هل يمكن أن تكون مشاعر الحب التي يظهرها الأطفال والمراهقون اليوم حقيقية فعلًا؟، هل تعبر عن نضج عاطفي مبكر.. أم أنها مجرد محاكاة لعالم الكبار الذي يطاردهم في كل شاشة؟
كانت منصات التواصل الاجتماعي في مصر قد شهدت موجة تفاعل لافتة بعد انتشار فيديو طريف لمستخدمة "تيك توك"، وثقّت لحظة إعلان ابنتها لخطوبتها من زميلها في الفصل في اليوم الثاني فقط من بداية العام الدراسي، وأظهر الفيديو الطفلة بعد أول يوم مدرسة، وهي تخبر والدتها بحماس أن زميلها خطبها وقدم لها خاتمًا صغيرًا كرمز للارتباط، لترد الأم بدهشة ساخرة قبل أن تطلق "زغرودة" في نهاية المقطع.
الفيديو طريف يجعلك تشعر بحالة من المزاح والدهشة في آن واحد، لكنه في الوقت نفسه فتح بابًا واسعًا للنقاش حول طبيعة مشاعر جيلي، زد وألفا، اللذين ولدا في عالم رقمي سريع، تتشكل فيه العواطف والمعارف بوتيرة غير مسبوقة.
أخبرتني ابنتي، وهي في الصف الأول الثانوي، أن هناك زملاء لها في الفصل يعيشون قصة حب معلنة، يعرف بها الأهل ويتعاملون معها كأمر عادي، أخذت تحكي لي تفاصيل العلاقة كما تراها بعين المراهقة، وكيف أن الفتى يغير على زميلته، ولا يريدها أن تتحدث مع أحد غيره، وكأنهما في علاقة ناضجة وليست مجرد تجربة مراهقة داخل أسوار المدرسة.
تذكرت وقتها موقفًا حدث قبل عامين، عندما عادت من المدرسة وهي متوترة، لتخبرني بخجل أن أحد زملائها كتب لها على الديسك الذي تجلس عليه كلمة "بحبك"، لم تضحك، ولم تفرح وتتباهى أمام صديقاتها، بل قالت لي وهي تشعر بالذنب: "أنا لسه صغيرة"، وقتها تذكرت فيلم "صغيرة على الحب" بطولة سعاد حسني، وكيف أن المجتمع في الماضي كان ينظر لمثل هذه المشاعر في السن الصغيرة باعتبارها "لعب عيال" أو مواقف بريئة لا تتجاوز حدود المزاح، وأن فكرة الحب أو الارتباط في هذا العمر كانت تقابل بالضحك أو التهكم اللطيف، لا بالتعامل معها كعلاقات حقيقية كما يحدث أحيانًا الآن.
أما ابني، فعندما كان في الصف الرابع الابتدائي منذ عامين، راودته مشاعر نحو إحدى زميلاته في الفصل، ولم يكن يدرك كيف يتعامل معها، وبعفوية الأطفال وإحساسه المبكر بالرجولة، كان يأخذ جزءًا من مصروفه ليشتري لها الحلوى يوميًا، لأنه من وجهة نظره "هو الراجل ولازم يصرف"، وعندما علمت بالأمر، كان تعاملي حاسمًا وهادئًا في الوقت نفسه، جعلته يدرك أن ما يفعله مجرد "لعب عيال"، وأن مشاعره لا تعبر عن نضج حقيقي، بل هي مجرد تجربة مبكرة واكتشاف أولي لعالم العواطف.
الحقيقة التي لا يمكن التغاضي عنها أو إنكارها إن جيلي زد وألفا يتعرضان منذ نعومة أظافرهما لمحتوى ضخم ومتنوع، سوشيال ميديا، مسلسلات، أفلام، تريندات، أغاني، يوتيوب، تيك توك... إلخ، كل هذا يجعلهم يشاهدون علاقات الكبار ويتحدثون عنها، مع إمكانية تقليدها، فأصبحنا نرى أولادا في ابتدائي أو إعدادي لديهم وعي - أو ربما معرفة سطحية ـ بأشياء تعلمها أجيال زمان في سن متأخرة، وهذا بالقطع لا يؤثر على سلوكهم فحسب، لكن أيضاً يؤثر على مشاعرهم وطريقة فهمهم للعلاقات، فيتولد لديهم تصور رومانسي أو درامي عن الحب في سن صغيرة، فيعيشون مشاعر الإعجاب والارتباط أسرع من قدرتهم الحقيقية على استيعابها أو التعامل معها.
تشير الدراسات التربوية الحديثة إلى أن ما بين 50 و70٪ من المراهقين يخوضون نوعًا من التجارب العاطفية أو العلاقات الرومانسية قبل نهاية المرحلة الثانوية، وغالبًا ما تبدأ هذه المشاعر في سن مبكرة تتراوح بين 11 و13 عامًا، وفقًا لما نشرته مجلة Journal of Adolescence، وتوضح الدراسة أن هذه العلاقات تمثل جزءًا من تطور الهوية الاجتماعية والعاطفية لدى المراهقين، لكنها لا تتمتع بالنضج أو الاستقرار الذي يميز العلاقات في مراحل عمرية لاحقة.
وفي السياق نفسه، كشف مركز "بيو" للأبحاث في دراسة أُجريت عام 2022، أن 95٪ من المراهقين في الولايات المتحدة يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بانتظام، وأن منصات مثل "تيك توك" و"إنستجرام" أصبحت مصدرًا رئيسيًا لتصوراتهم عن العلاقات، وذكر 35٪ من المشاركين أنهم تعلموا عن العلاقات العاطفية من السوشيال ميديا أكثر من الأهل أو المدرسة، وهو ما يعكس الدور المتنامي للإعلام الرقمي في تشكيل وعي الأجيال الجديدة بمفاهيم الارتباط والحب.
أما في المنطقة العربية، فتشير تقارير اليونيسف واليونسكو إلى أن التعرض المبكر لمحتوى غير مناسب للعمر عبر الإنترنت يؤثر على أنماط التفكير والسلوك لدى الأطفال والمراهقين، ويسهم في دفعهم لتبني مفاهيم وعواطف تفوق مرحلتهم العمرية، كما توضح دراسات صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر أن سن بداية الاهتمام العاطفي بين المراهقين شهد انخفاضًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، في ظل الانفتاح الإعلامي والرقمي المتزايد.
المشاعر ليست وصمة عار أو عيب نخجل منه، بل هي دليل على إنسانيتنا وفطرتنا الطبيعية، لكنها تحتاج إلى توجيه صحيح في سن صغيرة، ولا يحق للأهل أن يمنعوا أو يكبتوا المشاعر بطريقة تجعل الطفل يشعر بالذنب أو الخوف، لأن ذلك قد يدفعه للبحث عن الحب خارج حدود البيت في مرحلة حساسة، ويبقى الاحتواء والتفهم هما المفتاح؛ فالطفل يحتاج أن يشعر أن أهله معه، لا ضده.
فعندما وجهت ابني خلال الموقف، أخبرته: "الحب جميل، والمشاعر شيء لطيف، ومن الطبيعي أن تحب الناس من حولك، لكن لا تتصرف بتصرفات خاطئة باسم الحب، تعامل مع زميلتك كما تتعامل مع باقي الزملاء، وساعدها إذا احتاجت، لكن ضمن الحدود المسموح بها، وبما أنها تأخذ مصروفًا، فلا تقدم لها أشياء إلا إذا كان لديك شيء معك فتقدمه لها ولأي زميل آخر"، ومع الوقت، شعر ابني أن مشاعره طبيعية وأنها كانت مجرد لحظة عابرة أخذت وقتها وانتهت، وتعلم كيف يوازن بين مشاعره وسلوكياته اليومية بطريقة صحية.
في النهاية.. الحب عند الأطفال والمراهقين ليس خطأً أو عيبًا، بل هو جزء طبيعي من نموهم الإنساني والعاطفي، وما يحتاجه الجيل الحالي، جيل زد وجيل ألفا، ليس المنع، بل الاحتواء، الفهم، والتوجيه الصحيح، أما الأهل والمعلمون فيمكنهم مساعدة الأطفال على التعامل مع مشاعرهم بطريقة صحية تتضمن تفهم المشاعر، وضع حدود واضحة، وتعليمهم كيفية التعبير عن الإعجاب أو الاهتمام دون إفراط أو تجاوز، هذه التجربة، عندما تدار بشكل سليم، تعلم الطفل التوازن بين المشاعر والسلوكيات، وتحميه من الأخطاء، وفي الوقت نفسه تحفظ براءته الطفولية.
هكذا، يصبح الحب المبكر فرصة للتعلم، لا سببًا للقلق، ووسيلة ليكتشف الأطفال مشاعرهم الطبيعية تحت رعاية وفهم من حولهم، بدلاً من أن يضطروا للبحث عنها في أماكن غير مناسبة أو قبل أوانها.



