لا تنظر خلفك.. في نفق طويل مظلم يغتال سكونه صرخات مدوية، الكل يلهث في سباق محموم نحو بصيص من نور، تطاردنا ظلال الموت على جانبي الطريق في نهم تنزع منا أغصاننا الخضراء، نساق مكبلين إلى قدر بلا مرفأ، أوسعنا الليل غربة وحنينا لأرواح عاهدتنا آلا تفلت أيدينا منتصف الطريق وضحكات ألفناها تنسل منا تحت الأقدام، فأين المفر؟
ربما في أحلك الكوابيس كنا نستيقظ غير عابئين بما ألم بنا من ألم نزاحم يومنا بالذكريات ولا ننفك عن مطاردة الأحلام والأمنيات، نفتش هنا وهناك عن الإثارة والمغامرة، نشاهد أحدث أفلام الرعب والخيال العلمي، نجلس في الظلام الدامس بانتظار أن يبدأ الجنون، تتسع حدقاتنا في زيف وتغازلنا هواجس الأدرينالين فنحسب أنفسنا أبطالا ننقذ العالم ونحاكم الخائنين وندفع الشر عن المظلومين ثم ماذا؟ لا شيء كلمة النهاية تتصدر المشهد.
دون مقدمات كان غزو الوباء عاتيا، واستيقظنا جميعا لنجد أنفسنا عالقين في هاوية بلا كلمة نهاية، لا شيء سوى أشباح الظلام تعزف لحن الجزع، لم يرحم كورونا احدا، الغني والفقير، القوي والضعيف الجميع بذات المسلخ.
وقف العالم على أطراف أصابعه عاري الصدر يتلقى طعنات كوفيد 19 بلا هوادة ولأن المصائب لا تأتي فرادى لم يكن كافيا أن تنهش قلوبنا قصص الفقد، فكان الخوف والجشع والأنانية يقتاتون الإنسانية ليسقطوا عنها ورقة التوت وتبدو عيانا سوءات النفوس فتعود لسيرتها الأولى فناء أم خلود؟
هنا على الحافة يُمتحن ولد أدم من جديد أيقبض على إنسانيته كالجمر أم تتلقفه غواية الشيطان مرة أخرى، لكننا كولد نوح يأوي إلى جبل يعصمه من أمر الله ولا ملجأ من الله إلا إليه، لم ندرك بعد أننا أسرى ضعفنا، وأن الأطنان من الأموال لم تكن كافية أبدا للحصول على "الأكسجين" وهو سلعة مجانية.
لم تكن كورونا الجائحة الأولى التي أيقظت كوكب الأرض من سباته العميق، لكنها جرفت كالسيل رايات الآدمية الزائفة، حين بات شعار "نفسي ثم نفسي" يتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار، فأشعل الفزع غريزة حب البقاء واستشرت حمى الشراء غير المبرر كالسعار حول العالم وأصبح الحصول على الاحتياجات اليومية معاناة غير مضمونة العواقب، حتى في ظل اللحظات القاسية لم يسلم المكلومين من المتاجرة بهم والتنمر عليهم وكأننا نملك صك الخلاص، وصار طلب العون محفوفا بالمخاطر والتذلل فالحبيب ينكر حبيبه وينفض الأبناء أيديهم عن ذويهم ولسان حالهم يقول لا طاقة لنا بكم اليوم!
سينتهي الوباء كما بدأ وتغربل الشدائد معادن البشر فتسقط الغث وتُعلي الثمين وكما قال الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز "إننا لا نفكر إلا ونحن في عنق الزجاجة" فالأزمات طاحنة لكنها كاشفة، فطوبى لمن راهنوا على إنسانيتهم الداعمون المتطوعون المساندون هم الفائزون وإن تقطعت بهم السبل، لن ينتهي الدرس وسيدرك الجميع أنه علينا إعادة اكتشاف ذاتنا الاجتماعية مرة أخرى وأن في الاتحاد قوة حتى وإن كان عدونا لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، فالأيام دول بين الناس، والفطرة السليمة هي التي تدفعنا لمد يد العون دون مَنٍّ أو تحسس مبالغ فيه وأن الأخطر من الجائحة هو تلك الأفكار الشاذة التي يغذيها الاستغلال والجشع والغطرسة.



