

أ.د. عادل القليعي
الحب الإلهي عند ذي النون المصري (179ه/ 245ه)
قد يتبادر إلى الأذهان سؤال مهم عن حال مثل هؤلاء الأعلام الذين ذكرتهم السير والتراجم، وذكرتهم كتب طبقات الصوفية مع الله، كيف كانوا في عباداتهم، وفي معاملاتهم، وفي مكاشفاتهم، وشوقهم إلى لقاء محبوبهم، هل تحول حبهم له تعالى ولنبيه إلى عشق فلم يروا في الوجود إلا إياه.
ما حقيقة الحب الإلهي عند ذي النون المصري، وكيف وصل إلى الإدراك واليقين المعرفي دونما فناء أو حلول أو اتحاد.
إنه علم من الأعلام المجاهدين، الذين تمثلوا قول الله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)، رجال أخلصوا أعمالهم جميعها لله تعالى فاستعملهم لطاعته، وبلغوا الحظوة والقبول من الله تعالى فنالوا إحسانه وأنعم الله عليهم بمنازل العارفين السائرين السالكين إليه، فرضي الله عنهم ورضوا عنه، فرضي الله عنهم أجمعين.
وحقيق علينا ونحن نتدارس سيرتهم أن نقتفي أثرهم ونسلك مسالكهم ونقتدي بهم في أفعالنا وأقوالنا وعباداتنا لله تعالى ومعاملاتنا مع الآخرين.
ذو النون المصري هو: ثوبان بن إبراهيم، لقبه ذو النون، والمكنى بأبي الفيض.
رجل من أبرز رجالات القرن الثالث الهجري الذي شهد بدايات النظرية الصوفية وتحول الزهد إلى تصوف.
ولد بمدينة أخميم بصعيد مصر- بلدي وأفتخر- عام 179ه..
حفظ القرآن الكريم في صغره، وبرع في علوم الحديث والفقه. كما برع في علوم الكيمياء التي تتلمذ فيها على يدي جابر بن حيان، كما برع في الطب وعلوم الفلك.
مما يروي عنه أنه سبق شامبليون في فك رموز اللغة القديمة الهيروغليفية، أو ما عرفت بالأبجدية الهيروغليفية.
من أشهر تلاميذه سهل التستري، أبو اليزيد البسطامي.
تأثر به الخراز أبو سعيد المكنى بقمر الصوفية، وأبو عمرو الدمشقي.
يذكره القشيري قائلا: إنه أول من عرف التوحيد بالمعنى الصوفي، وأول من وضع تعريفات للمصطلحات الصوفية، الوجد، السماع، الأحوال والمقامات.
وشأنه كشأن البارعين الناجحين في كل زمان ومكان، تعرض للوشاية به من أقرانه، عند الخليفة المتوكل واتهموه بالزندقة، وأنه أتى بعلم جديد لم يتحدث عنه الصحابة، يقصدون مقولاته الصوفية، مما جعل الخليفة يستدعيه ولما دخل عليه أجلسه وسأله عن بعض أمور الدين والفقه، بكى الخليفة بكاء شديدا، ورده إلى مصر مكرما معززا، هذا هو حال رجال الله الذين أخلصوا لله، الذين خافوا من الله فهابهم كل شيء حتى الملوك والأمراء والخلفاء.
توفي في مدينة الجيزة عام 245ه، ودفن في مقابر أهل المعافر، وروي أن الطيور الخضر ظلت ترفرف على جنازته حتى وضع في قبره.
عرفانه الصوفي:
من أقواله في المحبة محبة الله تعالى: (من علامات المحب لله عز وجل، متابعة الحبيب المصطفى ﷺ في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسننه)، أنظروا بعين المحبة، أليس هذا عملا وامتثالا لقول الله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)، أليست المحبة لله وفي الله وبالله طريق للوصول إلى رضوانه تعالى.
ويقول أيضا، ألا إن حب الله عز وأمل، وحب غير الله خزي وخجل، فمحبة الله تعالى كانت شغله الشاغل.
ومن حكمه، لا تسكن الحكمة معدة ملئت طعاما، يقصد لا تسرف في مأكلك ومشربك حتى تستطيع أن تروض نفسك وتدربها على الطاعة وتصل إلى غاية المرام.
أنشد في المحبة قائلا:
حبك قد أرقني وزاد قلبي سقما.
كتمته في القلب والأحشا حتى انكتما.
لا تهتك ستري الذي ألبستني تكرما.
ويقول:
لك في قلبي المكان المصون كل لوم علي فيك يهون.
ويقول:
من ذاق طعم الوداد أنس برب العباد.
شواهد أهل الحب باد دليلها بأعلام صدق ما يضل سبيلها.
نخلص من أقواله في المحبة، إلى أنه يرى أن ثمة حبا متبادلا بين العبد المحب وبين الرب المحبوب، وأن هذا الحب من شأنه أن يصل بالمريد إلى درجة الاستغراق بالكلية في المحبوب فلا يرى إلاه، ويرى أن من تحقق به هذا الحب ألا يتحدث عنه، أو يبوح بشيء من أسراره لمن لا يعرفون من الحب إلا معناه المادي الحسي.
معالم الطريق إلى الله تعالى.
مدار الكلام عنده في كيفية الوصول إلى العرفان والتحقق بالله تعالى والوصول إلى معرفته، يقول: عروج الروح إلى عالم المحبة يكون عن طريق أربعة أمور هي: حب الخليل، بغض القليل، اتباع التنزيل، حذف التحويل، حب الخليل الصاحب الخل الوفي الذي يأخذ بيدك إلى النجاة.
بغض القليل من الأعمال والإكثار منها ولا نستعظم عملا قمنا به طاعة لله فإن ذلك مدعاة إلى الغرور والعجب، وذلك يقود إلى إحباط العمل.
واتباع التنزيل أي العمل والاستمساك بالكتاب والسنة.
وحذف التحويل، أي البعد عن كل ما يحول بين المرء وقلبه وجعل قلبك معلقًا دوما بالله، وحذف كل ما يبعدك عنه تعالى وعدم الالتفات إليه.
قوله في التوبة:
التوبة عنده توبتان، توبة العوام، وهي توبة من الذنوب، وتوبة الخواص، رجال الله، هي توبة من غفلة القلب عن الذكر الله تعالى، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
قوله في المعرفة:
عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي، فمن الذي دلني عليك إلهي، لولا أنت ما عرفت أن ثم إله، لولا أنت ما وصلت إلى عين اليقين وحق اليقين.
والمعرفة عنده على ضروب ثلاثة هي: معرفة العوام البسطاء، ومعرفة المتكلمين والفلاسفة، التي تقوم على العقل، وهو يرى أنها معارف ظنية. ومعرفة خواص الأولياء الذين يعرفون الله بقلوبهم وهذه معرفة يقينية لمن، لمن سلك الطريق وتابع السير وأكمل المسير.
هذا قليل من كثير سيدي يا ولي الله يا أبا الفيض، سحائب رحمات ربي تغشاك.
ليتنا نتأسى بهؤلاء الأخيار من خلال مدارسة سيرتهم العطرة، علنا نتحرر من براثن الشهوة وقيود الجسد لنحلق بأرواحنا إلى عالم أفضل عالم الطهر والنقاء والصفاء.
أولئك الذين صدق فيهم قوله تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون)
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده)
فهل اقتدينا لنهتدي.
أستاذ الفلسفة بآداب حلوان