السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

إحسان عبدالقدوس في عين أمه

إحسان عبدالقدوس في
إحسان عبدالقدوس في عين أمه
كتب - عادل عبدالمحسن

علاقة إحسان عبدالقدوس بوالدته فاطمة اليوسف، ربما لا يوجد من يفهمها، حتى إحسان نفسه لم يفهمها، لأنه كان في حيرة حول شخصية والدته، عندما أمطرنا في مقدمة كتابها "ذكريات"، بطبعته الأولى بالكثير من التساؤلات عنها.

العلاقة بين الابن والأم، تصل إلى أوج لحظاتها، أمام وكيل النائب العام، أثناء التحقيق في قضية نشر، حيث حاول كل منهما أن يلقى المسؤولية على نفسه لتبرئة الآخر، الابن يؤكد أنه هو المسؤول عن النشر، والأم تصر على أنها هي المسؤولة.

 إنها علاقة حب من نوع خاص، ولم تكن علاقة أم بابنها، ولكنها كانت قصة حب، وليس حبًا عاديًا.. كان حبًا جديرًا بالمسؤولية يساند فيه كل منهما الآخر في أزماته.. سر العلاقة بين إحسان وفاطمة اليوسف يظهر من خلال ما كتبته الأم عن ولدها إحسان وعمره ستة أشهر، حيث كتبت في مذكراتها - الصادرة عن كتاب "روزاليوسف" - التي أهدتها إلى إحسان «إليك يا بني، أهدي هذه الذكريات» الناقصة، كما تقول..

 

 

وإنك لتعلم أن من الأشياء ما يصعب على المرء أن يقوله، أو يوضحه.. وأنه ليكفي أن تكون عالمًا بما في هذه الذكريات من نقص، لأطمئن إلى أنك سوف تكملها ذات يوم.

تقول فاطمة اليوسف، الآن وأنا أجلس في مكتبي لأكتب الحلقة الأخيرة من هذه الذكريات، أرى كلما انفتح باب غرفتي.. إحسان في غرفة مكتبه الزرقاء قد خلع الجاكتة، وفك الكرافت وعلى وجهه تلك "التكشيرة"، التي لبسها إذا استغرق في العمل، كأنه عصر ذهنه، أو كأنه يريد أن يذوب في الورق الذي أمامه.. ولا أملك نفسي حين أنظر إليه من الابتسام، وخاطري تطوف به عشرات من الصور والأحداث التي كان إحسان موضوعها، أو كان بطلها.

وتقف ذاكرتي واجمة ساهمة عند حادث صغير، وإحسان لم يزل ابن ستة أشهر.

كتبت في ذلك الوقت، لا أزال شابة السن، همّي كله منصرف إلى المستقبل، الذي أحلم به، واسمي الذي أريد أن أبنيه، والنشاط الذي كاد ينسيني نفسي، وبيتي، وكل ما يتعلق بحياتي الخاصة.

وفجأة خرجت المرضعة التي كانت تعتني بإحسان.. واضطررت أن استخدم في طعامه، اللبن العادي الذي يباع في الأسواق.. وإذا به يصاب بتلبك خطير في المعدة، فهو يسحب ويهزل وتسكن حركته، ويضعف الخيط الذي يربطه بالحياة، ووجدت نفسي أنسى العمل الذي أنهض به، والمجد الذي أبحث عنه، وأنسى كل شيء، إلا أنني أم وأن ابني في خطر.

وتضاءلت كل الأحلام الرائعة، التي تطوف بي أمام حلم واحد هو أن يعيش ولدي، وتبدد كل نشاطي للعمل الكثير غير عمل واحد هو أن أُعني بهذا الابن، وأن أبذل له كل ما أملك.

وأسرعت به إلى الطبيب، وكان الدواء الذي وصفه له يقتضي مني أن ألازمه خمسة وثلاثين يومًا، لا أبعد فيها عن فراشه شبرًا واحدًا، ولم أشعر بضجر من البقاء في البيت طيلة هذه الأيام، ولم أشعر بفراغ، وأنا أنسى مشاكل الحياة العامة، لأحصر تفكيري في هذا الفراش الصغير، لقد اكتشفت أن العناية بابني لا تقل خطرًا ولا جلالًا عن الإيمان بمبدأ أن العمل لأي غاية كبيرة، والكفاح من أجل حياته وصحته ومستقبله لا يقل شرفًا عن الكفاح من أجل أي عقيدة أخرى.

 

 

ومن يومها والبيت شغل من اهتمامي قدر ما يشغله عملي وجهدي وكل متاعبي.

ولست أنسى يوم فتح إحسان فمه لأول مرة ليبكي بعد أن أسكته المرض هذا الزمن الطويل، وجريت إلى الطبيب أقول: إنه يبكي.

رحلة طويلة وعمر مديد بين لحظة الخوف على فقدان الابن وكتابة فاطمة اليوسف رسالتها في كتاب ذكريات هذه الفترة تمثل ثمرة كفاح أم أردت لابنها أن يكون أسمًا تحت الشمس مثلما استطاعت أن تحفر اسمها بين عالم الفن والصحافة من رحم طفلة حافية القدمين، ألقت بها الأقدار إلى عالم الشهرة والخلود.

في كتابها ذكريات، لم تنس هذه الأم العظيمة أن تبدي تخوفها مرة أخرى على مستقبل ابنها مثلما خافت يومًا على حياته أثناء مرضه.

وتقول فاطمة اليوسف، إن ابنها إحسان يميل إلى الخيال مثل والده محمد عبدالقدوس، وليس واقعيًا مما جعلها تخاف على مستقبله، لذلك جعلت مستقبل فلذة كبدها جل اهتمامها.

وفى ذلك يقول إحسان في مقدمة كتابها ذكريات التي طلبت من نجلها أن يكملها يوما، إن والدتي السيدة فاطمة اليوسف لم تحدثنا في هذه الذكريات عن المشكلة الكبرى التي استطاعت وحدها أن تحلها، والتي لا يزال المجتمع المصري كله حائرًا أمامها: كيف استطاعت أن تجمع بين جهادها الشاق المضني الذي بدأته وهي السابعة من عمرها.. وبين واجبها كزوجة وكأم؟!

ولا أدري كيف استطاعت أن تحملني تسعة شهور، وهي واقفة على خشبة المسرح تعتصر الفن من دمها وأعصابها لتكون يومها أعظم ممثلة في الشرق.

ويضيف إحسان: لا أدري كيف استطاعت أن تطرد عنى الموت الذي طاف بي مرات خلال طفولتي وصباي، في حين أنها كانت دائمًا بعيدة عني تسعى في طريق مجدها.

ولا أدرى كيف استطاعت أن تنشئني هذه النشأة وأن تغرس في هذه المبادئ وهذا العناد وأن تقودني كطفل وكشاب في مدارج النجاح وفى حين أنى لم ألتق بها أبدا، إلا وفي رأسها مشروع وبين يديها عمل.

كيف استطاعت أن تجمع في شخصها كل هذا؟!

ويعترف إحسان بأن والدته فاطمة اليوسف، قد صنعته بيديها كما صنعت مجدها، ويظهر هذا جليا عندما كان إحسان في المرحلة الثانوية، وأرسلته إلى الإسكندرية، لإحضار أخبار عن اجتماعات مجلس الوزراء في مقر الحكومة الصيفي حتى يتعود الابن على جلد الحياة.

ومن الوقائع الأخرى التربوية رفضها أن يتولى إحسان رئاسة تحرير مجلة روزاليوسف، بعد أداء امتحان الليسانس بكلية الحقوق، فقبل أن تظهر النتيجة جاء الابن من الكلية، مسرعًا واحتل مكتبا في المجلة وأعلن نفسه رئيسا للتحرير، ولما اعترضت على ذلك قال لها: أمال أنا كنت باتعلم علشان إيه؟!. مش علشان اشتغل بدالك وأنت تستريحي وتضيف الأم حاولت أن أقنعه بأنه لابد له من بعض التمرين قبل أن يرأس تحرير المجلة، ولكنه أبي ورفض أن يعمل في روزاليوسف إلا رئيسا للتحرير.. ولما أخذت عليه هذا العناد فاللي كالعادة: هوه أنا جايب العناد من بره؟

وكأنه أراد أن يثبت لي أنه يستطيع أن يمضي بمفرده، وأنه لا يطالب بذلك لمجرد أنه ابن صاحبة المجلة، فذهب إلى التابعي الذي كان يصدر "آخر ساعة"، فالتحق بها، وكنت أعطيه لقاء تمرينه في "روزاليوسف"، ستة جنيهات فأعطاه التابعي خمسة وعشرين.

وانتظرت أن يعود بعد قليل، ولكنه لم يعد فقد نجح هناك وبرز وأصبح عنصرًا هامًا.. واتصلت بالتابعي بالتليفون أعاتبه ــ أو بالأصح أتشاجر معه ــ لأنه يغرى ابنى على العمل معه.. وقلت له: إنني أستطيع أن أعطيه المرتب الذي تدفعه له وأكثر، ولكنني أريده أن يتمرن.

واعترف بأنني كنت أهاجم التابعي بشدة على تمسكه بإحسان، وأنا مسرورة في دخيلة نفسي.. فقد كنت أمام دليل قاطع على أن ابني قد نجح، وأنه يستطيع أن يقف على قدميه.

وهذا يظهر مدى تبدد مخاوفها من أن يصبح الابن خياليا لا يعيش الواقع، ولكن عاش إحسان الواقع وصال وجال في المعارك السياسية كما فعلها في إنتاجه الروائي والأدبي، وهكذا عاش إحسان الواقع وأطلق العنان للخيال.

رحل إحسان ووالدته، وبقيت ذكرياتهما محفورة في عمر الزمن عصية على النسيان.

اليوم تمر ذكرى 100 عام على ميلاد إحسان عبدالقدوس، الذي رحل عن الدنيا بجسده، ويبقى خالدًا بأعماله وإنتاجه الأدبي والروائي ومدرسته الصحفية الجدلية المشاكسة.

 

تم نسخ الرابط