
بعد رحيل بايرو.. ماكرون بين ضغط المعارضة وغضب الشارع الفرنسي

أ.ش.أ
"رحل بايرو .. ماكرون تحت ضغط".. هكذا عنونت صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية في عددها الصادر اليوم الثلاثاء، بعد سقوط حكومة فرانسوا بايرو مساء أمس الاثنين خلال تصويت على حجب الثقة في البرلمان، الأمر الذي يدفع البلاد إلى أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة، ويضع الرئيس الفرنسي تحت ضغط كبير لاختيار رئيس وزراء جديد توافقي.
فقد وافقت الجمعية الوطنية "مجلس النواب الفرنسي" على حجب الثقة عن حكومة رئيس الوزراء بايرو، وذلك عقب اقتراحه إجراء التصويت، بعد أشهر من الجمود بسبب خطط الحكومة لخفض الدين العام المتزايد في فرنسا، لتتم بذلك الإطاحة بالحكومة الفرنسية التي لم تدم سوى تسعة أشهر.
وصوّت 364 نائبا لصالح حجب الثقة، بينما أبدى 194 فقط تأييدهم لبايرو. وقالت رئيسة الجمعية الوطنية "بناء على المادة 50 من الدستور، على رئيس الوزراء تقديم استقالة حكومته".
وفي أعقاب ذلك، تسارعت ردود الأفعال المؤيدة لسقوط حكومة بايرو، وأعرب العديد من الأحزاب السياسية المعارضة عن سعادتهم لهذا القرار بحجب الثقة عن الحكومة.
كما شهدت الشوارع الفرنسية تجمعات احتفالا بسقوط حكومة بايرو. وأفادت مصادر بالشرطة بأن 200 تظاهرة جمعت 11 ألف شخص في فرنسا أمس الاثنين، احتفالا بسقوط الحكومة.
وكان فرانسوا بايرو قد أثار جدلا واسعا داخل الأوساط السياسية في البلاد في الفترة الماضية، بعد إعلانه في أغسطس الماضي، الطلب من البرلمان التصويت على الثقة في حكومته في 8 سبتمبر، وهو ما أنذر بخطر سقوط حكومته.
وحذر بايرو، خلال مؤتمر صحفي مخصص لخطته للاقتصاد في 25 أغسطس الماضي، من الخطر الوشيك الذي تمثله "المديونية المفرطة" على فرنسا، معلنا عزمه الطلب من البرلمان التصويت على الثقة بحكومته في 8 سبتمبر، على أساس مشروع ميزانية عام 2026 الذي ينص على تقليص نفقات تصل إلى 43.8 مليار يورو بهدف الحد من العجز المتنامي وإلغاء يومي عطلة رسمية لتقليص الدين المطرد للبلاد الذي يشكل 114 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي.
في أعقاب ذلك، أعلنت أحزاب معارضة رئيسية رفضها منح الثقة لحكومة بايرو، وكذلك اليمين المتطرف ما جعل من سقوط الحكومة أمرا محتوما، وفتح الباب أمام مرحلة جديدة من عدم اليقين السياسي في ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.
وخلال الأسبوع الماضي، أجرى بايرو لقاءات مع روساء الاحزاب والكتل البرلمانية في محاولة لإقناعهم بعدم التصويت بحجب الثقة عن حكومته، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل.
وفي خطابه الأخير أمس أمام النواب، رسم رئيس الوزراء صورة قاتمة للوضع في فرنسا، مشيرا إلى "فجوة الإنتاج مقارنة بأقرب جيراننا". وتحدث عن مسألة المديونية المفرطة التي تعاني منها فرنسا، وقال إن الإنفاق يتزايد، والعجز يتراكم، والديون تتراكم.
وبحسب قوله، فإن هذا التراكم في العجز يؤدي إلى تراكم هائل للديون، فالعجز المالي لفرنسا وصل إلى 3415 مليار يورو.
وأوضح أن الخطر على فرنسا سيظل قائما حتى في حال إسقاط الحكومة، وقال للنواب "لديكم السلطة في حجب الثقة عن هذه الحكومة، لكن ليس لديكم السلطة لمحو الواقع"، مضيفا "سيظل الواقع قاسيا، وسيستمر الإنفاق في الارتفاع، وسيزداد عبء الدين، الذي لا يحتمل، وسيصبح أكثر ثقلا".
إلا أن 364 نائبا بالجمعية الوطنية صوتوا لعدم منح الثقة للحكومة، لتكون المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة التي تسقط فيها حكومة بعد فشلها في نيل الثقة.
يدفع بذلك بايرو ثمن خطة تقشفية دافع عنها بشراسة والتي تتضمن بشكل أساسي توفير ما لا يقل عن 43.8 مليار يورو خلال عام 2026، بهدف خفض العجز المالي وتقليص حجم الدين العام الذي تجاوز 3000 مليار يورو. ولتحقيق هذا، كانت الحكومة تعول على تقليص كبير في النفقات العامة، فضلا عن إلغاء عطلتين رسميتين. لكن هذه الخطة أثارت غضب المعارضة التي تعهدت بإسقاطه إذا لم يدخل تعديلات جوهرية على المقترحات، الأمر الذي حدث بالفعل مساء أمس.
واليوم، تتجه الأنظار إلى الرئيس ماكرون الذي يخسر ثاني رئيس وزراء منذ قراره المفاجئ عام 2024 بحل الجمعية الوطنية، ما يغرق البلاد في أزمة سياسية ومالية كبيرة.
ووفقا لصحيفة "ليزيكو"، فإن المعادلة السياسية، الأكثر تعقيدا، أصبحت أكثر صعوبة بالنسبة لماكرون، في ظل تراجع شعبيته إلى أدنى مستوياتها منذ وصوله إلى السلطة عام 2017 "إذ يبدي 77% من الفرنسيين استياءهم حيال إدارته للبلاد".
ويواجه ماكرون أيضا عددا من العقبات يجب التغلب عليها في الأيام المقبلة، مثل الاحتجاجات المقررة غدا "الأربعاء" واحتجاجات النقابات العمالية في 18 سبتمبر الجاري.
كما أن فكرة حجب الثقة عن الحكومة الجديدة من شأنها أن تزيد الضغوط على ماكرون، مع دعوات حزب التجمع الوطني "اليميني المتطرف" وحزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي بحل البرلمان ورغبتهما في استقالته. كل ذلك يُزيد الضغوط على ماكرون وهو ما أشارت إليه صحيفة "لوفيجارو" أيضا في عنوانها اليوم الثلاثاء.
ويجد ماكرون نفسه أمام معادلة سياسية شائكة لإيجاد خامس رئيس وزراء منذ إعادة انتخابه في مايو 2022. إلا أن الإليزيه أعلن أمس أن الرئيس الفرنسي سيُعين رئيسا جديدا للحكومة "خلال الأيام المقبلة".
وفي الأيام الماضية، تم تداول عدة أسماء لتخلف بايرو من بينها وزير الجيوش الحالي سيباستيان ليكورنو ووزير العدل جيرالد دارمانين ووزير الاقتصاد إريك لومبار، فضلا عن تكهنات بشأن احتمال تعيين رئيس وزراء جديد من اليسار. في هذا الصدد، طلبت الأمينة العامة لحزب الخضر، مارين تونديلييه، من ماكرون لقاء قادة الأحزاب اليسارية قبل تعيين رئيس وزراء.
وأعرب أوليفييه فور، السكرتير الأول للحزب الاشتراكي عن رغبته في "حكومة يسارية ومن حزب الخضر البيئي، تقترح عددا من الحلول على البرلمان، ثم يعود القرار للبرلمان. وسنرى حينها إن كنا سنحصل على الأغلبية أم لا". أما ماتيلد بانو، رئيسة كتلة حزب فرنسا الأبية "اليساري الراديكالي" في البرلمان، فأوضحت أن "المسألة التي تواجه البلاد هي رحيل رئيس الجمهورية". وبالنسبة لها فإن تصويت ما يقرب من ثلثي النواب ضد منح الثقة يُظهر أن "سياسة ماكرون "..." أقلية في الجمعية الوطنية وفي البلاد".
وشاركها في الرأي جان لوك ميلونشون زعيم حزب "فرنسا الأبية"، وقال في منشور على "إكس": "ماكرون الآن على خط المواجهة مع الشعب. هو أيضا يجب أن يرحل".
بدورها، اعتبرت زعيمة حزب "التجمع الوطني" مارين لوبان أن حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة "ليسا خيارا بل أمرا واجبا" على ماكرون.
ويقف ماكرون الان أمام معضلة اختيار رئيس وزراء لا تتعرض حكومته لحجب الثقة مثل سابقيه.
واعتبر الدكتور محمد الألفي ، الخبير في الاقتصاد السياسي في باريس، في تصريحات لمراسلة وكالة أنباء الشرق الأوسط، أن "هذه أول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة "منذ 1958" تسقط فيها حكومة بهذه الطريقة، مما يعكس انهيارا كاملا لشرعية النخبة الحاكمة".
ويرى الدكتور الألفي من ضمن السيناريوهات المحتملة أن ماكرون قد يختار شخصية من المعارضة المعتدلة "مثل بوريس فالو رئيس مجموعة الحزب الاشتراكي في الجمعية الوطنية" في محاولة لاسترضاء البرلمان.
ويأتي كل هذا في وقت تستعد فيه فرنسا لمرحلة من الاضطرابات تبدأ غدا الاربعاء، واحتجاجات على خلفية الميزانية، دعت إليها حركة مدنية انطلقت خلال الصيف على مواقع التواصل الاجتماعي تحت شعار "لنعرقل كل شيء" وتدعمها بعض النقابات واليسار الراديكالي، بهدف شل البلاد في هذا اليوم. ووفقا لمعلومات استخباراتية، فإن عدد المشاركين قد يبلغ 100 ألف شخص.
في هذا الصدد، أعلن وزير الداخلية الفرنسي، برونو ريتايو عن نشر نحو 80 ألف عنصر من قوات الأمن، لضمان النظام العام خلال المظاهرات المرتقبة في مختلف أنحاء البلاد، وقال محذرا "لن يتم التسامح مع أي عنف".
كما دعت النقابات إلى يوم إضراب وتظاهرات في 18 سبتمبر الجاري، تنديدا بسياسة الحكومة وبمشروع الميزانية الذي طرحه بايرو، ولو أن حكومته الان سقطت قبل ذلك التاريخ.
واليوم، تصبح فرنسا مجددا على موعد مع حالة من عدم الاستقرار السياسي التي تؤثر سلبا على الوضع الاقتصادي للبلاد.
ويرى الدكتور محمد الألفي الخبير في الاقتصاد السياسي، أن أزمة فرنسا قد "تهدد مشروع اليورو بأكمله" بسبب حجم ديونها "3.35 تريليون يورو" وترابطها الاقتصادي مع ألمانيا ودول الجنوب.
كما أن عدم الاستقرار السياسي قد يعطل المفاوضات التجارية بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا، خاصة حول رسوم التكنولوجيا.
وخلص إلى القول إن الأسابيع القادمة ستحدد ما إذا كانت ستشهد فرنسا "ثورة سلمية" أم ستدخل في فوضى مستمرة. مضيفا :"فرنسا تواجه الآن اختبارا وجوديا".