من أفواه الجدات العجائز «الجلاصي» توثق تراث تونس الغنائي النسائي المنسي
عمل إبداعي، يحفظ الذاكرة الغنائية النسائية المنسية، من أفواه الجدات التونسيات اللاتي بلغن من الكبر عتيا بتجاوزهم الثمانين عامًا، ذلك الذي جمعته وحققته الكاتبة الصحفية اللامعة سالمة الجلاصي، عضو مجلس نقابة الصحفيين التونسيين الأسبق.
«أعاني التونسيات.. من مرددات نساء بلدة الكنائس»، هو عنوان الكتاب الصادر حديثًا، عن دار الكتُب الوطنية التونسية، لـسلمى الجلاصي، وهو عمل تراثي توثيقي يضم ما يزيد عن مائة اغنية نسائية، يهدف الى حفظ الذاكرة الجماعية من التلاشي فقد جمعت اغلب الاغاني من أفواه نساء عجائز تجاوزن الثمانين من العمر ويحفظن اغلب تلك الاغاني الشعبية.
وتأتي الأهمية، من كون تلك الأغاني التراثية التي يطلق عليها التونسيين «المدونه أو السجل»، لم يسبق تدوينها، ولم تدخل في ضمن الاغاني المسوقة تجاريا، والمسجلة ليعاد استدعائها، ما كان يعرضها للتلاشي والضياع مع رحيل الجدات اللاتي تحملها في الذاكرة.
وتتنوع تلك الأغاني التي جمعت بين دفتي الكتاب، بين اغاني العشق والغناء الاخضر وهو الغناء المغرق في التفاصيل الحسية، واغاني الفخر والحكمة واغاني تحفز على العمل آخرى تعرف بـ«الهدهدة»- التي بتم غنائها للأطفال قبل النوم- واغاني حفلات الزفاف أو «الأعراس» بحسب لكنة التونسيين، واغاني الرقص والهزل.
الكاتبة سلمى الجلاصي استفادة من خبرتها البحثية، فيهي باحثة دكتوراة، في استخدام المنهج العلمي في جمع الأغاني وتحقيقها، عن طريق المقابلات المباشرة مع السيدات كبيرات السن في مقابلات، وكذا من خلال حفلات الزفاف.
تقول سلمى الجلاصي، لـ«بوابة روزاليوسف»، مرحلة جمع الأغاني بالمقابلات وحضور «الأعراس»، استغرق عام كامل، لكن لم تكن مرحلة الجمع والتدوين هي النهاية، بل كانت البداية، التي انطلقت مرحلة شاقة من شرح المفردات التي خرجت من التداول كالحلي القديمة والملابس القديمة وادوات الزينة، ثم التثبت من الاحداث التاريخية وأسماء الاعلام الواردة في الاغنيات، ثم عملية التحقيق عبر مطابقة المصادر وترتيب المعاني لتصبح وحدات متسقة، ثم تشكيل الكلمات وفق منطوق اهالي قرية الكنائس، حتى تنطق بدقه لتعطي المعاني التي قصدوها.

وعن قرية الكنائس، تقول الجلاصي: هي مسقط رأسي التي بها نشأت وتتبع إداريًا، ولاية سوسة وهي قرية عريقة جدًا بفوق عمرها الالفي سنة كما تشهد على ذلك اثارها النوعية ومعالمها المهمل، والنساء فيها يتمتعن بهامش من الحرية والمساهمة في صنع القرار الاسري ويتحوزن على مخزون هائل من الاغاني القديمة التي لم تنتقل كلها الى الاجيال اللاحقة مما جعل الكثير من المخزون عرضة للاندثار.
الكتاب في منطلقه جزء من بحث علمي لنيل درجة الماجستير في اختصاص الدراسات الجندرية جمعت خلاله الاغاني بهدف دراستها من منظور النوع الاجتماعي، ونشرت الرسالة في صورة كتاب بعد أن حذفت منه الكاتبة الجانب التحليلي عن دار الكتب الوطنية في طبعة فاخرة وملونة تشمل 280 صفحة.
سلمى الجلاصي تواصل هذا المبحث التراثي الانتروبولوجي والاثنوغرافي في مستوى اطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وسعت فيها مجال البحث الجغرافي لتستمع الى مُردٌدات النساء في مختلف قرى وارياف ولاية سوسة، وليس قرية واحدة.
وفي تصديره للكتاب قال الدكتورة رجاء بن سلامة مديرة دار الكتب الوطنية التونسية والمشرفة على البحث في صيغته الاكاديمية:
"نتمنى ان تتسع رقعة الاهتمام بما لا تهتم به الجامعات عادة نتمنى ان ينتقل المهمل الى مركز الاهتمام الأكاديمي وان تضيق الهوة الفاصلة بين الانتاج الفني وتقبله النقدي والبحثي...هذا الكتاب في أصله مذكرة اشرفت عليها في إطار "ماجستير النوع الاجتماعي والثقافة والمجتمع" ولكنه في حجم اطروحة اوعمل مجمعي انه عمل ينقذ من الاندثار والطمس مجموعة من الاغاني التي لم تدون والتي ارتبط بعضها بأحدث تاريخية في تونس مثل ثورة الساحل في منتصف القرن 19 ويقدم ويشرح مجموعة من الاغاني..."

أما الكاتبة فتقول عن كتابها:" لكل امرئ من أرضه نصيب وقد كان نصيبنا من ارث بلدة " الكنائس" ما وقر في الوجدان من اغاني نسائها التي رافقتنا اينما انتقلنا... وقد استقامت جزءا من ذاكرتنا الشخصية…
كان اشق ما واجهنا في هذا العمل هو اتخاذ المسافة الضرورية بين الذات الباحثة وبين موضوع البحث..."
تواصل الزميلة الصحفية والباحثة التونسية سلمى الجلاصي هذا المبحث التراثي التحليلي في مستوى اطروحة الدكتوراه وتواصل الحفر في المناحي الانتروبولوجية لمرددات النساء وأغانيهن. كما تواصل اخضاع الملفوظ الغنائي الشعبي الى مراقبة العدسة الجندرية والبحث في كيفية تشكل هويات النوع الاجتماعي في مجتمعاتنا وحجم مسؤولية النصوص الفنية في تأبيد سطوة مفاهيم بالية وحراستها.



