الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

رمضان زين الزمان (10)

رمضان زين الزمان
رمضان زين الزمان (10)
كتبت - د. عزة بدر

حي الحسين الذي لا ينام في رمضان

 

"جيناكم.. جيناكم.. طلبنا رضاكم، لولا فضل الله علينا ما رأيناكم".

ما زالت أصواتهم في سمعي، وكأن لم تمر السنون، تلك اللحظة المتوهجة في خيالى، وأنا أشهد موكب الرؤية في تسعينيات القرن الماضى ، كانوا يبدون "بجلابيبهم" البيضاء ، وبطواق بيضاء، يسبحون في أناشيدهم التي يرتلونها بأصوات عذبة، أمام جامع الحسين رضى الله عنه، نشدان يرغب في المزيد، وابتهالات من قلوب صافية، تتعالى في فضاء المكان.

 

إنهم أهل الطرق الصوفية يتوافدون في موكب الرؤية على مشهد الحسين يرددون أغنيات الحنين، وها هو موكب الرؤية يخترق شوارع القاهرة الفاطمية تحييه الطرق الصوفية بأعلامها وبيارقها وقد نُقش على البيارق لفظ الجلالة واسم النبي صلى الله عليه وسلم، كما طُرزت على حواف البيارق من الجهات الأربع أسماء الصحابة: أبوبكر الصديق، عمر ابن الخطاب، عثمان بن عفان، على ابن أبى طالب رضى الله عنهم أجمعين، تواصلت مواكب الطرق الصوفية والأناشيد "أهلًا وسهلًا يا رمضان.. شهر الصوم والقرآن".

 

الوجوه المصرية الصميمة، الريفيون بعماماتهم وجلابيبهم، والأزهريون بملابسهم المميزة بالقفاطين، وطواقيهم يحيطونها بالشيلان البيضاء، والشباب بملابسهم الإفرنجية يحملون جميعًا البيارق، من جميع أنحاء القطر المصري كانوا قد جاءوا للاحتفال أمام مشهد الحسين بقدوم شهر رمضان المبارك، فقد أقبل أهل الطريقة المحمدية وكان شيخها في ذلك الوقت سليمان سامي محمود من وراق العرب، وجاء عموم السادة البرهامية، وشيخها حينذاك محمد علي عاشور من بيت قايتباي، وتراص أهل الطريقة الرفاعية يشد بعضهم بعضًا يحملون أعلامهم كما كان قد جاء أيضا أولاد الشيخ الشريف الرفاعي من المطرية، أما رجال السادة البيومية الصوفية فقد أتوا من عزبة بخيت بمنشية ناصر وهم يذكرون "الله.. الله..حي.. حي"، وكان يؤازرهم أبناء الشيخ محمد يوسف على حامد من الأقصر وقنا "الله.. الله حي"، توافدت المواكب الصوفية أمام جامع الحسين أحد التقاليد الرمضانية التي عرفتها مصر في أزمنة قديمة – كنت لا أحسبها لا تزال تتكرر في القاهرة الحديثة ، وما كنت لأصدق أن أراها رأى العين، وأن أحكى عنها الآن، كنت حريصة في كل رمضان أن أرصد ملامح تميزه ، وأكتب عنها صورا قلمية لمجلة صباح لخير، يأتى رمضان فتشرق أعياده في قلبى، وأنشط فأذهب إلى أمكنة وأحياء تبدأ ولا تنتهى في داخلى، ألم يقل ذلك لى نجيب محفوظ عندما سألته من أين يبدأ حى السُكرية؟، ألم يذهب أبطال روايته "خان الخليلى" أثناء أحداث الحرب العالمية الثانية يلتمسون الأمان من الغارات بل تسجل الرواية أن بعض الأسر المصرية قد تركوا أحياءهم التي سكنوا فيها وانتقلوا إلى حي الحسين خلال تلك الحرب احتماءًا بوجود الحسين وطلبًا للأمان بعد الخوف، في رحاب الحسين ملاذ الخائفين وأمنهم فيقول بطل الرواية لابنه" "هذا الحي في حمى الحسين رضوان الله عليه وهو حي الدين والمساجد، والألمان أعقل من أن يضربوا قلب الإسلام وهم يخطبون ود المسلمين، هنا ابن بنت النبي "صلى الله عليه وسلم" وكفى به جارًا ومجيرًا.

 

 ألم تكن أمينة في ثلاثيته قد تمردت وخالفت أوامر"سى السيد" لأن سيدنا الحُسين ناداها، وابتهلت روحها بنفحة كالياسمين من نفحاته ، مجازفة لتلبى نداء الروح، ألم تخرج من وضعيتها كامرأة مطيعة إلى لحظة تمرد تنشد عالما من أشواق الروح للاكتمال ، ألم تكن الزيارة طاقة نور أضاءت جوانحها فحققت إرادتها لأول مرة ، ودفعت ثمن تمردها فأمرها سى السيد بالعودة لدار أمها ، ثم حن قلبه فهو أيضا عاشق لمقام الحسين، ألم تكن دعوات كمال ابنه في المقام أن تعود أمه الغائبة ، فتتحقق الآمال بالفعل وتعود أمينة إلى أمانها ، أفلا أذهب أنا لأحتفل مع المحتفلين بشهر رمضان الكريم، وأقف لأشهد الموكب الذي رأيته لأول مرة في طفولتي في دمياط، يطوف بدءا من مبنى المحافظة تتقدمه الأعلام، ومواكب الصوفية وأرباب الحِرف، ربما كان في أيديهم نماذج من آلاتهم، وربما رأيته مجسدا بعد ذلك في تماثيل ذات طابع شعبى في أحد أمكنة الثقافة في المدينة، نسيت التفاصيل وبقيت البهجة، إنه عرس الاحتفال برمضان وقدومه، يصل الماضي بالحاضر ويصل الفروع بالجذور، كنت أرقب المواكب والأعلام وهي ترفرف في الحسين فأستعيد طفولتى ، المرة الوحيدة التي رأيت فيها موكبا للاحتفال بقدوم رمضان وهم يطوفون بالشوارع والأحياء الرئيسة شارع التجارى ، وشارع الشرباصى، وسوق الحسبة، والشهابية، ويطوفون عند جامع البحر فتلحق بهم مواكب المشاهدين من رجال ونساء وأطفال يحتفلون بقدوم رمضان.

 

وكذلك كان المشهد النادر حينها في الحُسين قد استوقف المارة وعدسات التصوير ، بل والسياح الذين احتشدوا ليسجلوا الاحتفال العبق، كنت أرقب أسماء الطرق الصوفية وأسجل في أوراقى، فهناك الطريقة الزاهدية الأحمدية، والسادة الأحمدية الشعيبية وشيخها الشعيبي من سلالة بني شيبة سدنة الكعبة المشرفة، والسادة البيومية وكان شيخها حينذاك أحمد يوسف البيه، كنت أرقب ألوان البيارق والأعلام: الأخضر والأحمر والأصفر، وطوفان المواكب الصوفية أحد أعرق التقاليد المصرية فقد رصدته كتب الرحالة فوصفه الفرنسي فيلامون ، ووصفه إدوارد لين عام 1835م، والفرق أن موكب الرؤية كان يبدأ وقتها من القلعة وكان يضم المحتسب وشيوخ التجار وأرباب الحرف: الطحانين والخبازين والجزارين والزياتين والفكهانية، وكانت تحيط بهم فرق الإنشاد ودراويش الصوفية، ويتقدمهم فرقة من الجنود فإذا ثبتت الرؤية وجاءهم منها يقين طاف المشاعلية والدراويش بأحياء القاهرة: "يا أمة خير الأنام.. صيام.. صيام"، فإذا لم تثبت الرؤية قالوا "فطار.. فطار!"، لم يبق من هذا الموكب سوى احتفال الطرق الصوفية بإحياء ليالي رمضان في سرادقات خاصة حول جامع الحسين وكل طريقة احتفال تتميز بأورادها الخاصة المتوارثة عن شيوخها الأوائل، وتبدأ هذه الليالي بالحضرة، ويتم فيها قراءة الفاتحة وبعض آيات القرآن الكريم والتسبيح بحمد الله والثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما هو أهله وتختم الحضرة بقراءة القرآن أيضا، وهذه سمات حضرة كل الطرق الصوفية، بينما تختلف التفاصيل، فعلى سبيل المثال تبدأ الحضرة الحامدية الشاذلية لشيخها سيدي سلامة الراضي بعد قراءة الفاتحة وسورة "الناس" وسورة "الفلق"، وتنتهي بقراءة قصيدة البردة للإمام البوصيري، كما قال لى حينذاك أيمن محمد إبراهيم وكان يدرس بجامعة الأزهر، وهو من أتباع هذه الطريقة ,وبعدها يتم إنشاد القصيدة المحمدية ومن أبياتها "محمد أشرف الأعراب والعجم .. محمد خير من يمشي على قدم.. محمد باسط المعروف جامعة.. محمد صاحب الإحسان والكرم.. محمد تاج رسل الله قاطبة.. محمد صادق الأقوال والكلم".

 

 

 

المشهد الحسيني

تطلعت إلى حلقات الذِكر من وراء حجاب، من خلال فتحات الشبابيك الخشبية رأيتهم يذكرون، يمسكون بأيدي بعضهم البعض، يرتدون عباءات بيضاء وطواق بيضاء، يهزون أجسادهم ذات اليمين وذات اليسار يسبحون "الله.. الله" في نشوة العاشقين، في حلقات داخل مسجد الحسين وكان ثمة أغنيات جميلة أرهفت إليها السمع كانت تصلني من خارج المسجد فينشرح لها الصدر وتتفتح لها القلوب فإذا بالمنشد رهيف الصوت يهمس ولا يلبث أن يرتفع صوته شيئًا فشيئًا في مناجاة تشبة الحلم" "أشرقت أنوار محمد فاختفت منها البدور.. مثل حسنك ما رأينا قد طوى وجه البدور.. أنت شمس أنت قمر، أنت نور فوق نور" ، فتعظم في عيني غناؤهم وهو يدخل القلب شاهق البياض في عتمة الليل، صوت واحد من قلب واحد يمرق كالسهم يعرف طريقه إلى القلوب، وهاهم يذكرون ويسبحون ويحمدون ويثنون على النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أهله، ها هم يذكرون سبطه الحسين سيد شهداء الجنة، ها هو المسجد الذي يعشقون الصلاة فيه، مسجد الحسين في الحي المبارك الذي ترفرف حوله أفئدة الناس لاعتقادهم أن رأس الإمام الحسين موجودة في المشهد الحسيني بالقاهرة، وأيا كانت أقوال المؤرخين فمنهم من يرى أن الرأس قد نُقلت من عسقلان إلى مصر ومنهم من رأي غير ذلك، لكن الحسين ماثل في وجدان الناس، قريب وحبيب إلى قلوب المصريين، أليس سبط النبي صلى الله عليه وسلم وزينة شباب أهل الجنة؟.

 

هنا في الحسين يتألق السهر في ليالي رمضان من الفجر إلى الفجر.. حي لا يهدأ وناس لا تنام، مباخر تعلو ومجامر تلتمع، تعبق بروائح المكان.. أشهر مقاهي، وألذ طعمية، وأشهى فول مدمس، وأحسن نيفة وأمتع كوارع! ، وأحلى بليلة بالقشطة والمكسرات وجوز الهند حتى الأحياء المجاورة للحسين، خان الخليلي والغورية مطبوعة أيضا بطابع حى سيدنا الحسين تسهر حتى الصباح في رمضان حيث تتصاعد رائحة الينسون والحبهان والمستكة والقهوة والشاي الأخضر، حتى كل المشهيات الرمضانية من بلح أبريمي يباع هنا في الحسين حيث يبيعه أبناء الصعيد من محافظات قنا وأسوان وسوهاج، ابتساماتهم السمراء، وجوههم التي لوحتها الشمس تبتسم، قلوبهم بيضاء مفرودة كالأشرعة ترفرف في بساطة فوق أجسادهم النحيفة بيارق حنان ومودة ، فهم في رحاب سيدنا الحسين.

 

 

 

في الفيشاوي

ويتميز حي الحسين بمقاهيه الشهيرة فقهوة خان الخليلي الموجودة الآن وبابها يفتح على الحسين هي نفسها مقهى أحمد عبده التي وصفها نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة، لقد حلت محل مقهى خان الخليلي وقد وصف نجيب محفوظ مقهى أحمد عبده على لسان بطل الرواية فيقول: "يااقهوتي العزيزة أنت قطعة من نفسي فهي بموقعها المستتر عن الأنظار كانت تعقد فيها الاجتماعات كل ليلة لمناقشة الأحداث عقب استقبال المعتمد البريطاني للوفد المصري بقيادة سعد زغلول، فيك حلمت كثيرا وفيك اجتمع فهمي بالثوار ليفكروا ويعملوا من أجل عالم أفضل"، وقد رصد الروائي محمد جبريل ملامح هذا المقهى في دراسته "مصر المكان" عن هذه المقهى في أدب نجيب محفوظ.

 

ومن مقهي "خان الخليلي" إلى "الفيشاوي"، حيث المرايا المؤتلقة التي تقطر بشوق عطر التاريخ، وجوه وصور وذكريات على جدرانها تشهد بأن للمكان عبق الماضي، ورائحة الخالدين فالمقهى الذي تأسس عام 1863 في عهد الخديوي اسماعيل يقع في إحدى حارات الحسين وأينما ذهبت ووقتما ذهبت فهو ساهر حتى الفجر يذكره الناس هنا بالأسماء اللامعة لأقطاب الفن "الجزار" و"الفار" اللذان كانا يتباريان في إلقاء النكت والفكاهة في رمضان في الأيام الخوالي "في الأربعينات وأوائل الخمسينات" من بعد صلاة العشاء إلى أن يحين موعد السحور حيث كان الجمهور يقترح عليهم مادة معينة لإثاره النكات فإذا بهما يرتجلان مئات النكات التي تثير الضحك وتبهج النفوس فقد كانت أسلوبًا من أساليب النقد الاجتماعي كما يقول عرفة عبده على في كتابه "رمضان في الزمان الجميل"، أما في أوقات الأزمات السياسية فقد كانت النكات تنصب كلها على الموقف السياسي فكانت سهرات الفيشاوي في هذه الأثناء متنفسًا للجماهير كما كان مقهى الفيشاوي هو أول مقهى ترتاده النساء من أهل الفن والأدب وكان من التناقض أن النكات التي كانت تلقى في وجودهن تناولت أزياءهن بالنقد اللاذع لكنهن كن يتقبلن هذا النقد بروح رياضية مرحة!.

 

وكانت مظاهر الفنون الشعبية تتجلى أيضا في الزمان القديم في حي الحسين والمنطقة المحيطة بساحته ويذكر الكثيرون سرادقات الفن الشعبي التي كانت تقام فيها وكان أشهرها سرادق الفنان محمد الكحلاوي وغيره من نجوم الطرب الشعبي وفرق الإنشاد الديني ومسرح "السامر" أيام الراحل زكريا الحجاوي، أما الآن فالاحتفالات والسرادقات الشعبية في حديقة الخالدين بمنطقة الحسين وتقع في الطريق إلى الدراسة حيث يحضرها العديد من الفنانين الشعبيين فيحيون الليالي الرمضانية بالأغاني الشعبية والتواشيح الدينية والابتهالات وكذلك هناك النشاط المكثف الذي يقوم به قصر ثقافة الغوري فتكون فيه عروض استعراضية ورقصات شعبية وحفلات غنائية ينشد فيها المغنون الكثير من الأغاني التراثية القديمة التي يقبل على سماعها الناس.

 

ساعة لقلبك وساعة لربك

ويشتهر حي الحسين بمحلات الأطعمة المختلفة التي يرتادها الناس خصوصًا في رمضان مثل محلات الكباب والكفتة والطرب وأشهر محلات الكوارع والسجق ومحلات الألبان فيقبل الناس على تناول إفطارهم في الحسين للتمتع بالأكلات الشعبية وغالبًا ما يكون هناك أحد الهواة ممن يتقنون العزف على أوتار العود فيحلو السهر حتى الساعات الأولى من الصباح وفي السحور يفضل الناس محلات الفول الشهيرة بالحسين على ما عداها، وفي بعض هذه المحال تجد لافتات لطيفة العبارة مثل: "إن غاب الفول أنا مش مسؤول!"، ويتزاحم الناس على هذه المحلات كما يقول الشاعر: "ترى الناس أفواجًا إلى ضوء ناره.. فمنهم قيام حولها وقعود".

 

إنها ملامح من احتفالية حي الحسين بشهر رمضان الكريم، ففيه أمكنه لتلبية مطالب الروح من صلاة وتعبد وتسبيح لله تعالى، وفيه ما يطلبه البدن من طعام وشراب حيث يحرص المصريون على تناول أنواع معينة من أطايب الطعام مثل الكنافة والقطائف وخصوصا في رمضان تراها غارقة في العسل محشوة بالمكسرات من جوز ولوز وعين جمل.

 

هنا دائما حياة كاملة في حي الحسين وناس لا تنام، وفي محبة المكان، هنا دائما أتذكر قول أحمد شوقى أمير الشعراء "قد يهون العمر إلا ساعة، وتهون الأرض إلا موضعًا".

وإلى حلقة قادمة.

 

تم نسخ الرابط