حكاية زيارة السلطان أسكيا محمد للقاهرة.. موكب الذهب (901-902هـ)
كانت زيارة "أسكيا محمد" لمدينة القاهرة من الأحداث التاريخية البارزة بسبب أهمية هذا السلطان الإفريقي المعروف في بلاد غرب إفريقيا، فهو يعتبر أحد أعظم السلاطين القدامى في التاريخ الإفريقي خلال العصر الإسلامي.
ويقال لذلك السلطان: "أسكي"، أو "الأسكيا"، ولقب أسكيا من أهم ألقاب الحكام والسلاطين الأفارقة منذ القدم، وتعني تسمية "أسكيا": السلطان، وقد حمل كل الملوك من بعده لقب أسكيا، وعرفت أسرته الحاكمة باسم "أسرة الأساكي"، وكذلك "عصر الأساكي"، وكان منهم أبناؤه، وهم: أسكيا موسى، وأسكيا إسحق، وأسكيا إسماعيل.. إلخ. ومعلوم أن السلطان "أسكيا محمد" كان قد زار مدينة القاهرة خلال رحلة الحج التي قام بها بعد مرور سنتين من بداية حكمه ملكا على عرش "سلطنة صنغي" الإسلامية التي تأسست في منطقة غرب إفريقيا خلال النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي/ الرابع عشر الميلادي.
خريطة توضح طرق الحج من ممالك غرب إفريقيا
ويُحدد المؤرخون بداية تلك الرحلة التاريخية المهمة خلال الفترة الزمنية من سنة (901-903ه)، وعن استعدادات السلطان الإفريقي لتلك الرحلة، يقول المؤرخ الإفريقي المعروف محمود كعت (وهو المتوفى: منتصف القرن 10ه/16م)، وهو صاحب كتاب "تاريخ الفتاش" أحد أهم مصادر التاريخ الإفريقي: "ثم جعل أسكي محمد يتجهز للحج، وزيارة بيت الله.. وقام بجمع المال، والجهاز للسفر، ونادى من كل أرضه.. يطلب الزاد والعون، ومشي إلى الحج في شهر صفر، بعد ما حصل له ثلاثمائة ألف ذهبًا". وكانت رحلة السلطان أسكيا محمد مهيبة، وتشير بوضوح لازدهار هذه البلاد في أيامه بفضل "تجارة الذهب" التي كان يُسيطر عليها "أسكيا محمد".
قدوم موكب الذهب الإفريقي إلى القاهرة:
تذكر الروايات التاريخية أنه رافق أسكيا محمد- "سلطان صنغي"- خلال تلك الرحلة المشرقية حوالي 800 جندي، وكان معه عددٌ كبير من العلماء، والفقهاء، وكبار رجال البلاط، وقد حمل "أسكيا" معه زهاء 300 ألف قطعة من الذهب لنفقات الرحلة، وقد كان عليه عبور الطريق الذي كانت تسلكه القوافل التجارية، وهو الطريق المؤدي إلى مناطق شمال إفريقيا، ومنها إلى طريق ليبيا، ثم طريق الواحات غرب مصر، ومن ثم القدوم لمصر في نهاية المطاف.
خريطة توضح طرق ومسالك الصحراء الكبرى
وبحسب بعض الروايات الأخرى، فإن هذا الموكب قطع مسافةً طويلة من بلاده حتى بلاد الحجاز مرورا بمصر تبلغ 3000 ميل تقريبًا. وقيل: كان الموكب يضم 500 فارس، و1000 من جند المُشاة. وقيل أيضًا: ضم موكب أسكيا محمد مئات الإبل التي كانت تحمل المؤن والتي حملها ملك التكرور خلال تلك الرحلة. ويذهب البعضُ إلى أن تلك الأموال التي حملها السلطان "أسكيا محمد" كانت من بين الكنوز والثروات التي كانت في حوزة السلطان القوي المعروف، الذي حكم قبله، وهو السلطان "سُني علي"، وكانت من بين الكنوز التي عثر عليها في قصوره فيما يقال.
وعلى أي حال فرغم تباين الأرقام التي وردت في ثنايا الروايات والمصادر التاريخية حول ما حمله السلطان "أسكيا محمد" خلال رحلته إلى القاهرة وبلاد الحرمين من مثاقيل وقطع الذهب الهائلة التي جاء بها من بلاده عبر آلاف الكيلومترات، إلا أنه من المؤكد أن هذا الموكب الإفريقي الفخيم أبهر كل من شاهده بثراء هذا الملك الإفريقي الثري، ومدى الازدهار والرفاهية التي كانت في بلاده. ويؤيد ذلك أن العديد من المصادر التاريخية تتحدث عن ازدهار البلاد (سلطنة صنغي الإسلامية) في أيامه، وأن الرعية زمان حكم السلطان "أسكيا محمد" كانوا في "خصب عيش، وكانوا يعيشون في أمن سرب". وبحسب البعض، فإن موكب الحج الذي رافق ملك التكرور كان أكثر ثراءً، وإبهارًا من موكب السلطان المعروف باسم "منسا موسى" (724-725ه) ملك مالي، وكانت رحلته للقاهرة، ومن ثم إلى بلاد الحجاز قبل رحلة هذا الأسكيا بأكثر من قرن ونصف القرن من الزمان.
وليست لدينا الكثير من الأخبار المصدرية حول موكب السلطان "أسكيا محمد"، إذ لم يتوافر للباحثين ما توافر من روايات معاصرة، وكذلك لاحقة لأسكيا محمد على غرار رحلة السلطان "منسا موسى" (حاكم مالي) التي سبقه للحج. ثم وصل السلطان "أسكيا محمد" لمدينة القاهرة بعد رحلة شاقة عبر دروب ومسالك الصحراء الكبرى، واستقر بالمدينة حتى خروج موكب الحج المصري الذاهب لبلاد الحجاز. وفي مدينة القاهرة كانت لأسكيا محمد مناقشات علمية وفقهية مع كبار علماء وفقهاء مصر في ذلك الوقت، لتصحيح بعض الأمور الدينية والشرعية في هذه الممالك الإفريقية والتي قد تخالف ثوابت الدين الإسلامي، والتي كان يقوم بها الناسُ (أهل التكرور) في بلاده. وكان أكثر تلك المناقشات مع الإمام جلال الدين السيوطي (ت: 911ه)، وكان السيوطي أكثر علماء زمانه شهرة، وصيتًا. وقد دعا أسكيا محمد الإمام السيوطي لزيارة بلاده لينشر بها العلم، وهو ما حدث بالفعل. وعلى أي حال استمع أسكيا للسيوطي، وانبهر به، وبعلمه، "وأخذ عنه العقائد الصحيحة، وتعلم منه الحلال والحرام".
كما لقي السلطان "أسكيا محمد" بمدينة القاهرة الخليفة العباسي، حيث كانت هذه المدينة مقر الخلافة الكبرى آنذاك، وذلك منذ سقوط مدينة بغداد على أيدي المغول (أو التتار) خلال منتصف القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وهو ما جعل للقاهرة مكانة وأهمية كبيرة بين كل مدن العالم الإسلامي آنذاك. وقد حصل السلطان "أسكيا محمد" من الخليفة العباسي على لقب مهم، وهو أنه صار الخليفة الشرعي الذي يحكم في "بلاد التكرور"، أو بمعنى آخر صار يحمل لقب: Khalife du Takrur، وهو ما عزز من مكانة السلطان "أسكيا محمد" في بلاده، وزاد من شرعيته. كما اعُترف بشرعية حكم أسكيا في غرب إفريقيا مرة أخرى من خلال كبار الأشراف في مكة، وكان شريف مكة في زمانه يُدعى "مولاي العباس".
وتذكر الروايات التاريخية أن السلطان "أسكيا محمد" أنفق نحو 100 ألف دينار من قطع الذهب الذي كان معه على الفقراء وذوي الحاجة في كل من مكة والمدينة، وهو ما يشير لجود هذا السلطان، وحبه لأعمال الخير والبر. كما اشترى السلطان "أسكيا محمد" البيوت والبساتين، وغيرها من الممتلكات في بلاد الحرمين، ثم أوقفها على فقراء المسلمين، وكذلك على العلماء، وطلاب العلم. وتصف المصادر التاريخية أسكيا محمد بعد العودة من رحلة الحج، بأنه سلك طريق العدل، ومال للسيرة العربية، وعدل عن سيرة العجم، و"صلحت أحوال البلاد في أيامه".
ويشير البروفيسور "جي. ويلسون" J. Wilson إلى أن السلطان "أسكيا محمد" كرس حياته لخدمة الإسلام، وأنه اهتم بالعلم، وبناء المساجد، والمدارس لتعليم الرعية في بلاده. وعن شخصية هذا السلطان الإفريقي، يقول المؤرخ الوفراني: "وكان الحاج محمد المذكور سهل الحجاب، رقيق القلب، خافض الجناح، شديد التعظيم لأئمة الدين، مُحبًا للعلماء مكرمًا لهم غاية الإكرام، ويُفسح لهم في المجلس". وكان أسكيا ينتهج سياسة تقوم على نشر الإسلام في البلاد الوثنية المُجاورة لبلاده، ومن ثمة امتدت تخوم بلاده لأقصى امتدادها.
ومن المؤكد أن السلطان "أسكيا محمد" كان مُحبًا للعلم، وأهله، ومن ثم كان يعتبر بحسب رواية المؤرخين حاميًا لأهل العلم، وداعمًا لهم، ومكرمًا لهم في مجالسه الخاصة. وقد جعل السلطان أسكيا محمد قاضيًا من كبار العلماء والفقهاء على كل مدينة في بلاده، كما أنه شاد المساجد، واهتم ببناء المراكز الإسلامية، ومعاهد العلم والتعليم في بلاده.
حكاية
هرم السلطان أسكيا محمد في "جاو"!
يُمثل قبر السلطان "أسكيا محمد" (899-935ه) طرازًا معماريًا يضم مزيجًا من تقاليد العمارة المصرية القديمة، وهو "الشكل الهرمي" المعروف، وكذلك تقاليد العمارة الإفريقية التقليدية. وعن هذا القبر، وأسباب بنائه على هذا "الطراز الهرمي"، يقول أحد الباحثين: "إنه خلال رحلة أسكيا محمد للحج في مكة.. شاهد الأهرامات (بالقاهرة)، وانبهر بها، ومن ثم قرر أن يشيد قبرًا على غرارها ليدفن به..". ومن هنا يبدو لنا التأثير المصري واضحًا في بناء هذا القبر. ولا شك أن "الطراز الهرمي" القديم الذي شاده ملوك مصر يحمل في طياته العديد من الرموز، والدلالات الدينية، واللاهوتية بحسب معتقدهم، لا سيما من خلال إيمانهم بعقيدة الخلود والأبدية، ومن ثم رغبتهم في وضع أجساد ملوكهم في بناء ضخم (على غرار الهرم) لحمايته.
وعلى أي حال يرجع بناءُ أول هرم بمصر القديمة لأيام "الأسرة الثالثة"، بناه الملك "زوسر"Zoser(2667-2648ق.م)، وأشرف على بنائه الوزير "إيمحتب" Imhotepـ وهو يُعرف بـ"الهرم المدرج" Step-Pyramid، وهو بناءٌ مُشيدٌ على طراز "المصطبة"، حيث وُضعت عدة مصاطب حجرية الواحدة فوق الأخرى.
شكل رقم 1
صورة تظهر قبر السلطان أسكيا محمد بمدينة جاو
ثم صار القبر الملكي يأخذ طراز "الشكل الهرمي" الكامل أيام الملك "سنفرو" Senefru، ثم بلغ القبر الهرمي ذروته أيام ابنه الملك "خوفو" Cheops (2589-2566 ق.م) صاحب "الهرم الأكبر" بالجيزة، وهو القبرُ الذي أبهر الناس منذ آلاف السنين، وأضحى واحدًا من عجائب العالم القديم.ويرى الباحثُأنه كانت لدى "أسكيا محمد" خلال مدة انتظاره بالقاهرة الرغبة في اكتشاف القاهرة، وفك طلاسم هذه المدينة الإسلامية العريقة، وتبدو مكانة القاهرة جليةً آنذاك من خلال روايات المؤرخين والرحالة المسلمين الذين زاروها لا سيما أيام المماليك، ولعل من أبرز ما ورد في ذلك الشأن ما يذكره ابن خلدون (ت: 808ه) لما وطأت قدمه القاهرة للمرة الأولى. وغير بعيد أن هرم خوفو" هو مما أبهر أسكيا محمد (ملك التكرور) لما ذهب لرؤية الأهرامات في الصحراء غرب القاهرة.
ويرى الباحثُ أنه- فيما يُعتقد- أن "أسكيا محمد" انبهر في ذات الآن بوجود أهرامات أخرى ضخمة بجوار الهرم الأكبر، وهو ما زاد من إعجابه بهذا الشكل المعماري الفريد. ولا ريب أنه تولدت لديه ثمة رغبةٌ مُلحة في أن يُشيد له المهندسون قبراً على غرار "الطراز الهرمي" المُبهر الذي كان قد شاهده بأرض مصر، وإن كان يعلم- في ذات الآن- أنه ليس بالإمكان مُحاكاة أهرامات الفراعنة كما هي، لا في ضخامتها، ولا روعة تصميمها.
وقد أحضر "أسكيا محمد" معه خلال عودته من رحلة الحج مهندسًا معماريًا من بلاد الأندلس ArchitecteAndalou، ليقوم بالإشراف على بناء قبره. ثم جمع "أسكيا محمد" لبناء هذا القبر مئات من المعماريين، والبنائين، والعمال المحليين لا سيما من منطقة تدعى: "ماسينا" Macina التي تقع بالقرب من دلتا نهر النيجر (في نيجيريا حاليًا)، ثم عين أسكيا محمد المعماري الأندلسي ليشرف على أعمال البناء بالطريقة التي يريدها. وقيل إن أكثر من مائة عامل وبنَّاء Macons أحضرهم السلطان من مدينة "ماسينا" ليبنوا قبره، وفيما يبدو أن بنائي تلك المنطقة كانت لهم شهرة ومهارة في البناء في عموم غرب إفريقيا.
ويرى بعضُ الدارسين أن قبر السلطان أسكيا محمد يشهدُ بجلاء على حلقات التواصل الإبداعية والتأثير والتأثر الحضاري بين كل من شعب صنغي والعرب والبربر من جانب، وكذلك التأثيرات المعمارية المصرية القديمة على بلاد السودان الغربي من جانب آخر. ونظرا لأهمية هذا القبر، كان يقام بجواره العديد من الاحتفالات، والمناسبات الدينية المهمة لا سيما في الساحة الكبرى المجاورة لهذا القبر، كما كانت تقام هناك صلاة الجمعة، وحفلات الزواج، وإحياء عيد الاستقلال. وعلى هذا فليس من المُستغرب أن يوصف قبر أسكيا بحسب البعض بأنه من أهم المواقع التاريخية والأثرية في مالي حاليًا رغم مرور مئات السنين على تشييده.
وصف المجموعة المعمارية لأسكيا محمد:
يعتبر قبر أسكيا محمد جزءًا من "مجموعة معمارية" ArchitecturalComplex، ولهذا يُطلق عليه تسمية "الهرم المركزي" Pyramide Centrale، أو "القبر الهرمي" المركزي. وربما تلك التسمية أطلقها البعض على اعتبار أن ذلك "القبر الهرمي" هو بمثابة البناء الرئيس داخل هذه "المجموعة المعمارية"، ومن ثم فهو يقع في موضع مركز داخل هذه المجموعة، هذا رغم وجود جبانة أخرى ملحقة بها. ويلاحظ أن هذا "البرج الهرمي" هو أعلى بناء في المنطقة التي شيد بها، وقد كان هذا الموقع المجاور للقبر يُستخدم في إقامة صلاة الجماعة لسكان "جاو"، وكان يأتي إليه السكان القاطنون في القرى التي تحيط بها.
وتتميز العمارةُ التقليدية في الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا بالبساطة بصفة عامة، وتوافقها بشكل أو بآخر مع البيئة المحلية، ولهذا كان يعتمد السكان المحليون في أكثر مناطق السودان الغربي (غرب إفريقيا) في بناء ما يريدون من منشآت معمارية مثل البيوت والمساجد.. إلخ على الطين (اللبن) Mud–Building Tradition كمادة رئيسية في البناء. ولعبت هذه "المجموعة المعمارية"- لا سيما المسجد والقبر الواقعان في وسط الفناء (الميدان)- دورًا مهمًا في المناسبات الإسلامية بمدينة "جاو"، وكان السلطان "أسكيا محمد" يستخدم هذا الموضع للصلاة خاصة الصلوات الجامعة، ولهذا كان يُطلق عليه اسم "مسجد أسكيا" Askia djira.
ومن جانب آخر يتمتع قبر السلطان "أسكيا محمد" بحسب البعض بقداسة كبيرة بين السكان المحليين، ولعل ذلك من تأثيرات "الفكر الصوفي" المنتشر في هذه البلاد، بالتبرك والتوسل بقبور الأولياء والصالحين وغيرهم، وهي أمور ينكرها الدين. وعن ذلك الأمر تذكر "الموسوعة البريطانية" Encyclopedia Britanica: "لقد دُفن أسكيا بمدينة جاو، ويُعتبر قبره- الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم- واحدًا من أكثر البقاع الإسلامية قداسة في كل بلاد غرب إفريقيا..".وجدير بالذكر أنه أطلق على تلك "المجموعة المعمارية" اسم "مسجد أسكيا"، وهي التسمية المفضلة لغالبية السكان بمدينة "جاو"، أما تسمية "قبر أسكيا" Tombeau d’ Askia فهي تسميةٌ حديثة ترجع لبدايات الحقبة الاستعمارية La Periode Coloniale خلال حقبة القرن 9ه/15م.
صورة تظهر المجموعة المعمارية للسلطان أسكيا محمد
وفي منتصفها قبره الهرمي في جاو
القبر الهرمي:
لا شك أن قبر "أسكيا محمد" يتوافق مع البيئة الإفريقية المحلية التي عاش فيها هذا السلطان الإفريقي ذائع الصيت، كما يُشكل هذا القبر بشكل واضح- لا جدال فيه- أحد نماذج تأثيرات العمارة المصرية، ومظاهرها، التي كانت قد ذاعت في مناطق غرب إفريقيا، وعلى هذا فإن عمارة هذا القبر تصور مزيجًا معماريًا وأثريًا فريدًا بين من الفن المصري القديم، والفن الإفريقي التقليدي بسماته المحلية التقليدية، فهذا القبر، فيما يرى الباحث، يشبه لحد كبير المصاطب Mastaba المصرية القديمة، وكذلك ما يُعرف بالأهرامات ذات "الطراز المدرج" مثل أهرامات سقارة (انظر شكل 2)، إذ إن قبر أسكيا محمد هو أقرب لها من ناحية بساطة التصميم المعماري، وكذلك الحجم أكثر من الأهرامات الأخرى ذات الحجم الضخم، كالتي في هضبة الجيزة، فهذه الأخيرة أكثر تعقيدًا من الناحية المعمارية والهندسية. وعلى أي حال يتميز قبر أسكيا محمد بأنه بناءٌ مشيدٌ من الطوب اللبن، وهو مغطى أيضًا بطبقة من الطين على عادة المنشآت والمباني المعمارية التي كان يشيدها أهل تلك البلاد.
صورة تظهر قبر الملك زوسر المعروف بالهرم المدرج.. وهنا يمكن المقارنة بشكل أو بآخر
بين الطراز المعماري للأهرامات المصرية وقبر أسكيا محمد
وتذكر بعض الروايات أن السلطان أسكيا محمد كان قد أحضر معه من مكة مجموعة من الكتل الحجرية البيضاء لتكون الأساس الذي يبنى عليه القبر الهرمي. وتذكر الروايات أيضًا أن إحدى هذه الكتل كانت قد وقعت في موضع ما من البناء، ولم يستطع العمال والبناؤون أن يرفعوها من الموضع الذي سقطت فيه، ويقال إن "أسكيا محمد" قال عن ذلك إنها علامةٌ من الله، وهي إشارةٌ لبركة هذا الموضع الذي صار بعد ذلك مكانًا تأتي إليه جموع الناس للدعاء عنده اعتقادًا في بركته.
قبر السلطان أسكيا محمد وهو على ذات طراز الأهرامات المصرية
ويتسم قبر "أسكيا محمد"، والواجهة الشرقية لـ"مسجد الرجال" بوجود "الأوتاد الخشبية"، وتلك "الأوتاد" كانت تشتهر بها المساجد في غرب إفريقيا منذ القدم، وقد ظل هذا التقليد المعماري حتى اليوم، وتلك "الأوتاد" كانت تستخدم باعتبارها "سقالات" يمكنها أن تساعد العمال والبنائين على أن يصعدوا لأعلى البناء خلال الأعمال الخاصة بصيانة قبر السلطان أسكيا محمد، أو صيانة المساجد الأخرى التي تقع بجوار القبر، كما يمكن القول بأن هذه الكتل الخشبية كانت لها أهمية معمارية أخرى أنها كانت تشكل دعامات خاصة بهذه المجموعة المعمارية.
هرم سنفرو في دهشور (جنوب سقارة 10كم)، المعروف بـ"الهرم المُنكسر"،
ويحمل الكثير من التشابه مع قبر السلطان أسكيا محمد في جاو
الوصف المعماري لقبر أسكيا محمد:
رغم أن "أسكيا محمد" كان قد انبهر بعمارة الأهرامات المصرية، وضخامتها، كذلك طرازها المعماري الفريد، ومن ثم راودته فكرة تقليد بناء تلك الأهرامات بشكل أكثر بساطة يتوافق مع الامكانيات المتاحة لها، غير أنه وللحق فالبون شاسع بين أهرامات الملوك المصريين، وبين القبر الهرمي، أو ما يقال له "البرج الهرمي" الخاص بـ"ملك التكرور" من ناحية التفاصيل المعمارية، وكذا بحسب الطراز المعماري، والدقة الهندسية والمعمارية التي شيد بها هذان الطرازان. ويكفي أن نقول إن هرم خوفو بالجيزة (ارتفاعه الحالي أكثر من 138م) يزيد ارتفاعه عن قبر أسكيا الهرمي بأكثر من 70 مرة.
ومن حيث المقاييس المعمارية، فإن قبر أسكيا محمد يبلغ ارتفاعه حوالي 17م، وحوالي 15م على الجانبين الشرقي والغربي، وحوالي 12م عند الجانبين الشمالي والجنوبي، وهذا القبر يقع بين المباني التي تؤدي إلى مسجدي هذه المجموعة المعمارية، وكان أحدهما خاصًا بالرجال، والآخر للنساء. ومن الملاحظ أيضًا أنه يوجد سلم يبدأ من الركن الشرقي، ثم ينتهي في ناحية الغرب، ويؤدي هذا السلم إلى القمة، أي يفضي بدوره إلى الجزء العلوي من القبر الهرمي، ويتم ذلك عبر أحد الممرات التي تؤدي للمدخل الداخلي لهذا القبر، حيث توجد هناك ما يُطلق عليها "غرفة الدفن" الخاصة بالسلطان أسكيا محمد.
مسجدا المجموعة المعمارية:
تضم هذه المجموعة المعمارية بجانب هذا "القبر الهرمي" (أو البرج الهرمي) "مسجدين" أحدهما للرجال، والمسجد الآخر كان مخصصا للنساء، وهذان المسجدان مشيدان على طراز معماري يبدو في منتهى البساطة، وهذا الطراز المعماري يتميز بوجود "سقف مسطح" Flat Roofed Mosque. وهذان المسجدان آنفا الذكر عبارة عن بنائين شيدا في شكل مستطيل، ويقع كلاهما ناحية الشرق والغرب من "البرج الهرمي"، ويربط بين هذين المسجدين بواسطة سور، وكل ذلك يشكل بدوره الفناء الذي يحيط بـ"القبر الهرمي".
صورة تظهر قبر أسكيا محمد الهرمي في جاو
والبناء الشرقي الخاص بتلك المجموعة المعمارية، وهو الذي يقع ناحية الطرف الشرقي من "القبر الهرمي"، حيث توجد المساحة المخصصة لصلاة الرجال، وهو المعروف بـ"مسجد الرجال" (أو مُصلى الرجال)، وهو بناء مستطيل الشكل، ويتجه صوب الشمال الجنوب، ويبلغ امتداده حوالي 50 مترا في 15 مترا. بينما في "الركن الشرقي" منه، يوجد "المحراب" mihrab الخاص بالمسجد، أما السقف فهو مشيد من مجموعة من الكتل الخشبية المصنوعة من جذوع النخيل، وتدعمها قرابة 69 عمودا، وقد تم وضع تلك العمدان في سبعة صفوف، منها أربع صفوف أصلية، وتلك الصفوف تبدو موضوعة في شكل غير منتظم، أما الثلاثة صفوف الأخرى فهي حديثة البناء، غير أنها تبدو من جانب آخر مُشيدة بشكل أكثر تنسيقًا مقارنة بالصفوف الأخرى. أما فيما يخص "مسجد النساء"، أو "مُصلى النساء"، وهو البناء الموجود داخل مجموعة القبر الهرمي، فهو عبارة عن مبنى ذي شكل مستطيل، وهو يقع في الركن الغربي، وهو بناء مشيد على ذات الطراز المعماري على غرار "مسجد الرجال"، وهو يتكون من صفين.
ويحرص أهلُ البلاد على زيارة القبر، لأنه يحمل لهم الكثير من ذكريات العظمة، وعبق المجد الغابر. ويُشكل قبر أسكيا محمد بناءً مميزًا داخل "مجموعة معمارية" تضم العديد من المباني، التي تُظهر في حد ذاتها نمطًا، وطرازًا غير مسبوق من طُرز العمارة الإفريقية في العصر الوسيط، إضافة لبعض التأثيرات الوافدة من خارج هذه البلاد. ولا ريب أنه بعد عودة أسكيا محمد من رحلة الحج، صار ملك التكرور مُتشبعًا بالتقاليد العربية الإسلامية، ومن ثم جعل السلطان أسكيا محمد الإسلام دينًا رسميًا للإمبراطورية التي كان يحكمها، والتي كانت تُسيطر على أكثر أراضي غرب إفريقيا. ورغم ذلك، إلا أنه اتخذ لنفسه قبرًا ذا طراز هرمي على غرار أهرامات الفراعنة المصريين، وهو أمرٌ لايزال يُشكل لغُزًا أمام الباحثين.
ومن ثم يُمثل قبر أسكيا محمد طرازًا معماريًا يضم مزيجًا من تقاليد العمارة المصرية القديمة، وهو "الشكل الهرمي" المعروف، وكذلك تقاليد العمارة الإفريقية التقليدية. وعن هذا القبر، وأسباب بنائه على هذا "الطراز الهرمي"، يقول أحد الباحثين: "إنه خلال رحلة أسكيا محمد للحج في مكة.. شاهد الأهرامات (بالقاهرة)، وانبهر بها، ومن ثم قرر أن يشيد قبرًا على غرارها ليدفن به..".
ومن هنا يبدو لنا التأثير المصري واضحًا في بناء هذا القبر. ولا شك أن "الطراز الهرمي" القديم الذي شيده ملوك مصر يحمل في طياته العديد من الرموز، والدلالات الدينية، واللاهوتية بحسب معتقدهم، لا سيما من خلال إيمانهم بعقيدة الخلود.
كلية الآداب - الجامعة الإسلامية بولاية مينيسوت



