الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

"إذا كان المرء مهتمًا حقًا بالإنسان وبلا شعوره فعليه ألا يقرأ الكتب المدرسية بل فليقرأ "بلزاك"، وليقرأ "دوستويفسكي" وليقرأ "كافكا".. ففي تلك النصوص تتعلم شيئًا عن الإنسان أكثر بكثير مما تتعلم في الكتابات التحليلية النفسية؛ فيها يجد المرء غنى التبصر العميق فيما يمكن أن يفعله التحليل النفسي، ويجب أن يفعله فيما يتعلق بالأفراد".. بهذا الاستثناء وصف المفكر والمحلل النفسي الكبير إيريك فروم في كتابه "فن الإصغاء" هؤلاء الأدباء الذين تركوا علامة فارقة في تاريخ الأدب؛ وبنفس الاستثناء تناولت المخرجة "إجنيسكا هولاند" سيرة حياة "كافكا"؛ سردت هولاند حياة "كافكا" سردًا غير معتاد كثيرًا بعالم السينما؛ وكأنها تعلن ضمنيًا أن هذا الرجل المنفرد والمتفرد في عالم الأدب يجب ألا يعامل معاملة مستهلكة تقليدية.

 

 

قدم فيلم "فرانز" ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي؛ وهو فيلم كما سبق وأشرنا لا يحمل توقعاتك عن تناول سير المبدعين الكبار؛ تقنية السرد المستهلكة عن طريق حكي قصة هذا الرجل أو ذاك باستعراض مشوار حياته وعلاقاته بمن حوله من الميلاد وحتى الوفاة غير واردة هنا على الإطلاق؛ بدلتها ودغدغتها المخرجة بأسلوب آخر يدخلك عالم "كافكا" الغامض والملغز الذي لم ولن تستوعبه بل سيظل لغزًا عصيًا على الفهم؛ رجل حمل لغزه داخله عاش كأنه في حلم قصير وتعاملت المخرجة معه وكأنه جاء الدنيا كحلم قصير بتفكيكها لحياته وشخصيته وأعماق نفسه المؤرقة دائمًا؛ وبتذليلها لأساليب السرد السينمائي تحت أقدام "فرانز كافكا"!

 

 

 

 

أسلوب سينمائي يربكك ويدهشك تمامًا مثل صاحبه الذي شكّل غموضه علامة فارقة في أدبه بالكامل؛ هو شخصيًا يعاني كثيرًا من الارتباك في التعايش مع من حوله.. هذا الشعور الداخلي بالتمزق أربك بنية الفيلم بالكامل؛ فأنت لست أمام عمل سينمائي يسير بتتابع مشهدي تقليدي، بينما تتشظى المشاهد واللقطات في وحدات متفرقة ثم تتوحد معًا وراء بعضها البعض في مزج بديع يتدفق بين تقنية الحكي التسجيلي والروائي؛ فهو خليط ومزيج من الشكل التوثيقي والتسجيلي لحياة هذا الرجل وبين الدراما؛ ففي أثناء الحدث الدرامي يقتطع الممثل الحدث والمشهد مخاطبًا الكاميرا لتشرح أمه أو أخته تفاصيل عن شخصيته وعلاقتهما به؛ ثم ننتقل بنعومة شديدة إلى الحياة المعاصرة ونجد مجموعة من المرشدين السياحيين الذين يتجولون شارحين لزوار متحف يضم مجموعة من أشيائه ومخطوطاته ثم كيف خضع هذا الرجل إلى منطق الاستهلاك عندما يشير الفيلم بلمحة ساخرة أن هناك مطعمًا باسمه "برجر كافكا" وكأنه تم تسليع الثقافة اليوم وخضوعها لإيقاع الحياة الاستهلاكية تتداخل هذه المشاهد مع واقع "كافكا" في منزله الجديد الذي قرر فيه الاستقلال عن أهله حتى يحيا في هدوء وكأنه يطلع من عالمه الآخر على هذا الواقع المعاصر يراقبه ويتأمله عن بعد؛ هذا التعدد في الرؤية خلق حالة سينمائية مكتملة بين التناول البصري والفكري فلم تشأ المخرجة تقديم مجرد تناول سيرة حياتية بسرد تقليدي، بينما أخضعت هذه السيرة لتأملاتها عنه كيف ترى هي "فرانز كافكا"؟!.. أحاطته بهالة من السحر والغموض الذي ميز شخصيته وتوغلت في لا وعيه مستعرضة لحظات من تجلي اللاشعور لديه.. نرى منذ بداية الفيلم مزج بين مشاهد طفولته ثم نضجه رجل هائم على وجهه في الحياة يغرق في هواجس وكابوس طويل؛ الحياة والتعامل مع البشر مجموعة من الكوابيس المتتالية التي تعرض عليه بشكل يومي لا يستطيع تحملها بينما يضطر دائمًا إلى مجاراتها دون أمل في النجاة من هذا الغرق؛ تمتزج طفولته بمراحل نضجه وتقدمه في السن إلا أنه ما زال يحيا في طفله الداخلي؛ بين رواية سيرة واضحة في علاقاته الاجتماعية والإنسانية ومحاولة سبر أغوار عالمه الغامض الذي يحيا داخله تتفرق المشاهد وتجتمع في سرد حياته.. علاقته بصديقه "ماكس برود" الذي لم ينفذ وصيته وأبقى على أعماله الأدبية؛ انعزاله بسبب ديانته اليهودية؛ علاقاته النسائية واختبار رغبته الجنسية في بيوت البغاء ثم علاقته بخطيبته ثم "ميلينا" ثم علاقته بوالده الذي شكل العنصر الأساسي في تكوينه الداخلي منذ طفولته؛ طبيعة والده الخشنة العنيفة ونفوره الشديد منه على الدوام وعدم اتفاقهما الدائم وسخط الوالد عليه لأنه لم يتبع تقاليد العائلة في مباشرة تجارتهم الخاصة فهو لم يكن مثلما أراده والده؛ وبالتالي ظلت هذه العلاقة هي الحجرة العسرة والجوهر الخفي وراء تشكيل معالم أدب "كافكا" وشخصيته المتأملة التي كانت على النقيض من والده؛ وفي أحد المشاهد المعبرة عن هذا التناقض البالغ بينهما أثناء الجلوس لتناول الطعام معًا يلتهم الأب طعامه التهامًا بينما يتأنى الآخر في "المضغ" على مهل حتى إن والده ينهره بضرورة أن يبتلع طعامه سريعًا لأنه ضجر بهذا السلوك المستفز؛ يكشف هذا المشهد عن الخلاف الجوهري في رؤية كل منهما للحياة هذا رجل هادئ متأمل لا يتعجل الأمور يتأمل في مضغ الطعام ويتذوقه على مهل مثلما يتذوق معنى الحياة بنفس الإيقاع والهدوء حتى يصل إلى جوهرها والآخر يأخذ منها مبتغاه في عجلة يلتهمها التهاما مثل قطع الدجاج التي يتناولها بنهم شديد.

 

 

 

 

لم يشترك فقط بطل العمل "إيدان فايس" في الشبه الكبير بينه وبين "فرانز كافكا"، بينما تمكن من التشبه بروحه؛ استطاع بحذق ومهارة استثنائية التلبس به وكأن "كافكا" حي يرزق من جديد؛ لم يقدم مجرد أداء تمثيلي جيد بينما جسد انعكاسًا حقيقيًا لمعاناة روحية لأديب كبير؛ حالاته الكابوسية عاشها إيدان وكأنها كوابيسه الخاصة؛ هذه المعاناة التي شكلت ميراثًا أدبيًا لن يمحى من تاريخ الإنسانية مهما خضعت الثقافة لإيقاع الحياة السريع.. عزفت "هولاند" وفريق عملها سيمفونية سينمائية متعددة النغمات والألحان والإيقاع في استعراضها لحياة الأديب الأهم صاحب الجسد النحيل والحساسية المفرطة تجاه البشر والأشياء من حوله؛ لم تكن مجرد صياغة سينمائية لسرد رحلة حياة هذا المبدع القصيرة بقدر ما قدمته كحالة أدبية وإنسانية فريدة.

تم نسخ الرابط