الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

سألتني صديقتي الطيبة، ماذا تفعل مع ابنتها التي تقع في صمت في حب زميلها في الجامعة؟ وأردفت: ابنتي تبحث دائمًا عن الراحة، لن تخوض معركة في الحياة من أجل أحد؟

 

قلت: هل يحب هذا الجيل من أجل البحث عن الراحة فقط؟ ماذا عن قصص الحب العاصفة؟!

 

عدت بذاكرتي إلى عالم نجيب محفوظ الروائي، ولم أشأ أن أصدم صديقتي بسؤال صعب، وهو: لماذا ترتفع نسب الطلاق، ولماذا حضرت حوادث قتل الزوجات لأزواجهن؟!

 

عدت إلى رواية "القاهرة 80" التي تعبر عن قصة حب غاية في الشاعرية، رغم الفقر والألم وكثير من القهر.

 

وتنقسم الرواية من حيث التركيب الخارجي إلى واحد وعشرين جزءًا، كل جزء معنون باسم شخصية من شخصيات الرواية الأساسية رغم احتوائها على العديد من الشخصيات الأخرى، وإن كان المحور الأساسي الذي تدور حوله كل الأشياء هو محتشمي زايد، الذي بلغ الثمانين من عمره، ولم يبق له من الدنيا إلا قلب متشبث بها، رغم شعوره بدنو الأجل.

 

هذا رجل على المعاش لم يبق من معارفه أو أصدقائه القدامى إلا رجل واحد لا يراه لبعد المسافة وصعوبة المواصلات، وحتى هذا الصديق يموت قبل انتهاء الرواية بقليل.

 

إننا إذن إزاء شخصية على هامش الحياة، تستطيع جيدًا أن تأخذ موقف المعلق.. فهو شاهد على الجزء الساخن من تاريخ مصر المعاصر منذ ثورة 1919، وحتى اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات.

 

أنت تستطيع أن تلمح في "محتشمي" لسان حال المؤلف، ووجهة نظره وموقفه الفني على واقع القاهرة في ذلك الوقت.

 

لقد عاش "محتشمي" الحياة بكل دقائقها من المجون والفسق، إلى السياسة، والشك ثم الإيمان والتوبة، والدخول إلى واحدة من مراحل الصوفية.

 

هذه الخبرة الإنسانية المتوهجة هو "محتشمي"، الذي ما زال يحن إلى النساء رغم سنوات عمره الثمانين.

 

ولذا يجعله المؤلف الشخصية المحورية التي يجيء مونولوجها بمثابة الرابط بين مونولوجات الآخرين، والمحدد لاتجاهاتها.

 

أما علوان فواز محتشمي، وحبيبته رنده سليمان، فهما ينتميان إلى أسرتين من الطبقة المتوسطة المصرية التي سقطت في هوة الانفتاح الاقتصادي.

 

فوالدا علوان، مجهدان دومًا من شدة العمل في القطاع العام والخاص ليل نهار لمواجهة أعباء الحياة المتزايدة.

 

أما (رنده) فهي واقعة في الحياة الجافة ذاتها بين أب ملحد لا يهتم إلا بنفسه وأم متدينة مهمتها الأساسية في الحياة الأكل والشجار مع زوجها، وأخت مطلقة شديدة العصبية.

 

أما الخلافات العائلية فهي جزء أساسي من النظام اليومي لهذه الأسر المنتمية لفئات الموظفين المطحونين.

 

"علوان ورنده" الجيل الثالث الذي لم يسلم من أنانية جيل الوسط وسلبيته، يدوران في فلك هذه المعاناة والخلاف التقليدي في وجهات النظر بين الأجيال.

 

تمت خطبتهما في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وجاء انتصار أكتوبر ثم نكسة الانفتاح ولم يتزوجا.

 

أحد عشر عامًا وسبعة أشهر خطبه دون زواج، وللمفارقة فإن "علوان ورنده" خريجا كلية الآداب قسمي التاريخ والفلسفة، كدلالة من المؤلف على أنه لا الفكر ولا التاريخ يصنعان مستقبلًا في تلك المرحلة العصبية، وتحت إلحاح الظرف الاقتصادي لأسرة رنده وضغطها تفسخ الخطوبة.

 

ويقوم جيل الوسط المدان تمامًا في الرواية بالاستيلاء على الحبيبين.. رنده يتزوجها مدير الشركة أنور علام، وهو انفتاحي في سن الخمسين، تدور حوله شبهات كثيرة وبعد مجموعة متشابكة من الأحداث تنفصل عنه رنده.

 

أما أخته جلوستان الأرملة الغنية، فهي تحاول الزواج من الشاب علوان، لكنه يرفض هذه المقايضة.. وتصل الرواية التي تبدو حديثًا عن المشاكل الاقتصادية لكن تركيبتها الدرامية تجعلها شيئًا آخر؛ إلى حادث اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، ثم قيام "علوان" بقتل "أنور علام"، ويدخل "علوان" السجن، ويموت صديق محتشمي الأخير.. تنتهي الرواية.

 

إن المؤلف يصيغ الحياة السياسية والاقتصادية عبر المواقف الإنسانية شديدة الخصوصية، العلاقة الحميمة بين الجنسين على سبيل المثال، تجدها في هذه الرواية نوعًا من الشجن، يستخدمه المؤلف كجزء من التفاصيل الإنسانية اليومية الكثيرة التي تمنح الشخصيات حياة من لحم ودم، رغم ما تحمله من تنميط يدل على ثلاثة أجيال بعينها.

 

ولم تتحول ثيمة العلاقة الحميمة إلى شيء مثير للتقزز، كما حدث في بعض الأحيان داخل العرض، كما سنرى سويًا.

 

وتقول "رنده سليمان" عن ذلك جملة بسيطة موحية آثرت أن أوردها:

 

"حافظت على تصوري الوقور لمعنى الحرية، لم أتزعزع للتهم الساخرة المألوفة بالانغلاق والرجعية، ولم أبدأ من الحزن".

 

وأفكار الرواية محملة في مواضع مختلفة على لسان "محتشمي" وصراع باقي الشخصيات، إلا أن "محتشمي" يقدم من موقف المعلق وجهة النظر الأساسية.. فهو سياسيًا مع ثورة 1919، التي يرى أنها لم تفشل لكنها تأجلت.

 

ناهيك عن تفاصيل عديدة، مثل الدكتور الذي تحول إلى سباك وانتمى للتيار الديني، وانعزل عن الحياة، وكثير من متغيرات زمن الانفتاح.

 

فهل تبحث الأجيال الجديدة الآن عن الحب كإحدى التفاصيل العادية من تفاصيل الحياة اليومية، مثل ارتداء الملابس، وتناول الطعام، واستخدام المواصلات العامة؟!

 

قصص الحب في روايات نجيب محفوظ هي باب فهم التغير الاجتماعي، وهي التعبير عن القراءة العميقة في فهم الأجيال لمعنى الوطن.

تم نسخ الرابط