

وليد طوغان
القفز انتحارًا من فوق الأوهام؟!
هل يقفز اليمين المتطرف فى تل أبيب انتحارًا من فوق جبل الأوهام؟
الإجابة فى القادم.
لكن ما هو مؤكد أن اليمين هناك، لم يسبق أن واجه إلا من وراء حجرات، ولم يسبق أن صارع إلا من بروج مشيَّدة، أو من خلف حصون كان عهد التاريخ بها ألا تصمد أمام جيوش نظامية كبرى، وكان عهد الجغرافيا بها أن منعتها، منذ ما بعد موت النبى موسى عليه السلام، من خاتم الخلاص.
لماذا يأخذون ببعض الكتاب ويتركون بعضه؟
فى التأويلات الأحدث للتوراة، لم يثبت وعد الرب إسرائيل «من النيل للفرات». وفى التأويلات الأقدم، كان الوعد مقصورًا على زمن، وفق شروط وضِعت لبنى يعقوب إن لم يفعلوا، لن تحدث.
فى القول الدارج «المشروطة مربوطة»، لكن فى التوراة، لم تلتزم إسرائيل بالعهد طوال تاريخها، ولا حدث أن أقر أبناء يعقوب بالشرط.
اليوم، يأخذون ما فى التوراة تأويلًا، ويتركون ما فيها تصريحًا.
فى التوراة حذر الرب إسرائيل من المصريين فى أكثر من موضع.
وفى التوراة، حذر أيضًا من أن هدم إسرائيل، وزلزلتها، وإنزال عاليها واطيها يأتى على يد ملوك لليهود، لا يعرفون من الشريعة إلا الطاقية، ولا يعرفون مما قال الرب إلا أكبر ما لهم، وأقل ما عليهم.
فى التوراة تحذيرات لبنى إسرائيل من الجانب الآخر، حيث أبناء مصرايم الذين يمكن لهم أن يحيلوا ليالى إسرائيل إلى ظهر، والذين إن غضبوا، أحالوا نهار بنى يعقوب إلى ليل.
لماذا يأخذون بعضه.. ويتركون بعضه؟
-1-
يشهد النظام الدولى حالة غير معروفة ولا متجانسة ولا معهودة ولا منطقية من تفاعلات سياسية عكست لدى بعضهم بؤرًا لأوهام وأحلام لن تتحقق.
حتى ولو كانت القوة وحدها معيارًا، فإن أوهام القوة، لن تجدى فى معادلات السياسة فى عالم جديد يتكون وفق نظام متعدد الأقطاب، لم تعد فيه القوة واحدة وحيدة، ولا عاد فيه مساحات لانفراد حلف واحد برسم الخرائط، أو إعادة التوجيه بالأقلام الرصاص على ورق الكلك المستخدم فى الرسومات العسكرية.
مصر قوة لا جدال، وقوة كبرى، ولا جدال أيضًا.
إلى جانب القوة والقدرة، خطت مصر لنفسها طرقًا على طاولات الدبلوماسية، تميزت فيها علاقاتها مع الجميع.
أحسنت مصر استغلال التاريخ والجغرافيا فى حالاتهما الفريدة فى إقرار سياسات ترفض الاستقطاب، وتنطلق من ثوابت ومنطلقات شرعية أخلاقية، ترفع شعارات العدل، وتقر الخطوط الحمراء، رفضًا للنزق وللخروقات وللخروجات عن القانون، وعن مبادئ الشرعية، وتضرب فى الخاصرة أوهام البعض للتمادى أو استمراء التغول على الحقوق وعلى المبادئ.
صحيح تعقيدات النظام الدولى، وهفواته، وشطحاته، منحت البعض فرصة لتنامى الأوهام، وأرسلت لبعضهم رسائل مزيفة بإمكان استمرار الافتئات على حقوق الشعوب، وآمالها وأحلامها وحقوقها فى الحياة، لكن معادلات النظام الدولى، مهما كانت أشكالها، لم يحدث أن أثنت مصر عن قرار شجاع، ولا حدث أن أثرت فى إرادة القاهرة على رسم الخطوط الحمراء، دفاعًا عن حقها فى حماية أمنها القومى من جانب، واستماتة فى التصدى لأى من محاولات الخصم من حقوق عربية على أي مستوى من جانب آخر.
-2-
تبقى مصر حاجزًا أساسيًا، وحصنًا منيعًا، وسورًا عاليًا، ومكانًا ومكانة.
ترسم مصر الخطوط الحمراء وقت المقتضى، ولديها من القدرة ما تستطيع أن تفرض خطوطها تلك عند المقتضى أيضًا.
تهجير الفلسطينيين خط مصري أحمر.
حتى مع نظام عالمى متهالك، وحتى مع أوهام دنيئة خلطت بين حق وبين باطل، وماهت بين شرعية قانونية وإنسانية وبين أحلام ذئاب، سيظل التهجير خطًا أحمر.
وضعت مصر خطوطًا حمراء فى أزمة غزة لا حياد عنها، ولا جدال فيها.
مصر لا تعادى، لكن فى الوقت نفسه، لا تقبل الاعتداء.
ومصر جاهزة فى السلام وفى الحرب أيضًا.
فأيادى القاهرة ممدودة بغصون الزيتون فى واحدة، وبالقدرة على الحسم فى اليد الأخرى.
فى الحروب تبقى الجغرافيا إلى جانب القدرة معاملات أساسية.
صحيح.. لا تتعدى مساحة فلسطين التاريخية 27 ألف كيلومتر مربع، بينما تزيد مساحة سيناء وحدها قليلًا على 66 ألفًا.
العمق الإسرائيلى بمعاملات الجغرافيا مكشوف، وهو بالكامل من البحر إلى النهر لا يتعدى عشرات الكيلومترات. الصحيح أيضًا أن القدرة على تحمل الخسائر ضمن أهم ما يجب أن يبقى قرار الحرب مصيريًا، لأنه فى حالات الميزات الجغرافية الفريدة، يبقى قرار حياة أو موت بالنسبة لأعداء على الجانب الآخر.
الصحيح مرة ثالثة، أن مصر لا تحب الحرب ولا تسعى إليها، ولا تعرفها حلًا للمشكلات الإقليمية، لكن الصحيح مرة رابعة، أن مصر مستعدة وجاهزة، وقادرة ولديها ما لديها من قدرات تضاف إلى ميزات الجغرافيا ومميزاتها.
ذكر ضياء رشوان رئيس الهيئة العامة الاستعلامات الرقم الأهم: 100 كيلومتر هى كل المسافة بين العريش وتل أبيب.
هو الرقم الذي لا بد له أن يظل حاكمًا فى أذهان يمين متطرف فى تل أبيب سابح فى عالم خرافى، بحالة عناد طفولية، وتخالجه أوهام مراهقة لا تخلو بالطبيعة من رعونة.
فى الحروب تنتصر الجغرافيا، وفى النطاقات الاستراتيجية المصرية، يبقى الزمام فى كفة جيش نظامى له من القدرات ما يختصر المسافات، ويهدد مناطق العمق لدى العدو بلا أسقف ولا جدران.
-3-
ما فى نفس اليمين المتطرف الإسرائيلى كما جبل الثلج، لا يظهر منه إلا الرأس، وفى رأس نتنياهو تغولت فيه المخاوف على الأوهام.
يتملك تيار التطرف فى إسرائيل مشاعر الخطر القادم من مصر.. وهو حدس صحيح، إذ إن مصر، ومصر وحدها هى الصخرة الكبرى والعائق الهائل أمام ما يدفع به من مخططات فى تل أبيب.
ولدى اليمين المتطرف فى إسرائيل الآن، أكثر من أى يوم مضى، ما يسير فى الطريق لأن يصبح يقينًا بأن حلم إسرائيل الكبرى التوراتى، لن يتحقق، لأن هناك فى القاهرة من لا يمكن أن يسمح له بالتحقق، وأن هناك فى القاهرة من هو قادر على ألا يدع ذلك الحلم يتحقق.
إن عادوا للتوراة عدنا، وإن عادوا لآيات إسرائيل الكبرى، عدنا إلى آيات التحذير الربانى من الجانب الآخر فى الغرب من إسرائيل، حيث حائط النار.
نقلًا عن مجلة صباح الخير