقية.. ثم هناك ملامح محدودة لديمقراطيات مثل الكويت. في الغالب تهيمن الديكتاتوريات على أنظمة الحكم العربية.
لا يظن تشومسكي أن الربيع العربي قد مات، بل يعتقد أنه كان سيغير الوضع كثيرًا، وأن ما حدث دفعه إلى التقهقر، ورغم ذلك تظل القوى التي شكلته موجودة، وستنهض مرة أخرى في عملية طويلة. يحيل نعوم تشومسكي إلى جلبير الأشقر الباحث اللبناني في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن، والذي قال مبكرًا أثناء الربيع العربي أنها خطوة مهمة لكنها فقط الخطوة الأولى في سيرورة ممتدة لتحطيم المؤسسلات الاستبدادية وثقافة الاستعباد. يذكرنا كذلك بما حدث في مصر من تظاهرات محدودة منذ أشهر كدليل على الإمكانية، والنشاط العمالي كدليل آخر.
وحتى في الديكتاتوريات العائلية يمكننا أن نرى ذلك، عندما يدفع الشباب السعودي أثمان غالية للمضي نحو إنهاء أسوأ التعاليم المفروضة عليهم من القيادة الدينية الوهابية، ويحرزون بعض التقدم، وهي عملية يمكن أن تستمر.
ويكمل تشومسكي رؤيته للوضع في فلسطين المحتلة، والعلاقة بين دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني، فيما اسماه تشومسكي "صفقة قرن كوشنر-نتنياهو"، إذ إن نتنياهو هو من حركها في البيت الأبيض لتبدو كأنها فكرة الولايات المتحدة. لكنه يخبرنا أن رد الفعل المناسب هو الضحك بعد إلقائه بعيدًا، فهو لا يستحق حتى ذلك، ويتعجب لماذا يعطيها الناس أي اهتمام. ثم يعلق قائلًأ: إن أردت أن تعرف ما هي صفقة القرن في الواقع انظر إلى الجناح اليميني للخارجية الإسرائيلية. وتابع: إن واقع السياسة الأمريكية مؤيد لإسرائيل على أي حال، الجديد أن ترامب أثناء رئاسته للولايات المتحدة، كشف لنا سياستهم بقبحها وساديتها، وهو ما يليق بشخصيته ونظرته للعالم، والآن هي مكشوفة للجميع. أما دولة الاحتلال، فسياستها هي الأكثر وضوحًا، وهي خلق إسرائيل العظمى بضم المزيد من الأراضِ المحتلة وإقامة المستوطنات والبنى التحتية في المناطق ذات الأهمية. أما المناطق الأخرى فتتركها لملايين الفلسطينيين، حيث يُستبعد العرب من “الدولة اليهودية الديمقراطية” فلا تزيد أعدادهم داخل الحدود.
ويعيش ما يتبقى من الشعب الفلسطيني في مئات من المناطق الصغيرة الغير صالحة للحياة، حيث ينتزع الفلاحين من أراضيهم وتتوزع الكمائن في كل مكان، فتصبح الحياة مستحيلة، ويصبح الأمل الوحيد هو رحيل الفلسطينيين بشكل ما في أحد الأيام. كانت هذه ومازالت سياسة كل الحكومات الإسرائيلية، حتى المسالمين المزعومين مثل شيمون بيريز والذي كان مسؤولًا عن توسيع الاستيطان ليتعمق داخل الضفة الغربية في المناطق التي تسميها إسرائيل يهودا والسامرة. قبلت الولايات المتحدة بذلك. في العلن قالت أنها لا تحب ذلك وترجو منهم ألا يفعلوه، لكنهم كانوا ولازالوا يمولونه على كل حال. في النهاية هذه الصفقات لا تستحق انتباه المعلقين ولو للحظة.
ويخرجنا تشومسكي المفكر الليبرالي الاشتراكي بعيداً عن السياسة، فيخوض بصفته استاذ علم اللسانيات وصاحب الثورة فى مجال اللغويات بالحديث حول اللغة واللسانيات التي أحدث فيها تشومسكي خرقاً لنظريات لغوية كانت سائدة، فيرى أن الدراسة الدقيقة للغة تصبح أكثر تبصراً في المشكلات الفلسفية التقليدية، كما أن القدرة اللغوية البشرية معزولة تماماً عن المقدرات الإدراكية الأخرى، وهي ليست مجرد عجلة للتفكير، وإنما هي على الأرجح المصدر التوليدي للأجزاء الأساسية من التفكير. كما أن عملية التحكم بالتفكير هي مبدأ رئيسي في صناعة العلاقات العامة، التي تطورت في الدول الأكثر تحرراً في العالم، (بريطانيا، والولايات المتحدة)، مدفوعة بالاعتراف أن الناس حصلوا على الكثير جداً من الحقوق التي يجب التحكم بها بالقوة. لذا، يرى تشومسكي أنه من الضروري التحول إلى وسائل أخرى، وهذا ما أشار إليه أيضاً، إدوارد بيرنيز أحد مؤسسي هذه الصناعة بـ"هندسة القبول"، فهي ضرورية في المجتمعات الديمقراطية كي تضمن أن الأقلية الذكية ستكون قادرة على العمل لمصلحة الجميع من دون تدخل الجمهور الذي يجب إبقاؤه سلبياً وخاضعاً وغافلاً، وثقافة الاستهلاك العاطفي هي الأداة الواضحة، لتحقيق هذه الغايات.



