يولد السحر في درب البحر، بلمسة من أشعة الشمس، ودرب البحر، الذي يبدأ من "ميناء الحصن"، ويمد لسانه الطويل على مدى الساحل، لَبِسَ ثوب الزمن الجاري، والزمن زمن الربيع.
البحر يهدر، ويلتاع، ثم تَتَرَنَّحُ أمواجه، وتنتحب على رمال الشاطئ.الجماد في هذا المكان ينطق، يهمس لك كلامًا يدور على الصمت.
رفَّت نسمة داعبت وجه "الأستاذ"، انتشى بها، هَبَّ في خاطرهِ ما حفظ عن ظهر قلب لجبران خليل جبران، الشغوف به، من كتاب "رمل وزبد"، تَنَغم صوته:
"على هذه الشواطئ، أتمشى أبدًا بين الرَملِ والزّبد.إنّ المدّ سيمحو آثار قدمي، وستذهب الّريح بالزّبد، أما البحر والشّاطئ فيظلّان إلى الأبد".
تركنا "ميناء الحصن" يثرثر مع البحر، الى "عين المريسة" و"شارع جون كيندي، ومنه إلى "شارع بلس"، الذي ترك فيه "الأستاذ" أحلى الذكريات.
تتشرنق ابتسامة على شفتيه، قال باعتزاز:
"لي في هذا البلد، أصدقاء كُثُر، أعتز بصداقاتهم، بينهم الأديب والمفكر، السياسي والمبدع في الفن، ولكن أغلاهم عندي، الدكتور أمين الحافظ".
توقف، أخذ نفسًا عميقًا، سوّى نظارته عن عينيه، على أرنبة أنفه: "تعرف أن أمين الحافظ مصري...".
لملم استغرابي من تقاطيع وجهي، تابع بتشاوف ملحوظ: "هو ابن العلامة الشيخ إسماعيل حافظ، نجل العلامة الشيخ عبد الحميد، وحفيد العلامة الشيخ أحمد الأحمدي، نسبة إلى بلدة "بني أحمد"، التابعة لمحافظة" المنيا" في صعيد مصر. والجد تلقى علومه في "الجامع الأزهر".
أدرك أنني بِتّ نهمًا لسماع المزيد: "درس أمين الحافظ الحقوق في "الجامعة اللبنانية" ثم في "جامعة القاهرة"، وقيض له التعرف على أدباء ذياك الزمن، ومنهم العقاد والحكيم. عاد إلى بيروت، وأكمل دراساته في "الجامعة الأمريكية". أما الدراسات العليا فكانت في "جامعة لوزان"، والقانون الدولي في "أكاديمية محكمة العدل الدولية" في "لاهاي". بدأ حياته المهنية أستاذًا محاضرًا في جامعات سويسرا، راسل جريدتي "الحياة" و"الجريدة"، وكتب فيهما مقالات أحدثت دويًا وصدى. وتابع نهمه في الكتابة، ونشر العديد من المقالات الاقتصادية والسياسية. لكنه انشغل عن الكتابة بالسياسة، فدخل قبة البرلمان نائبًا عن طرابلس في دورات انتخابية عدة".
سنة 1973، قامت فرقة من مغاوير الجيش الإسرائيلي بعملية اعتداء في منطقة "فردان" في بيروت، اُغتيل فيها كمال ناصر، كمال عدوان ويوسف النجار. فقدّم صائب سلّام استقالته للرئيس سليمان فرنجية، احتجاجًا على عدم إقالته قائد الجيش، الجنرال إسكندر غانم. فما كان من الرئيس فرنجية إلا أن طلب من الدكتور أمين الحافظ تشكيل الحكومة، مخترقًا بذلك الإجراء "نادي" رؤساء الحكومات التقليديين. فردّ هؤلاء للرئيس فرنجية الصاع صاعين، فعارضوا بشدة تكليف الحافظ، الذي مضى في تشكيل حكومته، إلاّ أن اندلاع المواجهة بين الفدائيين والجيش اللبناني، حال دون مثول تلك الحكومة أمام مجلس النواب لنيل الثقة على البيان الوزاري الذي أعدته.
المشكلة أن قادة فصائل المقاومة، لم يتعظوا بما جرى لهم في الأردن، كرروا الخطيئة المميتة، وانغمسوا في رمال السياسة اللبنانية المتحركة، فكان لا بد من الصدام مع السلطة، ثم مع الأحزاب الرافضة أصلًا للتواجد الفلسطيني، وممارساته في لبنان.. وخلال تواجدي في بيروت، عاينت الكثير من التجاوزات التي ارتكبتها المقاومة في لبنان. يعرف أحمد بهاء الدين مطعم "فيصل". "ياما" أدار فيه نقاشات، سمع، وأسمع، تلقى وطرح، وكتب. كان يرتاده بعد أن يمر على مكتبة الجامعة الأمريكية، ويمضي فيها ساعات، يفتش ويطّلع على الوثائق الفريدة في خزائنها، وينهي النهار حتى أول الليل، مع أصحابه الذين يتقاطرون للسلام عليه، متى عرفوا أنه في بيروت.
ما كدنا نجلس إلى طاولة دلّنا عليها النادل، حتى توجهت إلى طاولتنا امرأة رقيقة في منتصف العمر، أنيقة في مظهرها، يتبعها رجل طويل القامة، تعلو وجهيهما ابتسامة ودّ وفرح المشتاق. انتصب "الأستاذ" واقفًا، فتح ذراعيه للرجل الطويل القامة، ضمه إلى صدره وطبع قبلتين على وجنتيه، واقتربت السيدة الأنيقة، عانقها بلهفة، أخذ بيدي، والتفت إليهما:
"مودي، من مواليد "صباح الخير"، وجيله الجديد الذي لم يحظ بفرصة، معرفتك، يا ليلى وأنت تعملين معنا... مودي، اختار بيروت ليكمل رحلته الصحفية... خدوا بالكم منه في غربته الأولى".
"أهلًا بك..."
شدّ الدكتور الحافظ على يدي.
توشح وجه ليلى عسيران بالغبطة:
"اعتبر نفسك في بلدك الثاني، لبنان مضياف، ويحب المصريين، اسأل أحمد".
بهرتني ليلى عسيران بأناقتها وتصرفاتها، التي تشي بأصالة محتدها، متواضعة لكن بكِبر، ثائرة، رافضة، ومدافعة عن حركات التحرر، لكنها أرستقراطية "صيداوية"، بنت دوحة آل عسيران، التي كان منها عادل عسيران، رئيس مجلس النواب، طوال عهد الرئيس كميل شمعون، وفي أحلك الظروف.
تربت في بيت منفتح، أمها كاثوليكية المذهب، ووالدها شيعي، نشأت في مصر حيث عرفَت مطالعَ قصةِ حبًّ لم تكتمل، وعادت إلى بيروت صبيةً ملأَى بالطموح، وانتسبَت إلى الجامعة الأمريكية التي كان أساتذُتها من طليعة الفكر في خمسينيات القرن الماضي. تولعت في الكتابة وتركت مقالات في "المحرر" ثم على صفحات مجلة "الصياد".
ودار الكلام، ودخل "الأستاذ" مع الدكتور في حديث السياسة، مرا على ما يجرى في لبنان، ثم ما يفعله السادات في مصر، وامتد بهما التنظير والتحليل السياسي، إلى ما تنويه واشنطن للمنطقة. بقينا، ليلى عسيران وأنا، نكتفي بهزّ الرأس، قطعت الصمت بيننا، وقالت من دون أن تزعج "الأستاذ" والدكتور، وبصوت مهموس:
"تعرف يا أستاذ مودي، أن الأستاذ بهاء هو صاحب الفضل في مسيرتي الصحفية؟"
أدركت بحسها المرهف، أن الفضول نما فيّ إلى معرفة المزيد:
"بعد أن عدت إلى لبنان وعملت في الصحافة هنا، راسلت مجلتي "روزاليوسف" و"صباح الخير" وكانتا في مقدمة المجلات في العالم العربي. ثم عُدت إلى مصر وغطست في الجنة، فمصر في هاتيك الأيام، ونحن في سنة 1956 كانت زاخرة بالنشاط الثقافي والفني الإبداعي، وكانت "روزاليوسف" تعج بالسياسيين والكتاب الصحفيين والرسامين.. وقد دخلت في جوهم وأنا في العشرينات من عمري وأحببتهم وأحبوني بسرعة.
بهاء، كان له الفضل في تشجيعي على طريق الكتابة. ذات مرة، كنا نجلس في مقهى بسيط على النيل وقال لي: لا تقعي أبدًا، بل حاولي دائمًا، وإياك وفخ الإعلام، والاغترار بأن اسمك بات متداولًا في الإعلام! فعلى من يود أن يكتب الرواية أن يحتمل فكرة عدم تداول اسمه في فترة ما، من يود أن يكتب الرواية يجب أن ينتشر في دنياه الداخلية والخارجية على حد سواء، ويجب أن يقرأ".
أوقدت فيَّ الرغبة في السؤال، خِفت أن أقطع عليها السرد، تركتها تُكمل:
"كانت قراءاتي الأولى في بيروت معظمها غربية، وكانت الموسيقى التي أسمعها أجنبية أيضا، ولم أكن أعرف عبد الوهاب وأم كلثوم. أنا أخجل من اعترافي هذا لكنني في بيروت لم أجد دافعًا من معارفي أو مصدرًا من أصدقائي لأتعرف على الثقافة العربية. في مصر لم أجد تناقضًا بين أسلوب التعبير والمد القومي. وهناك اطلعت على نتاج نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وتعرفت على صلاح جاهين، إلى جانب آخرين، ممن أمسكوا بيدي في خطوات الكتابة الاولى. لازمتني منذ أول الطريق رؤيا غامضة بأنّي سأصبح إما كاتبة كبيرة.. وإما عازفة بيانو عالمية، لكن لم أحلم يومًا أن أكتب روايات خيالية. بداياتي كانت في الستينيات، ظننت أن القصة القصيرة والصحافة هما أول الطريق للكتابة فكتبت القصة القصيرة، ونشرت عددًا من الأقاصيص التي لم يعد لدي مرجع لها، وكان ذلك في البداية. التزمت بالإنسان هو قضيتي في كل ما كتبت وأكتب وجعلت الوطنية والعروبة مقياسًا في حكمي على الآخرين على امتداد رواياتي".
سمع أحمد بهاء الدين آخر كلمة، تحمس للكلام، حطّ بنظره على وجهي، ترك الدكتور يسمع:
"كانت ليلى في مجلة "الشبكة"، فاقترحت على أنيس فريحة أن يستفيد أكثر من تلك الفتاة التي تستطيع بالتأكيد أن تكتب ما هو أهم من المواضيع المتعلقة بالأزياء والمرأة... آمنت بليلى عسيران ولم تُخيّب ظني. حققت أكثر من سبق صحفي، كان من أبرزها آنذاك تغطية محاولة الانقلاب التي قام بها اللواء علي أبو نوار على ملك الأردن في إبريل 1957، ثم انفرادها بمقابلة معه بعد فشل محاولته وفراره إلى سوريا. شَكّل هذا النجاح الإعلامي دخولًا قويًا لها إلى عالم الصحافة".
انخرطت في العمل السياسي والحزبي، التقت ميشال عفلق في "برمانا"، ناقشته، ناقشها، انضوت في "حزب البعث" فكانت أول فتاة لبنانية تدخل ذلك الحزب، لكن مكوثها في صفوف "العبث" لم يدم طويلًا، والأسباب ليس ها هنا مكانها، إلا أنها لم تتخل عن فكرها القومي والتحرري. وهذا ما جعلها في السنوات اللاحقة تنخرط في النضال الفلسطيني بقوة. فعاشت "معركة الكرامة" وكتبت عنها، كما أسهمت بشغف في ميادين الثورة الفلسطينية ومخيماتها، حتى لقبت بـ"الأخ خضرة"، وسجلت معاناة النازحين وانطلاق المقاومة. في رواية "خط الأفعى" سجلت رحلتها بين الفدائيين في غور الأردن، فحصلت على لقب "فدائية الأدب العربي". وبعد حرب أكتوبر 1973، زارت "سيناء" و"الجولان". تنهدت عسيران وهي تتذكر آلام المشردين في خيام اللاجئين.
"يا ليلى.. خبّري مودي عن صلاح جاهين وخوفه من "الغطيطة" (الضباب) في "ضهور الشوير".
وترك الأستاذ ضحكة عريضة على شفتيه، ضرب الدكتور كفًا بكف، وأخذت ليلى عسيران الكلام:
"لقد دعوت صلاح جاهين عندما زار لبنان للسهر في أحد مطاعم "ضهور الشوير" التي تطل على "جبال صنين" وكسروان، وترتفع عن سطح البحر 1220 مترًا. عند عودتنا، اختلط ظلام الليل بضياء أول النهار وبقية من سواد الليل. فقد أخافه منظر السماء مغبرة اللون، رمادية مثل لون الضباب، وشبه سحاب كالدخان يغطي الأرض (الغطيطة). أصاب الذعر والخوف جاهين، ولم يهدأ إلا بعدما اقتربنا من مشارف بيروت."
طال سمر المودة، وطال الكلام، وكان وعد مني أن أبقى على تواصل معها.
"نحنا بالخدمة... إذا احتجت إلى أي شيء".
مدَّ الدكتور أمين الحافظ يده، دفنها في كفي، ترك على شفتيه ابتسامة ودودة.
تساقط ضوء النهار من الإعياء، كان الليل بدأ يمد يده على المطارح، السماء لبست الغيم الأسود، والنجوم راحت تتلامح استعدادا للسهر مع القمر الربيعي. قناديل الشوارع والأضواء الطالة من الشبابيك، عناوين حكايات اختفت في العتمات.
أمام مدخل فندق "سان جورج"، ودعني "الأستاذ" وكان عناق، ولم ينبس ببنتُ شَفة.
كانت تلك المرة الأخيرة التي رأيت فيها أحمد بهاء الدين.



