هاني لبيب
من كامب ديفيد إلى قمة شرم الشيخ للسلام..
بوصلة الشرق الأوسط.. جغرافيا سياسية جديدة!
فى السياسة تمامًا.. كما فى التاريخ، لا تحسب الأدوار الحقيقية بحجم التصريحات، بل بقدرة الدول على تحويل التوازنات إلى واقع جديد. وهكذا فعلت مصر بـ «قمة شرم الشيخ للسلام.. اتفاق إنهاء الحرب فى غزة» فى 13 أكتوبر 2025، حينما قادت الأحداث فى لحظة فاصلة.. أنهت بها حربًا دموية من الصراع فى غزة، وأعادت ترتيب خريطة الشرق الأوسط بمعادلة جديدة للسلام القائم على الردع، وليس على الخضوع والخنوع. تلك القمة التي شهدها العالم ووقع خلالها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على اتفاق إنهاء الحرب. والذي استطاعت القاهرة فيه.. أن تكون صانعة لمساره وراعية لنصوصه وضامنة لتنفيذه.
>ادعاء السلام وفرضه..
يظل دائمًا هناك فارق دقيق بين من يرفع شعار السلام ومن يفرضه. هناك من يتحدث عن السلام كحالة وجدانية وخطاب أخلاقى، وهناك من يجعله وسيلة استراتيجية تعيد بناء الجغرافيا السياسية للمستقبل.
لم تعتنق مصر طريق السلام من موقع الضعف، بل من موقع الوعى أن القوة الحقيقية ليست فى استمرار الحرب، بل فى القدرة على إنهائها طبقًا لقواعد وشروط عادلة تحفظ السيادة الوطنية وتضمن الاستقرار. وقد أدركت القاهرة منذ انتصار حرب 6 أكتوبر 73 أن السلام يرتكز على موازين القوى، وأن ادعاء السلام من دون قدرة على فرضه هو مجرد وهم لفظى يستهلك الزمن ولا يصنع التاريخ.
3 محطات مصرية – إسرائيلية..
جاوزت مصر قاعدة المستحيل حين ذهب الرئيس أنور السادات إلى القدس سنة 1978 فى مفاجأة سياسية للعالم كله لا مثيل لها. وما ترتب عليها من توقيع اتفاقية كامب ديفيد كلحظة عبور جديدة لمصر من مربع الحرب إلى مربع الدبلوماسية، حيث استعادت سيناء كاملة وفرضت على إسرائيل أن تنسحب وتوقف توسعها. وهكذا، صارت مصر أول دولة عربية تثبت أن السلام ليس انكسارًا، بل إرادة رشيدة للقوة بعد الانتصار.
فى تسعينيات القرن العشرين، ظهر مسار جديد.. يمكن أن نطلق عليه «تطبيع المثقفين»، وهو ما عُرف إعلاميًا وسياسيًا بلقاءات كوبنهاجن، والتي شارك فيها مثقفون مصريون معتبرون على غرار: لطفى الخولى ود. مراد وهبة وغيرهما.. فى حوارات فكرية مع نظرائهم الإسرائيليين. وهى حوارات حملت الكثير من الجدل والاعتراض، ولكنها فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من «الوعى الفكرى المتبادل»، وليس التطبيع بمعناه السياسى، بل كانت كسرًا للجدار النفسى الذي خلفته الحروب، ولذا تعتبر لقاءات كوبنهاجن بمثابة الجسر الفكرى المترتب على كامب ديفيد سياسيًا.
ومرورًا بلقاءات وتفاهمات أوروبية وإسكندنافية وأمريكية عديدة، جاءت قمة شرم الشيخ للسلام فى 13 أكتوبر 2025، حيث دعت مصر قادة العالم لتوقيع اتفاق إنهاء الحرب فى غزة.
أسهمت القاهرة فى إقرار الإطار الكامل للاتفاق.. من وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، إلى إعادة الإعمار الشامل، وضمان الأمن للطرفين. وللمرة الأولى، اتفقت واشنطن وأنقرة والدوحة وتل أبيب ورام الله منذ نصف قرن على نص واحد. ولذا فهى ليست مجرد قمة سياسية، بل نقطة تحول تاريخية.. برزت فيها الدولة المصرية كمركز توازن الشرق الأوسط وبوصلته.
سلام الشجعان وسلام الخرفان..
على مدار سنوات وعقود طويلة وأجيال متتالية.. تم شحن الوجدان العربى بالعديد من ثنائية الشعارات المتناقضة، مثل: «سلام الشجعان» و«سلام الخرفان». وعاش الإقليم العربى كله تحت تأثير أوهام ثلاثية الأبعاد. الوهم الناصرى الذي روّج لفكرة إلقاء إسرائيل فى البحر. والوهم اليسارى الذي صدر أن الخطاب الثورى سيكسر توازنات القوى. والوهم الإسلامى الذي سخر الواهمين السابقين فى رفع شعار (على القدس.. رايحين بالملايين).
والآن، ثبت أن كل تلك الشعارات لم تكن سوى ضباب أيديولوجى كثيف وموجه.. حجب الرؤية عن جوهر الصراع الحقيقى.. الذي هو صراع على الوعى قبل أن يكون على الوجود. وتحولت السردية الإسلامية نفسها، التي تبنت تحرير القدس، إلى وعاء يحمل فى محتواه سردية يهودية تاريخية قديمة تكره مصر وتخشاها، وتطورت بعد ذلك إلى سردية صهيونية صادرت العقل العربى ووجهته بعيدًا.
من هنا جاءت أهمية قمة شرم الشيخ التي لم تنه الحرب فقط، بل ستنهى على تلك السرديات المريضة التي استهلكت الوعى الجمعى ووأدت مشروع الدولة الحديثة. ولم تخضع القاهرة كل تلك السنوات لمزايدات المراهقة السياسية ولا لابتزاز الشعارات الوهمية.
واختار شعبها طريق السلام والحياة بعد حروب كبرى. وهو ما أكدته قمة شرم الشيخ للسلام.. التي كانت بمثابة الرد العملى على من يزايدون باسم المبدأ.. دون أن يتحملوا تكلفة أى قرار وتبعياته.
دلالات غياب نتنياهو..
كان من المقرر أن يحضر بنيامين نتنياهو «رئيس الوزراء الإسرائيلى» القمة. ثم اعتذر بشكل مفاجئ. وأعتقد أنه كان فى مأزق مزدوج. هو مدين للرئيس الأمريكى ترامب أنه أنقذه سياسيًا وكسر عزلته الدولية بواسطة مصر من جانب، وخشيته من اليمين الإسرائيلى المتطرف الذي يعتبر أى اتفاق مع الفلسطينيين بمثابة تنازل وجودى من جانب آخر.
وهكذا اختار الغياب ليحافظ على مكانته فى الداخل الإسرائيلى. وقد تحول هذا الغياب إلى مكسب.. إذ ظهر أن السلام يمكن أن يوقع.. دون حضور من يعارضه، لأن الواقع جاوز الخطاب التقليدى فى العلاقات العربية – الإسرائيلية.
قلادة النيل.. هدية ورسالة..
فى ختام القمة، أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي إهداء الرئيس الأمريكى «قلادة النيل»، وهى أرفع وسام مصري.. تقديرًا لدوره فى إنهاء الحرب، وهو مشهد مفعم بالرمزية لأن النيل بالنسبة لمصر ليس مجرد ماء، بل هوية وسيادة ووجود وحياة. وبالتالى فإن إهداءه «قلادة النيل» هو رسالة قبل أن يكون تكريمًا. وكما أن النيل لا يمنع سريانه ولا يقايض عليه، فإن السلام الذي ترعاه مصر لا يفرط فيه ولا يبتز من أحد.
«قلادة النيل».. كانت بمثابة إعلان أن القاهرة تملك نهرين لا ينضبان: نهر الحياة، ونهر الدور السياسى والإنسانى المصري.
>تاريخ يتكلم..
هناك ثلاثة تواريخ مهمة ترسم خط الزمن فى عملية السلام. أولهما 6 أكتوبر 1973، وعبور القوات المسلحة المصرية قناة السويس وتغيير معادلة الحرب المستحيلة إلى الأبد. وثانيهما 7 أكتوبر سنة 2023 من خلال عملية حركة حماس المتهورة التي أعادت إشعال فتيل الحرب فى المنطقة، والتي أثبتت أن الراديكالية لا تبنى وطنًا. وثالثهما 13 أكتوبر سنة 2025 الذي عقدت فيه قمة شرم الشيخ للسلام، وبداية صفحة جديدة من الحرب إلى الاستقرار، ومن الفوضى والدمار إلى البناء والتنمية.
تحالفات استمرار النار..
من المفارقات التي يمكن رصدها، أن بعض الأطراف الإقليمية ومعها اليمين الإسرائيلى يقفان فى خندق واحد.. كلاهما لا يريد إنهاء الحرب، بل يريد استمرارها لأطول وقت ممكن، مما يتيح لها نفوذًا وذريعة للبقاء فى المشهد. إنها تحالفات الأضداد.. وهو ما واجهته مصر بقاعدة «السلام الذي لا ينفذ.. لا يعتبر سلامًا». ولهذا جاءت صياغة اتفاق شرم الشيخ دقيقة ومرحلية بالنص على الانسحاب التدريجى، وعودة النازحين، وإطلاق الأسرى، وإعادة الإعمار تحت إشراف دولى لفتح أبواب البناء والتعمير.
ضمانات التنفيذ..
تدرك القاهرة منذ وقت مبكر.. أن أى اتفاق لا يملك ضمانات دولية قوية سيتحول إلى مجرد حبر على ورق تالف. ولذلك تلاقت الرغبات فى أن يكون توقيع الرئيس عبدالفتاح السيسي والرئيس الأمريكى دونالد ترامب شخصيًا عليها فى شرم الشيخ بحضور العديد من الرؤساء والملوك وممثلى الأمم المتحدة ووزراء خارجية الدول الكبرى، ضمانًا أساسيًا للتنفيذ.
أرادت مصر أن تنهى الحرب ليس عسكريًا فقط، بل سياسيًا وقانونيًا أيضًا.. لفرض حالة التزام دولى يصعب التراجع عنها. وهكذا ظهر اتفاق شرم الشيخ كوثيقة توازن بين الردع والسياسة، وبين الواقع والشرعية، وبين الأمن والتنمية.
بناء السلام..
الحقيقة أن المرحلة الأصعب تبدأ الآن.. من وقف النار إلى بناء السلام. وقف إطلاق النار هو البداية فقط، ويظل التحدى الحقيقى هو بناء السلام والانتقال إلى الاستقرار الدائم. وهذا يعنى إعادة إعمار غزة خلال خمس سنوات، وتنشيط الاقتصاد الفلسطينى، وتدشين مؤسسات حكم رشيدة، وتفكيك بنية حركة حماس وغيرها تدريجيًا. ورغم التأكيد أن الطريق ملىء بالعقبات، فالرهان هنا صمود حالة السلام واستمرارها. والمتوقع قريبًا، الدعوة لعقد مؤتمر إعادة الإعمار والتنمية فى غزة.. ليكون أول حركة عملية لتفعيل النصوص إلى الواقع.
ما بعد غزة..
تدرك مصر جيدًا أن غزة ليست نهاية الطريق بل بدايته. إن التسوية التي تمت فى شرم الشيخ تفتح الباب حسبما أرى لمساحات أخرى تشمل اليمن ولبنان وسوريا، والوصول إلى صيغة تفاهم مع إيران. ولذلك يمكن وصف هذا الاتفاق بأنه اتفاق الإقليم الجديد، وليس مجرد هدنة حدودية.
الشرق الأوسط الخالى من أسلحة الدمار الشامل والإرهاب.. بدأ يتشكل فعليًا على أرض شرم الشيخ، وليس فى قاعات الأمم المتحدة البعيدة، أو حتى فى جامعة الدول العربية القريبة.
أبطال خارج كادر الصورة..
وراء كل إنجاز علنى، تقف مؤسسات تعمل فى صمت.. لصناعة قرار سياسى ووطني حقيقى. وتظل المؤسسات المصرية المعنية والمنوط بها الحفاظ على الدولة المصرية.. الدور الحاسم فى نجاح قمة شرم الشيخ للسلام بعد التواصل بين جميع الأطراف فى أصعب الظروف.
هؤلاء هم صناع السلام.. الذين لا يرفعون شعارات ولا يتحدثون للإعلام، لكنهم يصنعون الفرق حين يصمت الكلام ويبدأ الفعل. ولقد أثبتت تلك التجربة الناجحة.. أن عملهم ليس مجرد كلمات، بل منظومة سياسية متكاملة تمتد من قصر الاتحادية إلى غرف العمليات، ومن مسارات التفاوض إلى جغرافيا سياسية جديدة.
إنه إنجاز يحسب للرئيس عبدالفتاح السيسي، ونجاح يُحسب لجهاز المخابرات العامة المصرية بقياداته ورجاله.. رجال الظل.. القادة الذين لا تلتقط لهم الصور.
نقطة ومن أول السطر..
فلسفة الدولة المصرية.. لا مناورات بالشعارات، ولا خوف من التحالفات لمن يملك شرعية التاريخ، وواقعية الجغرافيا، وعبقرية البقاء. من كامب ديفيد إلى شرم الشيخ، ومن 6 أكتوبر إلى 13 أكتوبر، يظل العبور هو شعار مصر الأبدى.. عبور فى الحرب، وعبور فى السلام، وعبور نحو مستقبل تصنعه لا تنتظره.
هكذا تكتب النهاية.. بقلم من يعرف كيف كانت البداية.
نقلاً عن مجلة روزاليوسف
















