تتجه الأنظار كما هو واضح في بيان الأستاذة الدكتورة إيناس عبد الدايم “وزيرة الثقافة” أمام جلسة مجلس النواب في بدء مناقشة إنجاز خطة الحكومة المصرية، وبالنظر لتلك المناقشة لاحظت أن هناك تركيزا على مناقشة البنى التحتية، واكتشاف المواهب الجديدة، وهي أمور هامة، وربما رغم سخونة الجلسة يبدو فيها اهتماماً واضحاً بالمسارح المتنقلة وإمكانية وصولها للناس في جميع أنحاء مصر، وهو إنجاز فرعي هام على صعيد الاهتمام بالبنية المادية القادرة على استعادة أسئلة المسرح الشعبي المعاصر، ودوره في التنمية المستدامة.
إلا أن الإنشاءات المادية والبنى التحتية وتطوير المنشآت الثقافية على أهميته في الشأن الثقافي بمعناه العام، وفي الشأن المسرحي على وجه التخصيص، يذكرنا بضرورة السؤال عن المشروعات الثقافية بمعناها الجمالي والمعرفي، والتي يمكن عبرها إطلاق طاقات كبيرة للمبدعين المصريين، وفي مجال المسرح المصري، وفى إطار التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية الدائرة الآن في مصر، ومحيطها العربي والإقليمي، ودورها في الإسهام بنصيب فعال في الثقافة الإنسانية.
يجعلنا نسأل عن المشروعات الفكرية الهامة والتي تحتاج لتصور وإرادة وميزانية، تهتم بالبشر المبدعين.
وفي المسرح المصري منهم طاقات كبرى قادرة، وفي هذا الإطار يحضرني السؤال عن المشروع التاريخي الهام والمؤثر، والذي قطعت مصر فيه شوطاً طويلاً، وهو المسرح المصري الشعبي وأسئلة الهوية، وذلك من منظور يهتم بضرورة دعم فنون الأداء المصرية.
إن مسألة فنون الأداء تطرح على المختص المسرحي مسألة مثيرة للجدل حول علاقة المسرح المصري كجزء من التكوين العام للمسرح العربي، بالموروث الشعبي بين التأثير والتأثر، وفي هذا الصدد يمكن تأمل دور الكتاب والمخرجين والنقاد في هذا الشأن.
ولعل اللحظة المعاصرة تطرح علينا بما يحدث في مصر الآن وفى وطننا العربي من أسئلة هامة حول الهوية ودور المسرح المصري في تأصيل واستعادة النسيج الشعبي ما يجعل تلك الأطروحة وهذا الاهتمام هو بمثابة قضية آنية تخص مسار المسرح المصري وبالتالي المسرح العربي، ذلك أن أسئلة الهوية بالدرجة الأولى هي أسئلة لازمت لحظات النهوض القومي، وآخرها محاولة الدولة الوطنية في الستينات نحو التراث الشعبي ومحاولة التأثير به في الإنتاج الثقافي الإنساني، وإن كان النقد المسرحي الستيني قد مارس قسوة هي قسوة الاعتراف والرغبة في الدفع الحقيقي نحو بناء نظري وإبداعي يساهم في الرؤية الحقيقية لتيارات ودعوات البحث عن مسرح مصري عربي أصيل يعود لموروثه الشعبي.
وإن كانت الرؤى النظرية غير مكتملة بشأن المسرح والموروث الشعبي المصري إلا أنها ساهمت في دعم دوراً محورياً للمسرح المصري لاستنهاض الظواهر والأسس الجمالية الشعبية العربية في أقطار عديدة عقب تحرر الأوطان العربية من الاستعمار التقليدي آنذاك وتجلت تلك المحاولات من شرق الوطن العربي لمغربه وكانت بمثابة علامة دالة على حيويته وقدرته على المساهمة في الحركة المسرحية آنذاك.
ولما كان السؤال يجب أن يكون اختصاصيا فإن تحديده حول فكرة فنون الأداء والمسرح هنا نموذجاً اختصاصيا، وفي مصر بالتحديد، فإن طرح السؤال الآن هو طرح أساسي عن الموروث الشعبي وضرورة استعادة التجارب الهامة القريبة للمسرح المصري الآن، وأي منها أصلح وأقدر على البقاء حيا ومؤثرا في الحاضر والمستقبل، خاصة مع تراجع ملحوظ في اهتمام المسرح المصري المعاصر بمسألة الموروث الشعبي، يصاحبه تراجع نظري ونقدى فى هذا الشأن.
ولذلك وجب البدء من تأمل جوهر ما يقدمه المسرح المصري الآن حتى في صوره الأثيرية المرتبطة بالشاشات الرقمية عبر البث الفضائي المباشر، وتأمل غياب مساحات النقد الداعمة للقضايا الأساسية حول المسرح المصري بمعناه الجمالي الجاد، إلا أن أبرز الأصوات النقدية تأتي من زاوية البحث عن الجديد في الدرس النقدي الأكاديمي مرتبطاً بتطور المناهج النقدية الحديثة، ولكن تطبيقها والأصوات التي انتمت إليها لم تضع مسألة البحث الجمالي في الموروث الشعبي وعلاقته بالتأثير في التراث الإنساني المعاصر في أولوية اهتماماتها، ذلك أنه يمكن ملاحظة تغير لغة النقد المسرحى النظرى والتطبيقى فى مصر،لتظهر لغة جديدة تعترف بمفاهيم كالمسرح الراقص ومسرح الشارع ولغة الجسد والسينوجرافيا والدراماتورج وغيرها، كما ان النظرة للمشهد المسرحى من زاوية نقدية تحركت اكثر نحو المناهج النقدية الحديثة، وإن لم تظهر محاولات تطبيقية منظمة لاستخدام دقيق للادوات النقدية الجديدة، كالنماذج البنيوية والسيميولوجية والانثروبولوجية إلا فيما ندر،ومعظمها كان مشغولا بتطبيق النماذج الجديدة أكثر من البحث عن الأساس الجمالي المعرفي لقدرة المسرح المصري علي التفاعل الثقافي مع موروثه وجمهوره. مما يجعل السؤال عن دور النظرية فى دفع التطبيق فى الدراما والمسرح والنقد سؤالا مثيرا للاهتمام، رغم ان الطرح النظرى العام حول نظرية المسرح المصري وامتداده فى الوطن العربى اصبح سؤالا مثاليا فى ظل الظروف الموضوعية التي يمر بها المسرح المصري، الذي يعيش حالة واضحة من غياب نظرية معاصرة مطروحة الآن على التفكير المسرحى. خاصة ان المسرح المصري الجاد لا يزال فى قبضة انتاج الدولة، بينما يظل الانتاج المسرحى المستهدف للتسلية على يمين المحاولات التجديدية الدائمة لفرق الدولة فى العاصمة والأطراف، ورغم كل محاولات الفرق المسرحية المستقلة الجادة،إلا أنه رأس مال الانتاج الخاص لا يزال على اقصى اليمين فى آداء التسلية والإستهلاك، وبالتالي فطرح سؤال المسرح وتأثره بالموروث الشعبي يصبح طرحا استيعاديا جماليا ومعرفيا معا علي أساس نظري مشترك للمسرح والنقد معا،خاصة أن مغامرات اليقين التام بالنوافذ المفتوحة التي تتعرض فجأة للإغلاق بشكل متكرر قد أورث خوفا وقلقا ورقابة ذاتية داخل المبدع المسرحى،مما دفع رأس المال الخاص لصمت ينشد الأمان عند التفكير فى المسرح الجاد.
خاصة مع تراجع تجارب ورؤى البحث عن الذات القومية وخصوصيتها فى إستلهام الظواهر والاشكال المسرحية الشعبية التاريخية كمسرح السامر والمحبظين ومسرح الحلقة وما الى ذلك من مترادفات تأسست على نظرية درامية ومسرحية جمالية مفارقة تماما لنظرية المسرح الغربى التقليدية،أو ما نسميه عبر دراسة المفاهيم بالمسرح الغربى/العالمى، وهو الآن فى معناه المعاصر محصلة عملية التصفية الثقافية التاريخية لهذا التراث الإغريقى ثم الرومانى من بعده، والتي تمت فى أوروبا منذ عصر النهضة حتى اليوم.
فقد أضحى النموذج الدرامى الغربى هو النموذج المعروف لما نسميه بالمسرح المعاصر وجزء منه بالطبع المسرح المصري، وهى حقيقة لا يمكن انكارها بدافع العزة الوطنية، وقد فرضت نظرية المركز والاطراف ذاتها على المسرح المصري، إذ أن الجانب الأوسع من إنتاجه يأتى متأثرا بالمركز الغربى، ومتجمعا فى العاصمة المتأثرة بفكرتى السوق والاستهلاك. إذ تظهر الحداثة فكرة الجماهير الغفيرة كهدف للفن ، وكذلك فكرة إنتصار الحياة اليومية على الجماليات التقليدية فى العالم الغربى وكذلك فى مصر، مما أفرز استهلاكا مسرحيا مصورا تم بثه عبر الأثير لجمهور غفير يستهلكه عبر الشاشات اللانهائية.
فى إطار اشتداد عود العولمة الضاغط على النخب التقليدية ، ومنها النخبة المصرية ، مما أثر بشكل مباشر وواضح على إختيارات التلقى المسرحى ، وعلى نوعية المتلقى المسرحى الجاد بشكل عام.
خاصة مع ميل واضح للأنتليجنسيا المصرية والتي هى قلب الطبقة المتوسطة لخلق لحظات التلقى الخاصة بها وعزل نفسها عن الجمهور العام وعدم سعيها لدعم إتجاهات عامة وأنماط فى التلقى يمكن ان تتشارك فيها مع إهتمامات وذائقة الجمهور العام، لأن المجتمع المصري تتفاعل فيه الآن حالة متشابكة من التعدد فى أنماط الحياة والتفكير أدت به إلى أن يعيش فى لحظة واحدة الحداثة وما قبلها وما بعدها ، بتعدد الجماعات والمناطق السكنية وتنوع القوة والنفوذ ومستوى التعليم والقدرة على ممارسة الحرية ، فى تعبير عن تفاعل طبيعى لمفاهيم ثقافية متعددة قديمة وجديدة وافدة وموروثة مما خلق نوعا من التداخل الثقافى والتعددية الثقافية ، وبعض من الإنتاجات المسرحية النادرة القادرة على النجاح الإستثنائى .
مما يجعل الإحتياج للعمل النظرى فى نظرية المسرح الآن بمثابة إحتياج ملح من أجل المشاركة فى تحديد الاهداف وتجميع المتناثر وفتح مسارات عمل تراكمية متعددة .
المشكلة التي تبقى واضحة مستحقة للبحث والدراسة : هى لماذا توقفت الدعوات النظرية الباحثة عن مسرح مصري خاص؟ وتوقفت مثيلاتها تقريبا فى الإمتداد العربى ، هل هو تأثير الدور المصري الذي أعلن صمته النظرى تقريبا ؟
مما ساهم فى تراجع أصداء مسرح الحكواتى فى لبنان ومحاولات فرقة الورشة المصرية مع التراث ، وإهتمامات عبد الكريم برشيد فى المغرب وتجارب مسرح الحلقة .
رغم أن إحتياجاتنا الآن فى مصر والوطن العربى لتأمل نظرى فى الذات القومية ضرورة وجود وشرط دخول للمستقبل ؟
وربما تأتى محاولة الاجابة على ذلك السؤال من زاوية تناول منهجية تصدر عن تقدير علمى للفن الشعبى المصري ، وفى هذا الصدد يمكن إستعادة السؤال المعرفى عن المسرح الشعبى المصري الخالص الأصيل الطابع مرة أخرى ؟
لأن مصر وهى تدخل مرحلة جديدة تستهدف المستقبل الأفضل، تسأل بالتأكيد سؤال الهوية بطبيعة المرحلة، وفى الفنون يأتى السؤال ضرورة فى لحظات إعادة إدراك وتعريف الذات القومية، ولذلك وبعض التأمل مستعاد لم يحسم الزمن الجدل فيه، فسؤال هل يمكن العودة للظواهر المسرحية الشعبية لاستنهاض التراث المصري نحو خلق مسرح مصري خالص وأصيل؟ لا يزال حياً، يمكن طرحه مجدداً، فطرق الإنتاج المتخبط والجدل حول غياب التأسيس التقليدى للمسرح المصري، وقراءة غياب الجمهور العام عن التواصل المنتظم الجمالى الصحيح مع المسرح المصري، يذكرنا بمرحلة هامة فى تاريخ المسرح المصري الحديث بعد ثورة 23 يوليو، حيث ظل القلق الوجودى حاضرا وتبلور فى السنوات السابقة لعام 1962 وهو عام افتتاح مسرح الجيب التجريبى آنذاك، واللحظة مشابهة بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، وذات القلق الوجودى وسعى المسرح المصري نحوطرح أسئلة جديدة كخلاص للذات المسرحية فى أزمة علاقاتها بالجمهور العام، ولذلك فتأمل التراث المسرحى الستينى القريب فى هذا الصدد، ربما يصبح مقتربا لفهم الواقع المسرحى الآن، مما يجدد ويستحضر سؤال الهوية مرة أخرى، ويعيد التأسيس المعاصر لطرح أسئلة نظرية جديدة حول فنون الأداء والموروث الشعبي المصري كأحد العناصر الأساسية في مكون الموروث العربي الشعبي وامكانية التأثير والتأثر بالثقافة الغربية.
وفى هذا الإطار يمكننا النظر في إمكانية عودة السياسات الثقافية التي تطرح تصورا نظريا معرفيا مدعوما بخطط تنفيذية في مؤسسات الإنتاج الثقافي المسرحي المصري.
وهو الأمر الهام ليس على صعيد أسئلة الهوية في المسرح المصري فقط بل أيضاً على صعيد أسئلة عديدة في الثقافة المصرية تحتاج لدعوات نظرية وسياسات ثقافية معلنة وواضحة، وقابلة لأن تتحول لخطط تنفيذية، في اهتمام ضروري بالثقافة المصرية ننتظره جنبا إلى جنب، مع الاهتمام الواضح بتطوير البنى المادية والإنشاءات والاحتفالات والمهرجانات المتعددة.
إنها أسئلة الهوية الوطنية والقدرة الفاعلة على التواصل مع الجمهور العام.



