
"لام شمسية"..قبل أن يفوت قطار الوعي!

هند سلامة
فات "نيللي" قطار الوعي شبت وكبرت..تزوجت وأنجبت لكن كان لا يزال هناك شيء ناقص؛ شيئا مخفيا عنها؛ اختفى وتوارى في اللاوعي فأصبحت زوجة غير قادرة على إسعاد زوجها وإشباع رغباته.. مما تسبب في وضع علاقتهما على حافة الانهيار؛ فأصبح الزوج يبحث عن متعته خارج منظومة الزواج محتفظا بهذه الزوجة المخلصة الساهرة على راحته وراحة أبنائه..لم يخبرنا "لام شمسية" بأزمة نيللي الزوجة الغير واعية لعقدتها النفسية إلا بمرور الأحداث بعد أن نعلم ماذا يحدث لجسدها أثناء ممارسة العلاقة الحميمة وإن كان رد فعلها الهيستيري على شكوكها حول تحرش صديق زوجها بابنه ينبئنا بالكثير الذي لم يعلن بعد.
هذا الغزل الدرامي المتقن للكاتبة مريم نعوم وورشة سرد.. لتناول قضية في غاية الجرأة والأهمية يفتح جراح امرأة عانت من التحرش في طفولتها إلى طفل صغير يعاني اليوم من نفس الحادثة؛ كانت نيللي النتيجة والضحية لتعرضها لهذا الفعل الغير آدمي منذ نعومة أظافرها؛ ثم اليوم هذا الطفل الذي خشيت عليه نفس المصير وبالتالي جهرت بقضيته قبل أن يفوته قطار الوعي!
ذكاء شديد في إدراك تدرج وتنوع أشكال التحرش كيف تكون البداية ثم كيف جاءت النتيجة؟!.. كان أول فتوحات هذا الذكاء اختيار عنوان العمل الدرامي "لام شمسية" ارتبطت هذه اللام في الأذهان بعلاقتها باللغة العربية اللام المستترة في الكلام؛ لام لا تنطق.. تخطف في سياق الحديث ولا تلحظ؛ لفت العنوان الانتباه وفتح باب التساؤل ماذا أراد صناع العمل بهذه "اللام" مثلا؟!!؛ ثم تأتي الدراما شارحة عنوانها؛ أسرار لا نجرأ على البوح بها خوفا من الفضيحة وحرجا مما تعرضنا له سواء في الصغر أو الكبر؛ بينما وعلى نحو غير متوقع وغير مسبوق في تاريخ الدراما.. أسهم هذا العمل وصناعه في تفاعل المشاهدين معه بضرورة إتقان فعل البوح وتعد هذه حداثة فريدة واستثنائية أن يتماهى ويستجيب المشاهد للبوح مع أصحاب العمل الفني؛ وكأنه أصبح جزءا منه فهو أحد الأبطال وطرفا في القضية كلما تتكشف حادثة بالدراما؛ تكشفت أمامها أخرى في الواقع تفاعل الجمهور تفاعلا غير مسبوق مع العمل الفني كأنه حدثا حقيقيا وليس مجرد عملا دراميا أتقنه مجموعة من الممثلين المهرة.
فتح "لام شمسية" قلوب الجماهير على الحكي والبوح..لتبرز هذه اللام وتصبح قمرية جلية واضحة.. ازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي بكتابات عن حوادث حقيقية للتحرش أفصح عنها أصحابها حكى كل منهم عن الآثار النفسية المؤلمة التي تعرض لها على إثر هذا الحادث وبالتالي حقق العمل غايته؛ واستطاع المخرج كريم الشناوي بمشرط الجراح أن يطهر جراح محفورة في ذاكرة أصحابها؛ وكأنه طبيبا معالجا وليس مجرد فنان يطرح قضية.. ثم يحذر آخرون من هذه التجارب التي ربما تمر عليهم مرور "اللام الشمسية" في سياق الحديث ليسجل الشناوي بهذا العمل هدفا في مرمى الدراما الرمضانية.
لكن وبرغم تحري الدقة والإجادة في عرض جوانب هذه القضية الشائكة بجلسات العلاج النفسي التي تضمنها العمل الدرامي والتي كانت اقرب في كثير من الأحيان من مادة فيلم تسجيلي بواقعيته الشديدة.. أكثر من كونه عمل يجنح للدراما في محاكاة الواقع؛ إلا أن المسلسل اختار أن ينهي قضيته نهاية متوقعة بعقاب هذا الجاني المجرم في حق هذا الطفل وغيره دون أدلة جنائية حقيقية ملموسة إرضاء لحالة الاستنفار الجماهيري حول هذه القضية الحساسة وتماشيا مع عرف وتقاليد الدراما ضرورة معاقبة المجرم في النهاية؛ لكننا لم نطلع على نوع الاضطراب النفسي الذي يعاني منه هذا الرجل "وسام" هل لديه نوع محدد من الانحراف الجنسي يدفعه لاشتهاء الأطفال؟.. لم يخضع "وسام" أو محمد شاهين لأي جلسة من جلسات العلاج النفسي العديدة التي توزع على مدار حلقات العمل بالكامل؛ رغم أن هذا الرجل يبدو عليه الاضطراب النفسي الدائم والذي بدا واضحا في أداء محمد شاهين؛ يبدو أنه تعرض لصدمات في طفولته لكننا لم نعلم عنها سوى النزر اليسير؛ اختار أصحاب العمل ألا يبوح الجاني واكتفوا بمعاقبته عقابا شديدا حتى لا يمنح مساحة ولو ضئيلة للتعاطف معه وبالتالي جاءت المعالجة بشيء من النقصان في اكتمال الوعي بنفسية هذا الرجل!
يأتي محمد شاهين على رأس قائمة المبدعين في هذا العمل الفني بعد المخرج كريم الشناوي والمؤلفة مريم نعوم؛ أبدع شاهين وأطلق لموهبته العنان في أداء هذه الشخصية المضطربة نفسيا وجنسيا..يبدو عليه منذ الحلقات الأولى شيئا من الغرابة والغموض والتواري وراء شيء غير معلوم.. وكأنه ممثلا لتلك "اللام" بعمق ووضوح؛ لم تفلت منه زمام الشخصية ولو في انفعال بسيط..رجل مضطرب زائغ العينين.. يسعى جاهدا ليداري زيغها.. يكتم أنفاسه خوفا من أن يكشفه أحد في لفتة أو حركة خاطفة..وعي كبير ودقة متناهية في الإمساك بالهيئة الخارجية ومستويات الاضطراب النفسي لشخصية "وسام" التي ظهرت في كل ايماءة منه على مدار العمل بالكامل؛ ثم يأتي أحمد السعدني ليبارزه بأداء دور "طارق" الذي يعاني اضطرابا من نوع آخر هو رجل هارب من المسؤولية والحياة أناني لا يرى سوى نفسه واحتياجاته ويسخر كل شيء لخدمة هذه الاحتياجات دون اعتبار لأحد ثم يفيق على فاجعة التحرش بابنه من صديق عمره.. معركة تمثيلية دارت بينهما تجلى فيها السعدني بموهبته الواسعة في هذا العمل الفني وترك بصمة لا تمحى في نفوس جماهيره؛ ثم تبارى المبدعون في بذل جهدا واضحا حتى يخرج "لام شمسية" بهذه الدرجة من الاتقان والوعي بإدراك الأبعاد النفسية لكل شخصياته مثل أمينة خليل في دور"نيللي" التي تقدم نفسها بوجه آخر هذا العام ويعتبر من أفضل ما قدمت على مدار مشوارها الفني.. وكذلك يسرا اللوزي المرأة الضعيفة المغلوبة على أمرها والتي تعاني من اضطراب نفسي آخر عجزها عن البوح وصمتها الدائم وشحوب ملامح وجهها يعد هذا العمل نقلة كبيرة في حياة يسرا اللوزي الفنية التي تطرح نفسها طرحا مغايرا عن ما سبق لها من أعمال؛ ثم الفنانة صفاء الطوخي في حيرتها وحزنها وعجزها عن مساعدة ابنها تركت أثرا في نفوس المشاهدين بأداء دور والدة "وسام"؛ كما لفتت أسيل عمران أنظار المشاهدين بحضورها الهادىء؛ ثم الشباب فاتن سعيد وياسمينا العبد موهبتان قادماتان بقوة وثبات لعالم الفن وكذلك سعيد سالمان؛ ثم ثراء جبيل في دور "نهال" التي اتقنت دور الفتاة القادمة من عالم الريف المنبهرة بأضواء المدينة كيف احتفظت جبيل في الإيحاء بمكر وخداع بهذه الشخصية في تكوينها النفسي حركة جسدها وشفتيها دون أن تفصح عن المزيد أوحت بلمحات بسيطة خاطفة عن ما يدور في خلجات هذه الفتاة من تطلعات وصدمة تحرر وتعقيدات نفسية؛ ثم الطفل الصغير علي البيلي البطل الكبير لهذا العمل منح هذا الطفل وعيا آخر بشكل مشاركة الأطفال في تحمل عبء بطولة عمل فني من هذا النوع.. أن يشارك طفل صغير لم يتجاوز العاشرة في تقديم دراما نفسية وبثقل موهبة رجل ناضج لديه من الخبرة والتجربة ما يسمح له بفهم أبعاد هذه الشخصية التي تعرضت لصدمة مفجعة في بداية التكوين؛ يقدم البيلي شخصية "يوسف" في لحظات البراءة والضعف والخوف واللهفة والحب والحرج وكأنه رجلا ممارسا لمهنة التمثيل منذ زمن بعيد موهبة كبيرة مثمرة تستحق الرعاية والاحتضان؛ كما لفت كل من كمال أبو رية في دور القاضي ومحمد عبده في دور المحامي أنظار المشاهدين بالحلقات الأخيرة.