عاجل
السبت 28 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
 الصعيد الطيب.. والدراما الزائفة
بقلم
علي مقلد

الصعيد الطيب.. والدراما الزائفة

على رصيف محطة قطارات السكك الحديدية بالقاهرة قابلته مصادفة، إنه الشيخ المعمم الذي شرفت ذات يوم بالتعلم على يديه "القرآن والشعر والمقامات الموسيقية"، كان عائدا من زيارة لإبنه الاستاذ بالجامعة، قلت له مداعبا: كيف حال صعيدكم يا شيخ؟  قال: كان ولا يزال وسيظل "صعيدا طيبا"، قلت ضاحكا : لكنه ليس هكذا المقصود يا مولانا ، قال: "وإحنا بنتشعلق في رضا"، ونحمد الله أن منُ علينا بوصف كلمة الصعيد بالطيب، ثم أخذ وضع الجدية، وقال : نعم صعيدنا طيب، وفيه من الكرم والخير والشهامة ما لا يوجد في غيره. كان هذا منذ سنوات عديدة، لكني تذكرت هذا الموقف كأنه بالأمس عندما فاجأتني ابنتي، التي ولدت وكبرت وتعلمت بالقاهرة بقولها : يا ابي إن الصعيد في الدراما التليفزيونية لا يشبه أهلنا الذين نزورهم في العيد". شعرت وقتها بالمرارة التي يشعر بها أهالي الصعيد تجاه ما "تستفرغه " الفضائيات علينا من حين لآخر، من دراما زائِفة من حيث إنها أَي غَيْرَ صالِحٍة للتَّداولِ، ومزيفة من حيث أنها مغشوشة ومقلدة تقليدا ردئيا ، ما يستوجب معاقبة من أسهم في صناعتها ونشرها، فصناع الدراما لا يعرفون عن الصعيد سوى القتل وتجارة المخدرات والأثار والفقر والجهل ، متناسين عمدا أو جهلا ما جرى في الصعيد خلال العقود الماضية بشكل عام والسنوات الأخيرة بشكل خاص. وجال بخاطري قول الجنوبي العبقري "أمل دنقل" حين قال :  اذكريني!.. فقد لوثتني العناوين في الصحف الخائنة!.. وها نحن كأهل الصعيد نقول على نفس المنوال لقد شوهتنا الدراما الزائفة. كتاب الدراما للأسف ما زالوا أسرى لتصور سطحي ساذج، كأنهم يعيشون في بلد أخرى غير مصر ، كأنهم لم يقابلوا أحدا من أهل الصعيد في حياتهم، أو كأن الصعيد في قارة أخرى وليس على بعد بضغ ساعات من العاصمة، الصعيد ليس كما مصمتا بل مساحة شاسعة من أرض مصر تمتد من جنوب الجيزة حتى الحدود مع السودان، حيث يتألف صعيد مصر من ثمانية محافظات هي: الفيوم، وبني سويف، والمنيا، وأسيوط، وسوهاج، وقنا، والأقصر، وأسوان، ويمتد على مساحة تبلغ 101.1 ألف كيلومتر مربع، ما يمثل نسبة 16.1% من إجمالي مساحة مصر ويقدر عدد سكانه بحوالي 35 مليون نسمة، وفقًا للتعداد السكاني لعام 2023.



الصعيد الذي نشأت فيه يضم قامات وعباقرة ومبدعين في كل المجالات في الطب والهندسة والأدب والجيش والشرطة والزراعة وفيه بسطاء قامت على أكتافهم المدن في كافة الجمهورية، ولكن الصعيد الذي يكتب عنه صناع الدراما هو  إناس يلبسون "جلابية"  و"عمامة" ويحملون البنادق ليل نهار ويتحدثون بلهجة متشنجة تثير السخرية والاشئمزاز، فهي لا تشبه لهجة أي من قرى ونجوع الصعيد ، بيد أن  ما لا يعرفه صناع الدراما المزيفة ، أن كل نجع وقرية له لهجة تختلف عن غيره، بل أن بعض القرى فيها أكثر من لهجة ، والناس هناك يعرفون بعضهم البعض من لهجاتهم. غني عن الذكر التأكيد على قوة الدراما في تشكيل وعي الشعوب ، بل أنها إحدى – ان لم تكن أهم  -  آدوات التنشئة الاجتماعية غير المباشرة، فهي تخلق عوالمَ تُصبح فيما بعد دون قصد مرجعية للنشء والشباب، وبالتالي حين تصور البلطجي في الصعيد بأنه بطل وفارس مغوار والكل يخضع له ويقوم بالمطاردات الهيوليودية في شوارع النجوع والقرى وعلى الترع وسوط عشش البوص، هذا شيء مخزٕ وضد هيبة الدولة.. وكأن الصعيد الذي تصوره الدراما ليس جزءا من الدولة يحكمه القانون، ويد الدولة قوية ومبسوطة على كل شبر في البلاد شمالها وجنوبها، يشهد بذلك حالة الأمن التي تشهدها البلاد وينعم بها المواطن والزائر، فلا فوضى ولا بلطجة، وإذا حدث حادث عارض – في الجنوب أو الشمال -  كانت الدولة موجودة بقوة القانون للردع  ولوضع حد لأي تهور.   الصعيد يا سادة لا يعيش في دوامة الثأر وبحور الدماء، وتجارة الأثار والمخدرات والسلاح، فتصويره بهذا الشكل مشين ومهين لأبناء الصعيد، كما أنه يضرب عن عمد أو جهل جهود الدولة في تنمية الصعيد ، وينكر ما حدث من طفرات في الصعيد على كافة المستويات خاصة التعليم، فجامعات مصر كلها من شمالها لجنوبها وشرقها لغربها تزدحم بمئات آلاف من الاساتذة والطالبات والطلاب الصعايدة، فلا تكاد تخلو منهم جامعة أو كلية أو قسم منهم، كما لا تخلو كافة الوظائف والمناصب من أعلاها إلى أدناها من ابناء الصعيد ، فلماذا يصر صناع الدراما على هذه الوصفة الرديئة.

ومن نافلة القول التركيز على ما جرى في الصعيد من تنمية خلال السنوات الأخيرة التي قادها الرئيس عبد الفتاح السيسي، فقد حظيت محافظات الصعيد باستثمارات حكومية قدرها 1.8 تريليون جنيه من إجمالي 7 تريليونات جنيه، من الاستثمارات التي تم تنفيذها على مستوى الجمهورية على مدار السنوات الثمانية السابقة، مما يعني أن ربع الاستثمارات الكلية التي أنفقتها الدولة تم تخصيصها لمحافظات الصعيد، فقد قامت الحكومة بإنشاء وتطوير 6600 كيلومتر من الطرق في الصعيد ، وإنشاء 2600 كيلومتر من الطرق الجديدة ، تحسين 4000 كيلومتر من الطرق القائمة لتعزيز كفاءتها وتحديثها، وبناء 365 كوبريًا ونفقًا بتكلفة تجاوزت 50 مليار جنيه في مختلف مدن ومحافظات الصعيد، وتنفيذ 14 مدينة جديدة من مدن الجيل الرابع، وتنفيذ 188 ألف وحدة سكنية بتكلفة 41.5 مليار جنيه، شاملة جميع الخدمات والمرافق .. وهذا قليل من كثير مما يجري من تطوير على أرض الصعيد لعل كتاب الدراما يغيرون من رؤيتهم النمطية الساذجة عن الصعيد.

يبقى الأمل في يعتمد صناع الدراما على كتاب من أهل الجنوب فأهل الصعيد أدرى بشعابه وثقافته وتراثه الضارب في عمق التاريخ، لعلهم يقدمون للناس رؤية صادقة لما يجري في صعيد مصر دون تزييف ، وهنا تجدر الإشادة بما يفعله المبدع الكبير عبد الرحيم كمال، من تقديم رؤية صادقة عن هموم وامال وطموحات أبناء الصعيد في أعمال كثيرة ، آخرها "قهوة المحطة"، حيث جاء مؤمن الصاوي "الشاب الصعيدي" الذي يشبه الملايين من أهل الجنوب، شاب تغرب من أجل حلمه، ولكل من شباب الصعيد مثل إخوانهم في الدلتا حلم يداعب خياله منذ نعومة أظافره ، وتحقيق الحلم بالطبع في القاهرة العاصمة المبهرة القاسية  ، فمنهم من حقق حلمه ومنهم من ينتظر ومنهم من مات حقيقة أو مجازا قبل أن يلحق بحلمه.

الصعيد في دراما عبد الرحيم كمال ، يشبه الشجن الذي في صوت أحمد منيب، بألحان أغنية التتر وكلماتها، يشبه التفاؤل في وجه مؤمن، والإحباط على وجه صديقه الشاعر، الذي كأن مقتنعا بموهبة مؤمن لكنه غير متفائل، ربما خاض التجربة من قبل وعاد بخفي حنين.

أقول قولي هذا لعل اذانا صاغية تسمع ما نقول، وحتى لا يكون الأمر كما قال الإمام علي كرم الله وجهه: "حين سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق".

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز