"فورة الشباب وغدر الجماعة الوطنية" في كتاب "غزال البر.. إبراهيم الورداني" لأمين شلبي
كتب - محمد خضير
صدر حديثا كتاب "غزال البر.. إبراهيم الورداني.. فورة الشباب وغدر الجماعة الوطنية"، للكاتب الصحفي محمد شلبي أمين، سكرتير تحرير مجلة الهلال، حيث صدر الكتاب عن دار كليوباترا للنشر والتوزيع.
يرصد الكاتب كيف استيقظ المصريون صباح يوم 21 من جمادى الآخرة سنة1328 هـ، 28 يونيو سنة1910م هذ اليوم الذي لم تشرق فيه شمس الحرية بعد، على هم كئيب جدد أحزانهم الدفينة بقلوبهم المكلومة في خيرة شبابهم، واجهوا يومهم العصيب الذي تجاوز ظلامه الليل البهيم بكل قوة ورباطة جأش حينما سمعوا خبر إعدام الشاب المصري الأصيل، الوطني حتى النخاع، المغرر به من قبل الجماعة الوطنية كما أطلقوا على أنفسهم؛ حيث اندفع الشاب العشريني العمر، الصيدلي المهنة، إبراهيم ناصف الورداني، النموذج الحقيقي لكل أبناء جيله الأوفياء، اندفع بفورة الشباب ليقتل بطرس غالى رئيس وزراء مصر وقتها.
ويعرض الكتاب، حينما علمت الجماهير بليلة تنفيذ الحكم خرج الشعب المصري عن بكرة أبيه بكل طوائفه شبابا وشيوخا ونساء من كل بقعة في أرض مصر، بمظاهرات تجوب البلاد طولا وعرضا يتغنون بحزن وأسى:
" قولوا لعين الشمس ما تحماشي
أحسن غزال البر صابح ماشي".
وقهرا لهذه الأمة نفذ حكم الإعدام.
وأصبح هذا الاغتيال هو الأول من نوعه.
كما صار الورداني صاحب أول عملية اغتيال سياسية في مصر الحديثة بعد أكثر من قرن من الزمان، منذ أن اغتال الطالب الأزهري التعليم، الشامى الأصل.. سليمان الحلبى، الجنرال الفرنساوي كليبر، في يونيو عام1800م.
تبع الورداني بعد ذلك الشاب الوطني المسيحي عريان يوسف سعد، الذي تطوع مختارا لاغتيال رئيس الوزراء المصري المسيحي يوسف باشا وهبة، وحتى لا يتم استغلال الحدث بأنه اغتيال طائفي من قبل الاحتلال البغيض فيقوم بتشويه وتفتيت المجتمع المصري والانتقام من حركته الوطنية.
ووأدا لفتنة جديدة قد يشعلها المحتل كعادته باسم الطائفية، وكما حدث في المحاولة الفاشلة مع إبراهيم الورداني.
وبالفعل كمن له عريان في ميدان سليمان باشا بوسط العاصمة وألقى على سيارته قنبلتين، لكن يوسف باشا لم يمت، وحكم على عريان بعشر سنوات أشغال شاقة.
ثم تبعهم ابن القليوبية سعد حلاوة، الشاب الذي رفض استقبال الرئيس السادات الياهوبن إليسار، سفير بنى صهيون بمصر، واحتج على رفع علمهم في سماء القاهرة.
موقف جعل قلب العروبة يرفل في حزن مكتوم مقرون بحالة من الصمت المغطى بالذهول الفائض بالحسرة والمرارة؛ حاول أهلنا الإفاقة من هذا الكابوس الذي طالما أرق منامهم ليستيقظوا على كابوس أشد إيلاما، حينما رأوا هذا العلم يرفرف لأول مرة في تاريخ الإنسانية في سماء العاصمة المصرية. وشاهدوا أول بعثة صهيونية في عاصمة أم الدنيا.
كان يوما من أصعب الأيام التي مرت على الشعب المصري، استوعبه البعض ورفضه البعض الآخر.
رفض عقل سعد تماما قبول هذا الوضع الجائر، فقام باحتجاز بعض أبناء قريته كرهائن بمقر الوحدة المحلية بأجهور مركز طوخ قليوبية.
كان سعد شابا في الثالثة والثلاثين من عمره، يعيش حياة هادئة مع أسرته التي تتكون من والديه وأشقائه الستة الذين تخرجوا جميعا في الجامعة، عداه فهو لم يكمل تعليمه ويعمل بزراعة 30 فدانا مع والده.
لم ينتم لأى حزب أو تنظيم سياسي، لكنه كان محبا لقراءة الجرائد، فقرأ بإحدى الصحف خبرا منشورا على استحياء عن افتتاح سفارة للكيان الصهيوني على ضفاف نيل القاهرة.
فحمل رشاشه ومسدسه الروسي القديم وكمية من الطلقات، وراديو كاسيت وكشاف إضاءة ومجموعة شرائط بها أغنيات وطنية لعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وعبد الوهاب، إلى جانب تسجيلات لبعض خطب عبد الناصر.
وتسجيل لبعض سور القرآن بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وذهب في هدوء إلى مقر الوحدة المحلية بقريته؛ صعد لمكاتب الموظفين، وقف على رؤوسهم موجها لهم فوهة رشاشه وأمرهم بالثبات في أماكنهم، لكنهم فروا جميعا ثقة في طيبته الشديدة ويقينا بأنه لن يؤذيهم، للأسف ظل اثنين منهم في مكانهما، فأصبحا رهينته.
وضع مكبرا للصوت وبدأ يخاطب أهل القرية الذين احتشدوا وأخبرهم أنه ليس قاتلا، لكنه يرفض هذا الوجود الصهيوني المحتل الذي دنس أرض مصر.
تحولت القرية الهادئة الآمنة المطمئنة خلال ساعات إلى ثكنة عسكرية، فحاصرتها قوات الأمن وأغلقت الفرق الخاصة كل الطرق المؤدية إلى مقر احتجاز الرهينتين، واعتلت القناصة المنازل المواجهة له.
ودارت المفاوضات التي أنهاها سعد قبل بدايتها حين رد على القيادات الأمنية قائلا: لن أفرج عن الرهينتين إﻻ بعد طرد السفير الإسرائيلي وإذاعة بيان رسمي بهذا في الإذاعة المصرية.
حاول وزير الداخلية آنذاك النبوي إسماعيل إقناعه بالإفراج عن الرهينتين وتسليم نفسه، لكنه أبى وأصر على مطالبه متهما الرئيس السادات وزوجته ومعاونيه بالخيانة، وبدأ يشغل أغاني عبد الحليم الوطنية عبر مكبر الصوت.
تعقد الموقف بوصول مصوري وكاﻻت الأنباء واعتبار الكثيرين له بطلا قوميا، فصدر القرار بالهجوم بقوات سميت قوات مكافحة الإرهاب الدولي، وانتهى المشهد المأساوي بإنهاء حياة سعد برصاصات استقرت في رأسه، واتفقت كل الصحف الرسمية على عنوان واحد "مقتل مختل عقليا كان يحتجز رهائن في إحدى قرى القليوبية ".
المحرك لهم جميعا واحد.. تجلى في ثورة شباب يناير2011م، لكن هذه الثورة للأسف قوبلت بإنكار تام، وصمت يصل إلى حد الغدر.. من الجماعة الوطنية التي حركتها داخلهم.



