قناة "سيزوستريس" والوصول إلى سواحل إفريقيا الشرقية
ظهرت أفكارٌ مُبكرة عبر التاريخ كانت تهدف لربط كل من البحر الأحمر- Red Sea، والبحر المتوسط- Mediterinian Sea، وظهرت تلك الأفكار في مصر منذ أقدم العصور، خاصة أنها بلد ذو موقع استراتيجي مهم يطل بسواحل كبيرة على هذين البحرين.
ويبدو أن الخوف كان دومًا يجتاح أصحاب تلك الأفكار منذ القدم وحتى أيام محمد علي باشا (1805-1849م)، إذ كانوا يعتقدون أنه يوجد اختلاف في ارتفاع المنسوب المائي بين البحرين، وهو ما قد يؤدي لحدوث كوارث طبيعية كبيرة، ومن ثم فقد أُهملت تلك الفكرة برُمتها.
وعلى ذلك ظهرت فكرة الربط بين البحرين بشكل غير مباشر عن طريق قناة تأتي من النيل، وترجع الفكرةُ المُبكرة لحفر قناةٍ تربُط بين البحر الأحمر والبحر المتوسط لحقبةٍ تاريخية مُوغلةٍ في القدم، وهو ما أفضى بدوره بعد ذلك لفكرة قناة السويس، الشريان الذي لعب دورًا مهمًا في مسار الأحداث التاريخية.
وقد مرت فكرة الربط بين البحرين عبر القرون في أشكالٍ متباينة، كان أبرزها ما يُعرفُ في ثنايا المصادر بخليج أمير المؤمنين، أو الخليج المصري.
وعلى أي حال بدأت إرهاصاتُ فكرة الربط المُبكرة، ربما في حقبة زمنية ترجع لحوالي 4000 سنة، وقد كانت الغايةُ هي أن يرتبط البحران أحدهما بالآخر بشكلٍ غير مباشر، خوفًا من الربط المباشر، الذي لم يكن أمرًا هَّينًا في ذلك الوقت.
قناة سيزوستريس:
كانت الإرهاصات المبكرة، أو لنقل الفكرةُ الأولى للربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، وهو ما سيغير مجرى أحداث التاريخ فيما بعد، عبر حفر قناة تخرجُ من نهر النيل- River Nile ومنه إلى البحر الأحمر أو بالعكس، ومن ثم كانت تصل السفنُ القادمة من الثُغور والموانئ التي كانت تطل على سواحل البحر الأحمر عبر أحد الفروع التي تخرج من نهر النيل، ومنها كانت تصل السفن والمراكب التُجارية شمالًا إلى سواحل البحر المتوسط بعد ذلك. وقد تم هذا المشروع القديم منذ قرون بعيدة ترجع إلى حوالي ألفي سنة قبل الميلاد، وتحديدًا منذ عصر الأسرة الثانية عشرة (1985-1795 ق.م) من أسرات مصر القديمة.
وعُرفت هذه القناة القديمة- في البداية الأولى لحفرها فيما يبدو- باسم قناة "سيزوستريس"، وهي التي كان أمر بحفرها في الغالب الملك سنوسرت الأول (1965-1920 ق.م)، وعن حفر تلك القناة القديمة يقول المستشرق الفرنسي داجنت: "وينسب التقليد لعهد الملك سنوسرت الأول حفر قناة بين كل من نهر النيل والبحيرات المرة (التي كانت جزءًا من البحر الأحمر قديمًا) بقصد تيسير سبب الانتقال عن طريق الماء..".
ويرى البعض الآخر أن حفر هذه القناة كان أيام الملك سنوسرت الثالث (1874-1855 ق.م)، ومن ثم صارت ترتبط باسم الملك سنوسرت، ولهذا فإن مؤرخي الإغريق مثل المؤرخ هيرودوت (القرن 5 ق.م) وغيره من المؤرخين القدامى أطلقوا عليها قناة "سيزوستريس"، وفي هذه الفترة من تاريخ مصر القديم نال ميناء "القُصير" أو ما كان يطلق عليه "ميوس هورموس" Myos -Hormos في بعض الروايات والكتابات اليونانية واللاتينية مكانة مهمة في تجارة البحر الأحمر.
وعلى هذا فربما كانت هذه القناة، فيما يرى المؤلفُ، ترتبط بسواحل البحر الأحمر بالقرب من ميناء القصير (جنوب الغردقة) أو في منطقة أخرى ساحلية غير بعيدة عنه.
ويرى البعضُ أن اسم "سيزوستريس" الوارد في بعض المصادر اليونانية ربما يشير بشكل أو بآخر إلى اسم رمسيس الثاني (1290-1223 ق.م)، وليس الملك سنوسرت الأول، لكن من الراجح- فيما يرى المؤلف- أن هذه القناة القديمة كانت تنسب بالفعل لعصر الملك سنوسرت الأول.
قناة سيتي الأول:
بدأت فكرة إعادة حفر قناة يمكنها أن تصل بين البحر الأحمر ونهر النيل خلال عصر الأسرة "التاسعة عشرة (1295-1186 ق.م) في عصر الملك سيتي الأول (1294-1279 ق.م)، وهو الذي ارتقى عرش مصر القديمة بعد أبيه الملك رمسيس الأول (1295-1294 ق.م).
ويشير بعض المؤرخين إلى أن الغاية التي أرادها الملك سيتي الأول من حفر هذه القناة هي تسهيل حركة التجارة بين كل أرض مصر وجزيرة العرب، وكذلك تسهيل نقل الجيوش من موانئ مصر إلى سواحل البحر الأحمر.
قناة رمسيس الثاني:
اهتم الملك رمسيس الثاني (1279-1213 ق.م) وهو من ملوك الأسرة التاسعة عشرة (1295-1186 ق.م) بدوره بالتجارة البحرية عبر سواحل وموانئ البحر الأحمر خلال فترة حكمه الطويلة، التي بلغت حوالي 67 سنة، ويُقال إن رمسيس الثاني قام بإنشاء أسطول ضخم كان يضم- حسب بعض الروايات التاريخية- حوالي 400 سفينة بحرية، وهو رقم فيما يرى المؤلفُ يحمل بعض المبالغة والإفراط.
ويرى البروفيسور الفرنسي "داجنت" أن أسطول الملك رمسيس الثاني ربما أخضع سكان سواحل البحر الأحمر الجنوبية، وتحديدًا سواحل "إريتريا" حاليًا، كما أنه استولى على سواحل البحر الأحمر وكذلك العديد من سواحل المحيط الهندي، أو بحر الهند حسب المصطلح الذائع والوارد في مصادر العصر الوسيط، وبلغت السفن المصرية آنذاك في رحلتها حتى سواحل بلاد الهند ذاتها.
وظلت فكرة الربط بين البحر الأحمر والبحر المتوسط لا تُفارق البتة مُخيلة المصريين القدماء منذ أقدم العصور التاريخية، نظرًا لأهمية تلك الفكرة سواء من الناحية التجارية خاصة، والاقتصادية بصفة عامة، وذلك رغم عدم الاهتمام في بعض الأحيان بالقناة البحرية القديمة التي كانت قد حُفرت في الغالب إبان حكم الملك سنوسرت الأول قناة "سيزوستريس".
وفي أيام الأسرة التاسعة عشرة عندما بدت الحاجة ملحة لها، ورغم أن المياه كانت قد طمرت جزءًا كبيرًا منها، أعيد حفر القناة مرة أخرى لا سيما مع اتجاه رمسيس الثاني نحو التخوم الشرقية لأرض مصر، وتحديدًا عندما نقل العاصمة من طيبة (الأقصر) حاليا إلى مدينة برمسيس التي كانت تقع في منطقة شرق الدلتا.
وقد اشتهرت القناة بعد إعادة حفرها باسم قناة رمسيس الثاني، وذكرت الروايات أن الملك رمسيس الثاني خلال عودته من إحدى الحملات العسكرية شرق مصر، أمر- حسب رواية المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي- بحفر قناة تبدأ من نهر النيل حتى البحر الأحمر ليستخدمها المصريون في التجارة البحرية مع الأسواق والموانئ التجارية في بلاد الشرق الأدنى والأقصى، عبر سواحل البحر الأحمر.



