رحيل القبطي الذي صنع التاريخ
كتب - عادل عبدالمحسن
رحل منذ قليل رجل سيظل على طول الزمن علامة مصرية يشار إليها بالبنان، إنه اللواء باقي زكي يوسف، صاحب فكرة استخدام مضخات المياه في هدم خط بارليف الذي أقامته إسرائيل على الضفة الشرقية لقناة السويس لإجهاض أي محاولة عبور مصرية لتحرير سيناء من قوات الاحتلال الإسرائيلي.
في ليلة من ليالي شهر مايو سنة 1969 كانت الحركة غير عادية في الفرقة 19 حيث تتمركز في وضع دفاعي غرب القناة، وتستعد طبقًا لتعليمات القيادة العامة للقوات المسلحة وقتها لاتخاذ مواقعها لاتخاذ مواقعها الهجومية، وفتح ثغرات في جسم خط بارليف، والعبور للضفة الشرقية من القناة.
وعقدت قيادة الفرقة اجتماعًا لاستطلاع آراء القادة في أنسب للوضع الهجومي للفرقة، وفجأة تحدث المقدم باقي زكى يوسف طالبًا الكلمة فرد عليه قائد الفرقة
إيه يا باقي؟ دورك في الكلام لم يأت بعد.
أنت نمت وإلا إيه؟ فرد المقدم - حينذاك - «باقى زكى يوسف» بقوله: لا يا أفندم بعد إذن سيادتك أنا لدى ما أقوله تعليقًا على شرح باقي قادة الفرقة.
وقبل أن يأذن له قائد الفرقة سواء بالرفض أو بالقبول، ارتفع من بعيد صوت قائد عمليات الفرقة 19 المتمركزة دفاعيًا غرب القناة وهو اللواء طلعت مسلم فيما بعد قائلًا: "طيب نسمعه يا أفندم"!
قال قائد الفرقة: عندك إيه يا باقى؟ اتفضل، قال: يا أفندم أنا استمعت لشرح ومهام العملية من السادة قادة الاستطلاع والعمليات والمهندسين، وأنا اتحدت بصفتي قائد المركبات في الفرقة والتي سيكون دورها في العملية هو نقل المعدات ورفع المخلفات التي ستحدثها عمليات الفتحات في جسم خط بارليف.
رد القائد: تمام.. لذلك قلت لك انتظر في نهاية الاجتماع.
هنا التقط المقدم باقي زكى خط الكلام، وأعاد في جمل مختصرة رؤية كل قائد سلاح في الفرقة من حيث الوقت الزمنى والخسائر المتوقعة وكل التفاصيل المشابهة.. وأثناء ذلك الشرح وجد نفسه بدون ترتيب ولا تفكير ولا إنذار مسبق يقول: بس يا فندم فيه حل تانى؟ نظر القائد والقادة إليه.. وهو يواصل كلام.. «أيوه يا أفندم.. فيه حل تانى والميه تحتنا يا أفندم.. نظر الجميع في دهشة وهز القائد رأسه ليواصل «باقى» كلامه «طلمبات ماسة كابسة تثبت على زوارق خفيفة قوية تسحب الميه من القناة وتضخها بقوة اندفاع كبيرة عن طريق «بشابير» على الساتر الترابى، فينهار وتجرف المية الرمل بمساعدة درجة الميل في الساتر فتسقط الرمال بقوة إلى قاع القناة.
وسكت الضابط الشاب وقتها عند هذه النقطة، والصمت خيم على المكان، القائد مذهول من الفكرة والقادة ذهبت عقولهم معها إلى «سكة» أخرى. والساعة اقتربت من الواحدة والنصف ليلًا.
وضوء القمر بدأ يتسرب إلى المخبأ الذي يستقبل الاجتماع، والضابط «باقى» مازال صامتًا.
قال له قائد الفرقة والأمل بدأ يشرف على وجهه والبسمة التي لم تعرف وجهة من سنوات عادت في خجل وقلق وأمل ثم قال: واحدة.. واحدة.. علينا كده.. وعيد من الأول.
وأعاد الضابط «باقى» قوله وفكرته - التي جاءت حسب قوله من عند ربنا - أكثر من مرة حتى وصلت إلى الرئيس جمال عبدالناصر مرورًا بقادة العمليات وسلاح المهندسين ورئاسة الأركان ووزير الدفاع وقتها.. لتكون هذه الفكرة هي السلاح الذي قهر خط بارليف في ست ساعات دون أي خسائر بشرية تذكر.
اليوم يرحل اللواء باقي زكى يوسف عن دنيانا جميل يطوق رقاب المصريين جيلًا بعد الجيل إنه صاحب الفكرة، التي ساعدت في تحقيق النصر بأقل الخسائر وتدمير خط بارليف في 6 ساعات.
اللواء باقي زكى يوسف من مواليد 1931 ودرس في كلية الهندسة جامعة عين شمس قسم ميكانيكا سنة 1954. والتحق بالقوات المسلحة في ديسمبر 1954 وعمل في القوات المسلحة في جميع الرتب والمواقع المختلفة حتى رتبة اللواء في 1984، وأثناء خدمته كان بناء السد العالي بدأ العمل فيه، وطلب وقتها من القوات المسلحة ضباط مهندسون في تخصصات مختلفة وخصوصًا المحركات والمعدات.
ووقع الاختيار عليه، ليكون من الطقم الذي سافر للعمل في السد العالي، وكانت مهمته نقل الحجر والصخور والرمال وتجريف المواقع المحددة والمتفق عليها في الخطة. وفى أوائل يونية 1967 ثم جاءت النكسة في 5 يونيو، الذي وصفها الراحل الكبير بأنها كانت ليست نكسة ولكنها «كمينا» دوليا دبر بليل لمصر، حتى يتم تحجيم مصر من نجاحها وطموحها وتوجهها العروبي في ذلك الوقت بعد اليمن والجزائر. ومن هنا تم تسليح إسرائيل بمعدات عسكرية متقدمة.
وعندما عاد من مهمته في أسوان توجه إلى الورش التي كان يعمل بها قبل انضمامه لفريق العمل في السد العالي، ثم وجدت نفسه رئيس فرع مركبات الفرقة 19.
وخلال الجلسة التي جمعته بقادة الفرقة ودار فيها ما دار وطرح فكرته
عن إزالة الساتر الترابي، وخيم الصمت على الجميع.. ويومها عادت البسمة على وجه قائد الفرقة، وكأنه كان يبحث عن ابن «تايه».
وما إن أنتهى الاجتماع وعلى الفور اتصل بالقيادة الأعلى للفرقة - رغم أن الوقت كان متأخرًا - والقيادة الأعلى اتصلت بالقيادة بالقاهرة، ثم جاء الصباح وسافر للقاهرة لقيادة الأركان في العمليات، وبعد دقائق كان في قيادة سلاح المهندسين وبعدها عاد إلى قيادة العمليات، وتم الاستماع لما طرحه في اجتماع الفرقة، ثم عاد للجبهة مرة ثانية وبعد أيام تلقى اتصالًا من قائد الفرقة، وطلب منه كتابة الفكرة باختصار، على أن تكون جاهزة بعد ساعات، لأن قيادة الجيش هيجتمعوا مع الرئيس عبدالناصر ومرت شهور بعد شهور، وتحولت الفكرة إلى واقع وبدأ سلاح المهندسين يعمل على تحقيق الهدف من الفكرة.
وجاء يوم السادس من أكتوبر لتتحقق الفكرة على أرض الواقع ويتحقق النصر
والراحل الكبير منحته الدولة تقديرا لدورة في حرب أكتوبر
*نوط الجمهورية العسكري من الطبقة الأولى سنه1973
*وسام الجمهورية من الطبقة الثانية سنه 1984



