الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

يصبح السؤال: لماذا كل هذا الانضباط والنظام والأدب الجم؟

ماذا يريد هذا الرجل صاحب الملامح المصرية الخالصة؟

المشوار الشاق حافل بالإبداع والإنجاز، والأثر التراكمي، قد حقق نتيجته متوجًا بالشهرة والمال والاعتراف، إنه نجيب محفوظ ابن الطبقة المتوسطة المصرية الذي رتب أيام عمره المديد، وأهدافه وخططه كي يعيش من أجل أن يكتب.

كان يعرف كيف يفصل بين الأدوار الاجتماعية المتعددة دور الموظف الحكومي المهذب، بل ودور الرقيب في رئاسته للرقابة على المصنفات الفنية، بينما هو صاحب الحرية الإبداعية التي لا تعرف الرقابة، حتى رقابته الذاتية لا يمكن لها أن تضع حدودًا لإبداعه.

بعد جائزة نوبل في الآداب وبعد إرهاق للجسد الذي لا يحتمل طاقته الإبداعية الجامحة.

يقرر نجيب محفوظ أن يبتكر في نهاية الرحلة إبداعًا جديدًا ملهمًا هو أحلام فترة النقاهة.

يتواصل فيها مع إبداعات عالم ما بعد الحداثة، ويمارس فيها حرية لانهائية في ابتكار الشكل الفني.

فيكتب في عالم الأحلام، وهي تجربة إبداعية ندرة جديدة بالتأمل في إطار فكرة انهيار الحدود بين الفنون والآداب وبعضها البعض.

وفيها يعود لنوع نادر من السرد الذي يمزجه بالفعل المسرحي وخبرات الكتابة للسينما، وتتمثل فيه مساحات ملهمة للتكثيف والإيجاز والاختزال، مع إطلاق حرية كبرى للتفسير والتأويل المفتوح للمتلقي.

في تصديره للأحلام الأخيرة من أحلام فترة النقاهة يحصيها الناشر إبراهيم المعلم. وهو الذي أعاد طباعة الأحلام الأولى المنشورة 2004، في طبعة دار الشروق الأولى 2005، ليحدد عدد الأحلام بدقة:

"اكتمل كتاب جديد به 291 حلماً بديعاً تنشر لأول مرة لتكون الأحلام الأخيرة من " أحلام فترة النقاهة"، وأصبح بذلك مجموع ما تركه محفوظ من الأحلام – ما نُشر سابقاً، وما ننشره اليوم يزيد بالفعل على الخمسمائة حلم، 291، 5 طبعات متتالية".

إنها في كثافتها شديدة الأثر قليلة الكلمات، تشبه إلى حد بعيد ما يدونه المعاصرون على صفحات التواصل الاجتماعي وما يغرد به المغردون على حساباتهم الشخصية.

نوع بالغ الاختزال من الكتابة. وعلى احتفاء النقاد بها إلا أن أول من تأمل تلك الأحلام ليلحظ أن بها مجموعات متشابهة شعورياً وتتحدث عن شخصيات بعينها كانت سناء البيسي التي رصدت ذلك في تقديمها للأحلام فهي ترى أن أغلبها "يدور حول الأم والعائلة، والأخوة، وأحداث الطفولة، وبيت العباسية، وسيدنا الحسين، والصوفية، وسعد زغلول، والنحاس، والإسكندرية والبحر، والسياسة، وعبد الناصر، والجيش، والحرافيش، والفيشاوي، وكرة القدم، والأغاني والحكم والأقوال المأثورة.

وثورة يوليو، وقناة السويس، والنيل، والفساد والاكتئاب والتطرف، وليلة القدر، والمناصب، والفتنة الطائفية. و.... وعشرات المحطات التي يتوقف عندها نجيب محفوظ ليروي حلمه عنها وفيها ومنها وإليها. "وإن كان النظر إليها كمجموعات مسألة ربما تدخل في باب التصنيف والتحليل المبدئي، إلا أن النظر إليها من زاوية أخرى، يراها نقديًا صورًا وأفكارًا وهواجس ملحة على الكاتب، وعودة لأهم الأفكار والشخصيات والأماكن، وهى في ذلك تعود لصفة ذاتية محضة. فهو يكتب عن نفسه بالأساس وعن رحلة عمره.

وسمة السرد المختزل تمنحه فرصة حضور صوت الراوي، وهو يحكي ما يراه، وتتكرر بشكل أساسي في الأحلام فكرة الهواجس والمخاوف والقلق والفقد والهجران والحنين للطفولة والصبا، والحبيبة، وللرموز الوطنية، وللبهجة وللمرح وحضور عميق للموت.

ولذلك فالتركيز على الذات محور يجمع الأحلام في معظمها، وهو تركيز على ذات المبدع في طبقته المتوسطة وتاريخه الشخصي وتجاربه الخاصة كذات متفاعلة مع العالم.

وحضور الذات وتشظيها على الأوجه المتعددة في الأحلام هو حضور لسمة أساسية من سمات إبداع ما بعد الحداثة والتي يظهر فيها الطابع الذاتي الشخصي واضحًا.

ولذلك فحريته في الحلم حرية معاصرة للغاية.

وتأمل معنى الحلم 282، إذ أن الأحلام أخذت تلك الأرقام المسلسلة فهو يحلم:

"وجدتني أقرأ في حجرتي، وفي الحجرة المجاورة تتربع المرحومة أمي على سجادة الصلاة، وإذا بقريبتي الحسناء المرحومة "أ" تلوح عارية وهى تغني أغنية مؤثرة، فغضبت المرحومة أمي وقالت لها: لا تعطليه عن عمله".

وبنظرة نقدية تحليلية لهذا النموذج تلحظ: أولًا: حضور الذات في تعبيره وجدتني، هو بطل في المشهد الدرامي إذن وذاته تنقسم إلى اثنين ذات تسرد والثانية حاضرة في الفعل.

ثانيًا: الحلم يحلم بلغة عربية فصحى مبسطة ذات طابع تقريري مباشر ويحمل جملاً قصيرة جداً، لا تستخدم البلاغة اللغوية لتفسح المجال أما الخيال الواضح وبلاغة الحلم ذاته متعددة التفسير.

ثالثًا: السرد يستخدم المعرفة بلغة الكاميرا حيث تتحول عين السارد إلى كاميرا، ويستخدم السرد لغة السينما في التوازي بين الحجرتين معًا، حجرة له والحسناء تغني عارية وحجرة لأمه تصلي.

رابعًا: الحوار باللهجة العامية في استخدام للأداة الأساسية في المسرح ألا وهى الحوار.

خامسًا: حضور تيار الوعي والذي تمثله كتابات التداعي الحر الطليق، والبوح بصور اللاشعور على حسيتها وتناقضها وقدرتها على حمل صيغة من الاعتراف بماضٍ خفي ملتبس، وهو عبر الحكي يتحرر من الشعور بالإثم، ويحضر الجنس والعري فيه في حراسة الأم، والتي تذكرة بأن لديه ما يفعل، ثنائية الدين والغواية معاً حاضرة في الحلم، وهى ثنائية النفس البشرية، والمدهش للغاية، وهو هذا الحس الصوفي الخفي الذي يحيط الحلم بطابعه الخاص.

وتيار الوعي في السرد الروائي المعاصر، كان تيارًا ملهمًا ومفصليًا في حركة الرواية من الحداثة لما بعدها وهو تيار يقوم على فهم فرويدي معاصر يطلق حرية طليقة للسارد تعتمد على خلط الشعور باللاشعور، وهو الأمر المتحقق في أحلام نجيب محفوظ.

وهو يشعر في أحلامه بوعي حاد بفكرة العالم الذي انهارت الحدود فيه، وحلت العولمة لتجعل الكرة الأرضية سوقًا كبيرًا مشتركًا وهو على ندرة استخدام تلك الصيغة العالمية، وتركيزه في الأحلام على الصيغة المحلية التي تحكي وتجسد وتصور وتضع الحوار لشخوص وأماكن وأحداث وشوارع وبيوت ورموز وأشخاص مصرية صميمة، إلا أن هذا الحلم النادر يدخل به معنا لإدراك شديد الوعي بطبيعة السوق العالمية المشتركة إذ يحلم في الحلم 286:

"وجدتني في السوق العالمية أمام قسم العسل "د" الذي كثر الإعلان عنه في الجرائد والفضائيات، فقال لي إنه متوفر ولكن غالي الثمن، ولدى البعض عسير الهضم، فابتعت منه ما أريد مصممًا على هضمه".

ما هو العسل؟

ولماذا لدى البعض عسير الهضم؟

هي صور خاصة محفوظية الطابع تفتح آفاقًا عديدة للتفسير ربما كان هذا العسل هو تلك الإتاحات المذهلة الثقافية والاقتصادية والمعلوماتية للعولمة المعاصرة وعليه الشراء، والهضم مهما كان عسيراً على الهضم، لكنه ذكر أنه أمتلك حق أن يبتاع ما يريد.

أحلام عديدة تعبر عن قلق خاص وهاجس متعلق بالتربص والمطاردة وحضور كثيف لعدد كبير من البلطجية واللصوص.

شعور مدهش بعدم الأمان، وحلم يخص “أولاد حارتنا”، التي أثارت الجدل يحلم فيه بحفل كبير يعلن فيه رئيس الجمهورية براءة أولاد حارتنا من تهم طاردتها ووصفتها بالإلحاد.

إنه يحرص في أحلامه على تأكيد فكرة الإيمان بالله بوضوح، ولكنه لا يضع نهايات حالمة أو فاضلة أو ذات طابع أخلاقي ولا يبشر بمثل عليا كبرى شأنه في إبداعه في أحلام فترة النقاهة بواحدة من أبرز سمات إبداع ما بعد الحداثة ألا وهى البعد عن التصورات الحالمة الأخلاقية المبشرة بالمدينة الفاضلة.

لكن النظرة المتأملة للأحلام لا يمكن أن تقطع بأنها جميعها تصدر عن الذات فقط، فبعض من تلك الأحلام يحكي عن شوارع تتحول إلى سيرك في قراءة مباشرة للزحام والفوضى، وبعضها يصور شوارع بها تلالًا من القمامة تنفجر ليخرج منها شباب قوي يعيد النظام ويطرح الجمال من قلب تلك التلال الكئيبة.

وفيها لقاء مع حاكم الجنوب يطلب اتفاق الأشقاء لحماية النيل والحفاظ عليه عبر الوحدة والتفاهم، في إشارة واضحة لما يدور الآن حول النيل.

إنه معاصرنا نجيب محفوظ الذي يحلم أيضًا عددًا من الأحلام المتعلقة بالشأن العام، وإن كان يفضل في معظمها تأمل الذات الفردية. والتي هي ذات متفردة تقبل أو تكاد أن تكون ذاتاً جماعية تتشابه مع معظم ذوات الطبقة المتوسطة المصرية في ذات الزمان والمكان والتجربة.

كما تحمل الأحلام كمًا هائلًا من البهجة واضحاً في الغناء والمرح، والسعادة التي تطوف في عالم الأحلام، إلا أنها أيضاً تحمل صوراً مزعجة جدًا مثل صورة الأبناء الذين يأكلون أمهم الجميلة النائمة على شاطئ النيل.

والبهجة في اجتماعها بالصور المزعجة هي أيضًا سمة من سمات إبداعات ما بعد الحداثة.

وهى السمة الواضحة في أحلام فترة النقاهة.

كما تظهر سمة أخرى في الأحلام هي سمة اللجوء لليومي والعادي والمتكرر المعاش، رغم خيال الحلم وحريته، وهى أيضاً سمة واضحة في إبداعات ما بعد الحداثة التي تبحث عن اليومي والهامشي والاعتيادي، بعيدًا عن السرديات الكبرى التقليدية.

ولعل واحد من أبرز الأحلام الدالة على اليومي والمعاش هو الحلم الذي رأى فيه زميله الذي كان وجيهاً محترماً قبل أن يشي به حاسد، فيتم القبض عليه ليدخل للسجن عاماً بتهمة تعاطي المخدرات ليضيع بعدها ماضيه ومستقبله، ويصبح في حالة رثة مثل أرباب السوابق الضائعين وقد ترك السجن ورفاقه علامات على وجهه وهيئته.

هذا وبعض من الأحلام يأتي كخيال محض، هو فيها جميعها يتبع منطق الأحلام الإنسانية التي تبدأ بجزء منطقي ثم تتحول إلى سياقات خيالية تفارق مبدأ الواقع.

ومفارقتها لمبدأ الواقع ملاحظة أساسية في صياغتها مثل حلمه بفاتنة تأتي إليه في "كارتة" يقودها حصان مجنح، سرعان ما يفارق الواقع يطير في الهواء فوق الهرم.

وبينما يقفز هو لقمة الهرم تطير هي في الفضاء لتستقر كوكبًا مضيئًا في السماء.

من هي الفاتنة؟ وكيف طارت وتحولت؟

في تفسير ممكن هي السعادة التي ما تكاد نلمسها حتى تطير لتصبح بعيدة المنال في السماء.

إن أحلام فترة النقاهة بكل ما تحمل من سمات، يمكن اعتبارها تقدم فتحاً جديداً في عالم الإبداع فهي تستلهم عالم الأحلام من فن السينما، ومن طبيعته الإنسانية في الخلط بين الشعور واللاشعور، ولكنها لا تخلو من خيال جامح مثل ذلك الحصان المجنح الذي يطير في الهواء.

وهى أحلام لا يمكن تفسيرها وفقاً لرؤية خرافية أو مقدسة أو خاضعة للتحليل النفسي، فهى أحلام المتيقظ منتبه الوعي محدد القصد، بها خلاصة من تجربة حياتية حافلة وخبرة إنسانية نادرة ورؤى وتأمل عميق في الفلسفة والدين والسياسة والمستقبل.

لا يمكن للناقد المتأمل أن يتوقع تحولها لجنس إبداعي أدبي أو فني يفتح مجالاً لإبداع الآخرين، فهي تجربة إبداعية نادرة.

تبقى قيمتها في قدرتها على جمع حساسيات مشتركة من فنون السرد والمسرح والسينما لتصنع هذا الوهج الإبداعي أحلام فترة النقاهة، التي هي تعبير حي عن فنون ما بعد الحداثة وتداخل الأنواع الفنية والأدبية وإتاحة حرية التفسير المتعدد للمتلقي، بعيدًا عن المقولات الفكرية الواحدة الثابتة نهائية الدلالة مغلقة التفسير.

 

 

تم نسخ الرابط