في إطار دور النقد الضروري لطرح المشروعات الفنية والفكرية، وتحفيز المخيلة الإبداعية الجمالية نحو آفاق واتجاهات جديدة.
وفي إطار الذاكرة الاستيعادية للأدوار والنقاد الفاعلين، وفكرة الناقد بمعناها الجوهري، والتي هي في أحد أهم ملامحها إضاءة الطريق أمام المبدعين.
ويمكن إعادة طرح اسم الناقد الكبير الراحل د. علي الراعي، في مشروعه عن الكوميديا المرتجلة خاصة مع ازدياد ظاهرة الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري الآن، واستقطاب الآراء النقدية الحاد حولها، ما بين مؤيد ومرحب لقدرتها على شغل فراغ إنتاجي كبير في المسرح المصري، وما بين رافض لها لأنها تقدم صورة ذهنية غير جمالية لفن المسرح.
وفي هذا الاتجاه ذاته يتردد الآن عند الحديث عن المسرح المعاصر حديثًا عن المسرح التفاعلي الذي يسمح للجمهور بالاشتراك في الحدث المسرحي ويكسر الصورة النمطية، ويحتاج للمثل القادر على الارتجال والإضافة الفورية، إنه الممثل المفكر الذي أسماه د. علي الراعي بالممثل المؤلف القادر على الإبداع اللحظي والحذف والإضافة وفقًا للظروف المتغيرة للعرض المسرحي، والمدهش أنه في جوهره هو وصف للمثل الشعبي المصري ابن البلد صاحب التاريخ الطويل والامتداد الحي في هذا المجال الإبداعي.
وبخطوة قريبة للوراء تساوي خطوات كبيرة للأمام يمكن العودة لأفكار الراعي، ففي نوفمبر 1968 أصدر د. الراعي عن دار الهلال وفي عدد من الصفحات هو مائة وسبعة وعشرين صفحة كتابه الهام الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري، وهذا الكتاب اعتبره البعض دعوة نقدية للعودة إلى جذور الارتجال والمخايل والمحبظ المصري أو استلهام شكل العلاقة بين الجمهور والممثل وعناصر العرض الذي حدث في بدايات استيراد الشكل المسرحي عند صنوع، إن الراعي يخلي الارتجال من فكرة الالتزام وينظر للأمر نظرة محايدة لا يهدر قيمة “النمر” والنصوص “الفصول المضحكة” التي عثر عليها، ولكنه مع ذلك لا يقدر بموضوعية الناقد أن يعتبرها شكلا يمكن استلهامه، ولم يؤثر هذا المشروع كثيرًا وقتها في ستينيات الحركة المسرحية وفى دائرة البحث الزمنية وإن أظهر ردود فعل واضحة في إنتاج جيل الثمانينيات والتسعينيات، خاصة مع المبدعين الشبان هذا وقد أحدث الكتاب وقتها ردود أفعال متناقضة في عملية استقباله وهي التي رصدها د. الراعي بنفسه في الطبعة الجديدة لكتابه مسرح الشعب الذي ضم إلى جوار الكوميديا المرتجلة كتابيه فنون الكوميديا ومسرح الدم والدموع، وهو يتحدث عما حدث في حالة الكوميديا المرتجلة فيقول:
"بدأت حالة الكوميديا المرتجلة بالاحتجاج، المعلن، والمضمر، والمهموس، انضم إلى جانب الاحتجاج المعلن للدكتور لويس عوض، الذي نشر صفحة كاملة عن الكتاب بصحيفة الأهرام، واعتبروه أهم ما ظهر في حقل الدراسات المسرحية منذ كتبت فاطمة اليوسف كتابها المعروف “ذكريات” واحتج على الكتاب احتجاجا صامتا “توفيق الحكيم” وهمس “نعمان عاشور” لأصدقائه وحوارييه باحتجاجه، وكان العامل المشترك في الاحتجاج الثلاثى أن كتاب الكوميديا المرتجلة يسعى إلى سحب البساط من تحت قدمي المؤلف ويقدمه هدية غير مستحقة للممثل، القلائل رأوا الكتاب على حقيقته، وهو فيما يلي يشرح هدف الكتاب ويلخص لنا جوهره: محاولة لإفساح المجال أمام الفن المسرحي كي يوسع من رقعته وقدراته، وذلك بالإفراج عن الطاقات الحبيسة للممثل ودفعه إلى أن يتعلم ويتقن وسائل أخرى للتعبير غير الأداء باللفظ والصوت، ووسائل مثل: الأداء بالجسم كله أعصابا وعضلات، ومثل المشاركة في بناء النص المسرحي نفسه، في جلسات جماعية يحضرها فريق التمثيل وقائد الفريق".
ولكن دعوة الراعي النظرية وان لم تلق آنذاك وقت طرحها استجابة تطبيقية، ألا أنها ولأهميتها تجلي تأثيرها التطبيقي في المستقبل، فمع بداية التسعينات المصرية يمكننا تأمل حالة المخرج الراحل- منصور محمد- التي حدثت خلال مهرجان المسرح التجريبي على سبيل المثال، وعدد آخر من التأثيرات المستقبلية بعضها مطروح للآن بفضل كتاب علي الراعي ودعوته النظرية لتأصيل المسرح المصري، وهو في هذا الصدد يحدد هدفه، إذ كان يرى أنه من الضروري: "إعطاء فناني الارتجال القدامى حقهم الذي طال إنكاره. هؤلاء الفنانون المستهان بهم هم الذين قامت الكوميديا الشعبية الحقة على أكتافهم، كانت هذه الكوميديا هي الدعامة الأولى الذي انتقل بفضلها المسرح المصري غير المستورد، من مرحلة التعبير بالوساطة. عن طريق الدمى ومقصوصات خيال الظل، إلى مرحلة المسرح المصري البشرى المكتوب، وكان فنان الارتجال السوري “جورج دخول” هو أول من حول بابات القراقوز إلى التمثيل بالبشر، فأثر بهذا تأثيرا كبيرا في التأليف الكوميدي والشعبي منه والرسمي، أثر في كوميديا الريحاني وعلى الكسار وأثر أيضا في كوميديا إبراهيم رمزي ومحمد تيمور وتوفيق الحكيم".
هذا وكتاب د. علي الراعي- الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري- وإن لم يظهر تأثيره واضحًا وقت صدوره إلا أنه ساهم بالفعل في تغيير النظرة لفنون الارتجال بإعادة القيمة إليها باعتبارها المنابع التي يمكن استلهامها لمؤلفي المسرح في محاولتهم البحث عن مسرح مصري أصيل، ولذلك فكتاب الراعي يعتبر من وجهة نظر أخرى هو تدعيم لدعوة يوسف إدريس الشهيرة عن السامر الشعبي بشكل غير مباشر، خاصة أن دعوة ادريس النظرية حول استلهام السامر لم تخل من نقد حاد لتطبيقه لها في مسرحيته الفرافير التي اتفق معظم النقاد على أن البناء المسرحي الغربي هو طابعها الأساسي رغم دعوته النظرية لمسرح مصري خالص، ولهذا فدعوة الراعي ذات أهمية خاصة لأنها تأكيد نقدي جاد يدعم وجود ملامح قديمة يمكن التأسيس عليها معرفيا وتقنيا في ظل المشروع العام المطروح آنذاك، وقيمتها الأساسية أنها طرح نظري نقدي يمكن أن يلهم تجاربا مسرحية متنوعة في إطار السؤال عن البحث عن مسرح مصري أصيل.
مما يمكن أن يمنحنا نظرة استيعادية معاصرة تفتح آفاقا لعمل مستقبلي عن ظاهرة الممثل المرتجل، أو الممثل المؤلف في صلة بالتراث، وفي ذات الوقت على اتصال معاصر بالمسرح التفاعلي، وهو أحدث ما يفكر به المسرحيون المحدثون الآن من طرائق الإبداع المبتكرة.



