إحسان عبد القدوس يكتب: أمي.. هذه السيدة
هذه الذكريات ناقصة.. ناقصة إلى حد كبير!
إن والدتي السيدة فاطمة اليوسف لم تحدثنا في هذه الذكريات، عن المشكلة الكبرى التي استطاعت وحدها أن تحلها، والتي لا يزال المجتمع المصري كله حائرا أمامها: كيف استطاعت أن تجمع بين جهادها الشاق المضنى الذي بدأته وهي في السابعة من عمرها.. وبين واجبها كزوجة وكأم؟!
أنا نفسي لا أدرس!
لا أدري كيف استطاعت أن تحملني تسعة شهور وهي واقفة على خشبة المسرح تعتصر الفن من دمها وأعصابها لتكون يومها أعظم ممثلة في الشرق.
ولا أدرى كيف استطاعت أن تطرد عنى الموت الذي طاف بي مرات خلال طفولتي وصباي، في حين أنها كانت دائما بعيدة عني تسعى في طريق مجدها.
ولا أدري كيف استطاعت أن تنشئني هذه النشأة، وأن تغرس في هذه المبادئ وهذا العناد، وأن تقودني كطفل وكشاب في مدارج النجاح، في حين أنى لم ألتق بها أبدا إلا وفي رأسها مشروع وبين يديها عمل.
كيف استطاعت أن تجمع في شخصها كل هذا؟
وإذا كانت قد استطاعته، فكيف تستطيعه أي سيدة أخرى تريد أن تسعى سعيها..
إنها لم تكن غنية يوم ولدتني ويوم نشأت في رعايتها، ولا كان أبي غنيا.. فلم يكن لنا قدرة على استئجار مربية لتعهد بي إليها، ولم تكن الحياة قد سهلت إلى هذا الحد الذي نراه الآن لتيسر تربية الأطفال.. إنما هي التي صنعتني بيديها، هي التي أرضعتني، وهي التي أعدت طعامي، وهي التي بدلت ثيابي، وهي التي قامت على مرضي، وهي التي وضعتني في فراشي، وهي التي علمتني كيف أخطو، ولقنتني كيف أنطق.
صنعتني بيديها، كما صنعت مجدها بيديها، كل يوم من أيام هذا المجد، وكل حرف فيه، وكل خطوة من خطواتها.. هي وحدها صاحبة الفضل فيه، وليس لأحد فضل عليها.
هي التي التقطت دروس الفن وجعلت من نفسها «سارة برنارد الشرق» كما أطلق عليها نقاد ذلك الجيل.
هي التي دخلت ميدان الصحافة وفي يديها خمسة جنيهات وأنشأت مجلة تحمل اسما يكاد يكون اسما أجنبيا- وهو الاسم الذي اشتهرت به على المسرح- فاستطاعت أن تجعل من هذه المجلة أقوى المجلات نفوذا في الشرق. وأن ترسم بها مستقبل مصر، واستطاعت أن تجعل من هذا الاسم الذي يكاد يكون أجنبيا، علما يضم تحته كل الكتاب وأنضج الآراء، ولا يثير عجبا في مصر، كما لا يثير الأهرام أو أبو الهول عجبا بين بني مصر.
وهي التي لقنت نفسها أصول الوطنية والمبادئ السياسية إلى أن استطاعت أن تملي أدق الآراء، وأن تتنبأ أصدق التنبؤات.. وفي تاريخ «روزاليوسف» الطويل، أي منذ ثمانية وعشرين عاما إلى اليوم، لم يسقط رأي من آرائها، ولم تخط مصر خطوة من تاريخها إلا وكانت هي الداعية لها.
وهي.. السيدة التي لا تحمل شهادة مدرسية ولا مؤهلا علميا.. هي التي أخرجت جيلا كاملا من الكتاب السياسيين ومن الصحفيين.. هي التي أرشدت أقلامهم، وهي التي وجهتهم، وهي التي بثت الروح فيهم، وهي التي انتقتهم ورشحتهم لمستقبلهم.. ولا تزال إلى اليوم تُخَرِّج منهم فوجا بعد فوج.
وهي.. السيدة اليتيمة التي واجهت مسؤوليات الحياة وهي في السابعة من عمرها.. هي التي استطاعت يوما أن تتحدى كل سلطات الدولة.. الإنجليز والملك والأحزاب كلها.. وتآلبوا جميعا عليها يحاولون هدمها ويحاولون القضاء على هذه الصفحات الثائرة التي تحمل اسمها.. ولكنهم لم يستطيعوا إلا أن يجعلوها فقيرة أحيانا، وأن يسجنوها حينا، وأن يصادروها عشرات المرات، وأن يحاكموها مئات المرات.. وأن.. وأن.. ولكن الصفحات الثائرة ظلت تصدر دائما وبانتظام لم يستطع أحد منهم أن يقضي عليها، ولم يستطع أحد منهم أن يحني هذا الرأس العنيد القوي، ولم يستطع أحد منهم أن يكون أقوى من هذه الوحيدة اليتمية.. السيدة!
كيف حدث هذا؟!
أنا نفسي لا أدري!
وكنت أحيانا أضع نفسي بعيدا عنها وأجرد نفسي من عاطفتي نحوها، ثم أحاول أن أدرسها كما يدرسها أي غريب عنها، علني أجد مفتاحا لشخصيتها، وعلني أخرج من دراستي بقاعدة عامة لحياتها أطبقها على بنات جنسها.. ولكني كنت أخرج دائما بمجموعة من المتناقضات لا يمكن أن تجتمع في إنسان واحد.
إنها هادئة رقيقة تكاد تذوب رقة.. يحمر وجهها خجلا إذا ما سمعت كلمة ثناء.. ويكاد صوتها الناعم الخفيض الرفيع المنغم يشبه صوت فتاة في الرابعة عشرة.. وهي تفضل العزلة، ولها دنيا خاصة تعيش فيها، وليس لها كثير من الأصدقاء الخصوصيين، رجالا أو نساء، وأغلب من يعرفونها لا تعرفهم، وهي تكره المجتمعات وتكره أن تقيم في بيتها حفلا، أو مأدبة، بل إنها في بعدها عن الناس يفوتها كثير من المجاملات حتى المجاملات التي يتطلبها العمل.. وهي بعد كل هذا قلب طيب ينشر الحب والسلام حوله، حتى تبدو ساذجة تستطيع أن تضحك عليها بكلمة، ويد سخية تعطي باستمرار وتأبى أن تأخذ نظير ما تعطي.
هذا وجه من أوجه شخصيتها.. وجه تراه في بيتها، وهي واقفة في المطبخ تعد طبق ورق العنب، كزوجة مثالية ثم تدور بين الغرف ترتب قطع الأثاث، أو تنمق أواني الزهر.. أو تراه في مكتبها وكل شيء هادئ من حولها والعمل يسير في نظامه الرتيب.
وفجأة يتغير هذا الوجه.. فإذا به أعنف من العاصفة، وإذا بهذا الصوت الرفيع يرتفع ليزلزل مكاتب المحررين وعنابر المطبعة من حوله.. وإذا بها قوية إلى حد القسوة، جريئة إلى حد التهور، لا تخفي رأيا صريحا ولا تصون مصلحة من مصالحها.. جريئة إلى حد أن تقول لكريم ثابت عندما جاءها يبلغها تهنئة فاروق بمرور عام من أعوام مجلتها: «قل لمولاك أني أرفض تهنئته» وجريئة إلى حد أن تقول لإبراهيم عبد الهادي وهو في سطوة نفوذه: «يا إبراهيم استقل».. وجريئة إلى حد أن تتحدى وحدها مظاهرة ضخمة أطلقها الوفد عليها ليحطم دارها.
وإذا بها مختلطة بالناس إلى حد أن تتردد على دور الأحزاب وتشترك في الاجتماعات السياسية، وتدعو الزعماء إلى بيتها.
وإذا بها قاسية إلى حد أن تطردني من العمل أو تستغني عن خدمات محرر آخر، ربما لم يمض على منحه مكافأة أسبوع واحد، وبخيلة إلى حد أن ترفض قرضا لعامل قد تكون وهبته بالأمس إعانة من جيبها الخاص.
وتبحث كل هذه المتناقضات.. فإذا بها كانت محقة في هدوئها، وكانت محقة في ثورتها، وكانت محقة في طيبتها وكانت محقة في قسوتها، وكانت محقة في كرمها وكانت محقة في بخلها.
ولكن ما هي الشخصية الواحدة التي تملي عليها كل هذه التصرفات.
هل يكفي أن نقول إنها ذكية؟
هل يكفي أن نقول إنها قوية؟
هل يكفي أن نقول إنها صادقة الإحساس، وإن تصرفاتها كلها تصدر من هذا الإحساس؟
أنا نفسي لا أدري!
فإذا اقتربت منها وحاولت أن أدرسها بإحساسي كابن لها، ازددت حيرة وواجهتني نفس المتناقضات.
فهي أم حنون مرهفة العاطفة، إلى حد أنها لا تزال أحيانا تبكي وهي تقبلني، بل إن عاطفتها تغلبها أحيانا فتقبلني أمام زملائي المحررين، وأذوب أنا خجلا منهم! بل إنها تفرح باليوم الذي أقضيه في بيتها كأنها أم ريفية تستقبل ولدها بعد غياب طويل، وتكاد تشعرني بأنها ابنتي أكثر منها أمي فأضمها بين ذراعي وأسند رأسها على صدري وأربت عليها وأغمر جبينها الطاهر بقبلاتي كأنها طفلة تحتمي بي.
ويبلغ من حنانها، أنها- قبل أن أشترك معها في العمل- كانت تخفي عني كل ما يصيبها من نكبات، وحدث أن خسرت كل ما تملك نتيجة حملة اضطهاد سلطتها عليها حكومة الوفد، حتى إنها لم تستطع أن تدفع رواتب الخدم والسائق، فتركوها جميعا وكل منهم يترك دموعه فوق يدها وهو يقبلها.. واستطاعت أن تستخلص القليل مما بقي لتضمن للمجلة استمرار ظهورها، ثم مرت أيام لم تكن تجد فيها ثمن الطعام الذي تأكله.. وكنت في ذلك الحين أقيم مع أبي، وأتردد عليها كل أسبوع فتعطيني عشرة قروش للذهاب إلى السينما.
وفي وسط هذه الظروف القاسية التي تمر بها، حرصت على أن تعد لي دائما هذه العشرة قروش، وهي في حاجة إلى خمسة منها لتأكل بها.. كل ذلك حتى لا أدري وحتى لا أشاركها همًّا فيصيبني اليأس قبل أن يشتد ساعدي.
وفي خلال الحرب الأخيرة مرت بها أزمة أخرى.. واضطرت أن تبيع سيارتها في الوقت الذي كان فيه كل أصحاب الصحف يبنون الثروات.. وكانت تضطر أن تسير على قدميها كل صباح ساعة كاملة من بيتها في الزيتون إلى سراي القبة لتركب الأتوبيس الذي يوصلها إلى مكتبها، ثم كانت تقول لي أن الطبيب أوصاها بالسير الطويل محافظة على صحتها! حتى لا أدرى، ولا أشاركها همَّها.
كل هذه الحنان الذي لا تستطيعه كل أم، كان يقابله قسوة لا أعتقد أيضا أن كل أم تستطيع أن تقسو بها على ابنها.
فقد طردتني مرة- كما قلت- من العمل، وأنا متزوج وصاحب أولاد، أو على الأصح تركتني أخرج من العمل، وظلت عاما كاملا لا تخاطبني، وقد تلتقي بي فتتجاهلني، وأمد يدي لأقبل يدها فترفضها.. بل إنها ضربتني يوما في مكتبي وبين زملائي عقب تخرجي في الجامعة.. وهي إلى اليوم لا تزال تقسو أحيانا عليّ وعلى شقيقتي، ويبلغ من قسوتها أننا لا نعرف لها سببا ولكننا دائما نعرف السبب بعد أن نثوب إلى الطريق الصحيح.
وإني أعترف بأن هذه القسوة كانت من الأحجار القوية في بنائي، وإعدادي للعمل الذي أقوم به.
لكن كيف تستطيع هذه الأم الحنون إلى هذا الحد، أن تقسو إلى هذا الحد؟
كيف نستطيع أن نجمع بين هذه المتناقضات في شخصية واحدة؟
كيف نستخلص من هذه الحياة ومن هذه الشخصية قاعدة تتبعها كل سيدة تريد أن يكون لها هذا الجهاد؟
هذا ما كنت أنتظره- مع القراء- مع هذه الذكريات.. لكنها ذكريات ناقصة.
ورغم ذلك فإني أريد من دنياي شيئا إلا أن يكون لي بعض هذه الذكريات.
مستحيل..
فإنها في كل سطر من ذكرياتها تقول: أنا صنعت من نفسي هذه السيدة.
أما أنا فمهما كانت ذكرياتي، فلا أستطيع أبدا إلا أن أقول:
أمي صنعت منّي هذا الرجل!
مقدمة بقلم إحسان عبد القدوس لكتاب والدته «ذكريات» الطبعة الأولى
«ديسمبر 1953»



