الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

مع انتهاء فعاليات دورة المهرجان القومي للمسرح هذا العام السبت الثاني من يناير بدلاً من الرابع من يناير في إطار اتخاذ الإجراءات الاحترازية المتعلقة بفيروس كورونا، تعتبر هذه الدورة دورة مقاومة ومخاطرة عبر فعالياتها الحية، وفعاليات حفل الختام هي فقط توزيع الجوائز بدون حفل أو أية فعاليات مصاحبة بالمسرح الكبير بدار الأوبرا. 

لا زالت الدورة التي حملت اسم (دورة الآباء) دافعة للاشتباك الفكري مع العنوان الذي طرحته وهو الاحتفال بمرور مائة وخمسون عاماً على المسرح المصري الحديث الذي يؤرخ له منذ عام 1870. 

ويثير ذلك العنوان رغبة في تأكيد العمق التاريخي للمسرح المصري، الذي يعود وفقاً للباحثين والدارسين لمصر القديمة. 

من المعروف أن الدراما الطقوسية والنصف الطقوسية لدى المصريين القدماء أمراً شهيراً في التاريخ المسرحي الإنساني. لكن ما أحاول رصده هنا هو المسرح الشعبي الغنائي الذي كان يقدم لجمهور من عامة الشعب في الميادين وعدد من الدور المهيئة لذلك، وكان طابعه غنائياً راقصاً.  

إن المسرح بمعناه الاصطلاحي على النموذج الغربي فن جديد ولج باب حضارتنا في النهضة الحديثة، التي اعقبت الحملة الفرنسية على مصر، وإذا أردنا الحديث عن المسرح كفن له أصوله وآدابه، فعلينا أن نسقط من حديثنا ألوان الملاهي الشعبية، والتي قد تحوي مشابهة مع هذا الفن، ولكنها تختلف عنه اختلافاً كبيراً، وجوهرها كان الغناء والرقص. 

وهو التصور الخاطيء الذي جعل تاريخ المسرح المصري الرسمي المعترف به من الدارسين والمؤرخين هو ذلك التاريخ بالغ القصر.  فمع بالغ الأسف حاول الكثيرون استبعاد ألوان التسلية الشعبية كخيال الظل والقراقوز وأعمال المقلدين والشعراء الشعبيين، والتي كانت في جوهرها تحتفل إحتفالاً خاصاً بالغناء. 

والنظرة التي عبر عنها د. محمد يوسف نجم تمثل الرأي الذي ينتصر لفكرة أن المسرح هو ذلك المنتج الغربي، وهو أمر ينكر أن المسرح بصيغته الأوربية الغربية كما جاء إلى مصر، هو محصلة عمل التراث الإنساني كله، ولعل ذلك يعيدنا إلى نشأة المسرح الغربي في الأساس عند اليونان القدماء، إذ يقطع واحد من أهم المؤرخين حول العالم الأراديس نيكول بأن المسرح المصري القديم سابق على المسرح اليوناني، وأن اليونانيين قد أخذوه عن المصريين القدماء. 

وأن تاريخ المسرح كما يتم تدريسه يحتاج حقاً لتأمل أسبقية المسرح المصري، وعلاقات التثاقف بينه وبين المسرح اليوناني القديم.  وجدير بالذكر أن المحبظين وهم نوع من الممثلين الجوالين الذين يحفظون تمثيليات صغيرة مبهجة يضيفون إليها ويحذفون ما يحبون، هم أيضاً ذلك النوع من الممثلين الذين كونوا فرقة جوالة في مصر القديمة بعيداً عن تمثيليات المعابد التي أخذت طابعاً مقدساً، بل إن تلك العروض هى التي استمرت في مصر حتى قبل دخول المسرحية على النمط الغربي المعروف. 

وكانت أيضاً فرق جوالة تحتفل بالرقص والموسيقى والغناء. 

دعنا إذن نناقش الأمر بدقة أكثر، المسرح في مصر القديمة لا يزال يثير الأسئلة حتى الآن، ولكن تبقى نشأته في مصر القديمة، تسبق بلا شك نشأته عند الإغريق القدماء. 

هذا وقد واصل غياب الشواهد وفقدان الأطلال المسرحية بين ما تبقى من آثار، بالإضافة إلى ما استقر في الأذهان، وما قطع به مؤرخو الإغريق أن المسرح قد بدأ هناك، وقد أشاع ذلك، وألقي في روع المصريين والعرب والباحثين والمؤرخين المسرحيين في العالم كله، أن مصر القديمة لم تشارك فى هذا التراث الإنساني. 

ومن الإشارات الموثقة على وجود ما يمكن الاصطلاح عليه بالمسرحية الدينية المصرية القديمة المحجبة، ما ورد عن هيرودوت، فقد كان ماراً بمدينة (سايس) وهو الاسم المصري القديم لقرية صا الحجر، تقريباً زمانياً من سنة 450 ق.م، وأتيح له أن يدخل المعبد ليرى الشعائر المحجبة التي تقام لعبادة أوزوريس. 

وقد ذكر هيرودوت أن المصريين القدماء هم الذين أطلقوا على ذلك النوع الذي كان يقدم داخل المعبد اسم المسرحيات الدينية المحجبة.  وطلبوا منه ألا يفشي أسرار ما شاهده، إلا أن العام 1896، قدم لنا إكتشافاً أثرياً هاماً، بالعثور على برديات الراميسوم الدرامية، وقد عثرت مصلحة الآثار في سقارة عام 1938 على نقش على أحد جدران مصطبة حار – بن – كاو، وتقع على جانب الطريق الصاعد إلى هرم أوناس، ويصور النقش أحد مديري حفلات الشعائر الدينية، وهو يدرب راقصى الإحتفالات الجنائزية، وقد اصطف الراقصون أمامه في أحد الأوضاع الراقصة، وهو يدرب راقصى الإحتفالات الجنائزية، بينما يراجع هو إحدى لفائف أوراق بردي تحوي تفاصيل تلك المسرحيات الدينية المحجبة التي كانت تبنى على شعائر تمازجها دراما ذهنية خالصة، ولكونها دراما سرية داخل المعبد، فقد حافظت على أسرارها بأن دمجت عنصر التمثيل فيها، بما يجعلها محاكاة ذات خصائص درامية، وجوهر رمزي غامض، وتعبير خفى وغاية دينية. 

ولا شك أن الذائقة المتعلقة بالموسيقى والغناء يمكن ملاحظتها بتأمل حضور الرقص الذي هو والنص في هيئة غناء مقدس قديم. 

أما عن العروض الدرامية خارج المعبد، فهي في تقديري النقدي هي خصائص التمثيل المصري القائم على الضحك الخشن والرقص والغناء والذي لا يزال ممتداً وبادياً في العديد من العروض المسرحية المعاصرة. 

هو تاريخ من "التحبيظ" المصري لم ينقطع ولا ضاع أثره، وهو يحتفل كثيراً بالغناء. 

فبعيداً عن المعبد والطقوس الدينية كشف النص المنقوش والذي هو لوحة ترجع إلى أوائل الألف الثانية ق.م، والتي كشف عنها في إدفو سنة 1922م، وهى تدل على وجود المحاكاة الدرامية كجزء من الممارسات الاجتماعية اليومية للمصريين القدماء، فلقد كان الممثلون المتجولون في عهد الأسرة الثانية عشر يقومون في الميادين أو في الدور، كما هي الحال اليوم، فيغنون ويرقصون، بل ويمثلون مسرحيات وفقاً لبرامج مرسومة لهم، وفى هذا النص المنقوش على لوحة إدفو، إشارة واضحة لتعبير المحاكاة، ومما لا شك فيه أن الغناء والرقص المصحوبين بالمحاكاة، كان يشغلان في العروض المصرية القديمة مكاناً هاماً، ورغم الصبغة الدينية التي كانت تحيط بتلك العروض خارج المعبد، إلا أن فهم العلاقة بين الدين والحياة في مصر القديمة التي كانت سبيكة واحدة، لا ينفي عن المسرح المصري القديم صفته الدينية، ولا يحرم عروضه خارج المعبد من صفتها الشعبية، والجدير بالذكر أن برديتي تسيستي بيتى، المنشورتان بالفرنسية عام 1933،  توضحان أن هذا  النوع من الدراما خارج المعبد يمكن فهمه كنسيج درامي شعبي خال من تقديس الآلهة، وذلك لمغالاته في التبسط معها. 

الأحفال الصاخبة المحاكية إذن تحمل تشابهاً مع الأحفال الباخوسية المعهودة عند الإغريق. 

وهكذا يمكن تقسيم المسرح المصري القديم إلى نوعين كبيرين: 

النوع الأول: كان جمهوره محدوداً ولا يسمح للعامة بمشاهدته خوفاً من إضعاف رهبة الآله في نفوسهم، إذا ما أطلعوا على الأسرار الإلهية المحجبة. 

النوع الثاني: هو المسرحيات المسموح للجمهور بمشاهدتها خارج المعبد، حيث تتصف الآلهة بصفات البشر ، وحتى المسرحيات المحجبة التي كانت تؤدى أمام المطلعين على الأسرار، كانت تتضمن أجزاء سرية من اللاهوت المصري، لا يدرك كنهها إلا الخاصة من الكهنة ورجال الدين.  ومما لا شك فيه أن العروض خارج المعبد كانت تحمل صفات المسرح الجوهرية، وهي النص، وممثل يخرج من شخصيته الحقيقية ليؤدي شخصية أخرى، وجمهور متفرج، وهو الفهم الذي يؤكد وجود المسرح في مصر القديمة. 

إن طرح مسألة الآباء المؤسسين للمسرح المصري، تجعل من تلك الإطلالة التاريخية ضرورة، وهي إطلالة حذرة في الإجابات ممتلئة بالأسئلة.  ما بعد مصر الفرعونية تاهت البرديات، وإختفت الكتب من الخزائن، وتطرح علينا سؤالين مدهشين، ألا وهما: هل نهت المعابد عن تقديم الدراما الفرعونية بعد مقدم الإسكندر المقدوني الذي شيد لإيزيس معبداً. 

وهل توقف المصريون في المدن والقرى عن إحتفالاتهم الشعبية الصاخبة فجأة؟ … أما السؤال الإيجابي، فهو: ماذا كانت تفعل آنذاك كل دور العرض المسرحي المبنية على نمط المسرح الروماني، التي يعد أشهرها في مصر المعاصرة، المسرح الروماني بالإسكندرية؟ 

ثم هل لعبت المسيحية عندما دخلت مصر دوراً في اختفاء الفن التمثيلي، وفى حدوث المقاومة الاجتماعية له، مثلما حدث في بواكير العصور الوسطى الأوربية؟ 

أما السؤال المتكرر عن علاقة الإسلام بالمسرح، فهو: هل ساهم الإسلام في عدم معرفة العرب المسرح؟ 

إنها فجوة تاريخية كبيرة يبدو فيها المسرح المصري منقطعاً تماماً بعد إنقطاع مصر عن الحضارة الفرعونية، تبدو الإجابات غير مقنعة، خاصة مع طبيعة المصريين المحبة للإحتفال والرقص والغناء. 

لا شك أن العام 352 الهجرى الموافق للعام الميلادي 963، كان عاماً فارقاً في معرفة العرب في بغداد، لأول نص درامي تمت كتابته خصيصاً للتمثيل، فيما عرف بدراما التعازى، أو المسرح الشيعي، وهي الدراما التي تعبر عن آلام الحسين الشهيد ومأساته بمحاكاة ما حدث للشهيد، والندم الذي لحق باتباعه، فهل رحلت دراما التعزية لمصر في هذه الفترة؟ 

بالتأكيد حدث، بدليل وجود كل تلك (الحسينيات) في مصر الآن، التي كانت تشهد إحتفالات التعزية، أما معرفة مصر خلال فترة الخلافة الإسلامية، ثم العصور الوسطى الإسلامية في دولة المماليك لفنون الفرجة، فهي أمور ثابتة وحاضرة في عروض خيال الظل والأراجوز وعروض المحبظين والسامر الشعبي، فهى أمور ثابتة، ولعلها أولى الإشارات التي ترد واضحة عن وجود الفن التمثيلي في مصر خلال تلك الحقبة الطويلة، حتى مقدم المسرح الغربي مع الحملة الفرنسية. 

ثم دخوله مصر من الشام في هيئته الجديدة، او ما أطلق عليه المسرحية العربية الحديثة، وجميع ما أوردناه يحتفل بالغناء حتى الحزين والديني والإنساني المبهج، كان الغناء في القلب من كل صياغات التمثيل المسرحية المصرية التي تعود للآباء المسرحيين القدماء من المصريين في مصر القديمة. 

وهكذا ونحن نتأمل حال المسرح المصري اليوم، ندرك أن تعبير الآباء الذي تحمله دورة المهرجات الحالية عنواناً لها، وهو تعبير يجب النظر إليه كتعبير مفتوح، يقرأ المسرح المصري في إطار مساهمته الأولى في بدايات التراث المسرحي الإنساني، وقدرته على التأثير والتنوع متخذاً صفات وأهداف وتصورات وصياغات درامية مختلفة ومتعددة. 

ذلك أنه ونحن نحتفل بمرور مائة وخمسين عاماً على الولادة الجديدة للمسرح المصري في العصر الحديث، علينا أن نحتفل بشكل حديث ومعاصر بأشكال المسرح المصري، الضارب بجذوره في التراث المستند إلى فلسفة مصرية خاصة تحتفل بالموسيقى والغناء والحياة.  إذن إن المحاكاة هي إعادة تصنيع الوجود من جديد، تأكيداً للهوية المصرية، وتفسيراً مقبولاً وضرورياً لسؤال الوجود. 

وإذا كان التاريخ الإنساني المسرحي يحفل بمزج مدهش بين التمثيل والرقص والغناء، فإن التاريخ المسرحي المصري والعربي يحتفل بذلك المزج، وإن انقطع منه الرقص في كثير من الأحيان ولكن يبقى المزج الدرامي حاضراً بين التمثيل والغناء، وهو الفعل المسرحي التاريخي الذي أصبح فعلاً تراثياً يجعلنا ننظر للمسرح الغنائي المصري والعربي المعاصر كنوع مسرحي هام يتوافق مع الذائقة المصرية والعربية.

 

تم نسخ الرابط