الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

ويترك ياسر هواري "الأسبوع العربي"، ويحصل مع جورج سكاف، ومنى غصن على امتياز جريدة "الديار" التي كان يملكها حنا غصن، فحولها إلى مجلة أسبوعية بتركيبة فريدة اعتمدت على "الشركاء المساهمين"، وهؤلاء منهم الطبيب، والمحامي، والتاجر، ورجل المال والأعمال، والسياسي، والمفكر، والأديب.

كانت "الديار" مجبرة محنتي، فقد تقطّعت بي السبل، فبعد حريق الأسواق التجارية أصبحت المنطقة من "ساحة الشهداء" إلى "الجميزة" ثم "الأشرفية" خط تماس طويل يسكنه القناصة والموت، فما عدت أستطيع الوصول إلى مكاتب "الأسبوع العربي".  

 

وعندما بدأ توزيع مجلة "بيروت المساء" يهبط ويهجرها قرائها لتراجع التحرير، وقرر أمين الأعور صاحبها ورئيس تحريرها تحديد الخسارة والمحافظة على البقية الباقية من أموال الدعم الليبي، حجب المجلة وعاد بحقيبة الأموال إلى "قرنايل" مسقط رأسه، ومن الصحافة والحبر والقلم إلى تجارة العقارات.

 

انتقل مع ياسر هواري إلى "الديار" عدد من محرري "الأسبوع العربي"، وبينهم كان فاروق البقيلي، الذي كان يرأس القسم الثقافي فيها، والبقيلي قاص ورسام، مزاجي و مُقِل، صمم ماكيت "الديار" وكانت عينه على الإدارة الفنية للمجلة، فوجدني احتل المنصب وأعدل وأبدل من تصاميمه، فلم يستسغ الأمر بادىء ذي بدء، وبعد جفوة و نفور لانَ وتصادقنا.

 

ومن العدد الأول أضفى محمود كحيل، فنان الكاريكاتور المتميز، ليس بإبداعه فقط إنما بثقافته الواسعة وحضوره الطاغي وأناقته ودماثة خلقه، رونقاً في صفحات المجلة، وقد امتازت خطوط رسوماته بالسلاسة المبدعة، وبالتركيز على التفاصيل والجرأة التي كان لها تأثيرها لبنانياً، وعربياً، ودولياً. 

 

وعندما سُئل الرئيس جورج بوش الأب كيف يعرف ما يدور فى العالم العربي أجاب أمام دهشة من سَمِعه من صحافيين في البيت الأبيض: "أطلب أن أرى يومياً رسومات فنان لبناني اسمه مستر محمود كحيل، ولم يتردد الرئيس بيل كلينتون من وصفه بأنه "فنان عبقري".

 

إلى جانب قاسم أفيوني، الذي تولى إدارة التحرير، كان سمير رفعت مايسترو سكرتارية التحرير والحركة المنظمة للعمل، وسمير رفعت، سوري الأصل، منضوٍ في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وزوج المغنية سهام شماس، التي انطلقت في الفن مع الرحابنة، وتتلمذت على يد عاصي ومنصور. 

 

وقد عمل سمير رفعت سكرتيراً للتحرير في جريدة" البناء" التي أصدرها القوميون الاجتماعيون بعد خروجهم من السجون سنة 1972، وكانت مكاتبها في مبنى خلف سينما "غومون بالاس" في ساحة الدباس.

 

وكان سمير رفعت سبباً جعلني أتعرف على الشيخ أمين الجميل، ففي أحد الأسابيع كان ياسر هواري على سفر، وقاسم أفيوني في مهمة صحافية في الكويت، فترأس سمير رفعت اجتماع التحرير وافتتحه بسؤال رؤساء الأقسام عما في جعبتهم لطرحه للنقاش, ووصل الدور للقسم الرياضي فقال إن لا نشاطات رياضية محلية مهمة الأسبوع المقبل سوى مباراة بين كلّيّتَين جامعيـّتين في جامعة بيروت الأميركية، وأنهى عرضه بأن قال إنّ الشيخ بيار الجميّل، رئيس حزب الكتائب اللبنانية، سيرعى مباراة كرة القدم تلك، فقاطعه سمير: "هل سيرتدي الشيخ بيار الشورت"؟

 

ظننت أن سمير يمازح الزميل، إلا أن نبرته كانت جادة وكلف الزميل بتغطية المباراة، وطلب من مسعود قرداحي، مصور المجلة أن يصورها ويركز على "شورت" الشيخ بيار، والذي بالتأكيد سيظهر بشكل كاريكاتوري بسبب نحالة جسمه.

 

كشفت عن توجسي، وعبرت عن رأيي بحساسية الموضوع، فلم يبال سمير رفعت، غيّر الحديث وانتقلنا للبحث في الغلاف.

 

وبدأت تنفيذ تصميم العدد، ووجدت سمير رفعت يطلب مني ويلح أن لا أعطي الخبر أكثر من عامود واحد، وأن أفرد صورة الشيخ بيار الجميّل بالشورت على صفحتَين متقابلتين، وتوجست أيضاً من العنوان الذي وضعه، وطلب مدّه وإبرازه باللون والظلال: "رجوع الشيخ إلى صباه" !

 

و بينما كنّا كالعادة نتصفّح في مكتب ياسر هواري نسخة العدد الجديد من المجلة، سمعنا صوتاً مجلجلاً آتياً من غرفة السكرتارية يرغي ويزبد ويصرخ: "أين الأستاذ ياسر"؟

 

فإذ بالشيخ أمين الجميل يقتحم المكتب، و يبدأ بالصراخ: كيف تهينون الشيخ بيار بهذا العنوان؟ 

وقف ياسر هواري محاولاً تهدئته، وبقيت أنا جالساً أتفرّج على ثورة الشيخ أمين، الذي التفت إلي ّمستغرباً عدم وقوفي، فما كان من سمير رفعت إلا أن سأله بهدوء خبيث: "بماذا أخطأنا مع الشيخ بيار، أنت تقول عنه شيخ، وحزبكم بدأ فريقاً رياضياً، إذن أين الخطأ في العنوان؟ 

 

امتقع لون وجه الشيخ أمين، وسأل سمير رفعت:  "وكتاب الزعران الذي اسمه "رجوع الشيخ إلى صباه"؟!  فأجابه ببرود شديد استفزه أكثر:  "هذا الكتاب يعرفه الزعران فقط، أما نحن في هذه المجلة فلم نَرَ نسخة من هذا الكتاب".

 

و على الرغم من محاولات ياسر هواري تليين غضب الشيخ، إلا أنه خرج أكثر غضباً ممّا دخل. التفت ياسر هواري إلى سمير رفعت وقال له: "ما بالك أظهرت حقدك القومي الاجتماعي على الأب أولاً ثمّ الإبن" ؟

وكان ياسر هواري يقصد العداء التقليدي المميت بين حزب الكتائب اللبنانية، والحزب السوري القومي الاجتماعي.

 

ذات صباح، هوّم الموت بجناحيه الأسودين على مبنى "الديار"، وبينما كنت في طريقي إلى المجلة هزّني انفجار مدوٍ آتٍ من المبني الذي تقع فيه المجلة، أكثر من 20 كيلوغراماً من المُتفجرات كانت مُخبأة في مزهرية حطمت المكاتب، نجا ياسر هواري و 12 زميلاً كانوا متواجدين في مكاتبهم، بينهم المصور مسعود قرداحي الذي كان متواجدًا بالغرفة المظلمة (غرفة تظهير الأفلام)، ومثلي نجا أنطوان شويري، مسؤول الإعلانات بسبب تأخره في الوصول إلى مكاتب المجلة.

 

و قام ياسر هواري من عثرته، نفض الغبار، رمّم المكاتب، ولم تغب"الديار" وارتسمت التساؤلات: من؟ ولماذا؟ فالرجل يُبصر العاقبة و يأمن الندامة، فلماذا يريدون كسر قلمه؟

 

ما جرى كان بفعل تقاطع داخلي – خارجي، تفاوتت قراءاته، ليس هنا مجال الحديث عنه وتناول أسبابه ومسبباته، فالأمر متروك للزمان.

حاول ياسر هواري في "الديار" إعادة تجربته في "الأسبوع العربي" مع قليل من التنقيح، ورفض قبول أن الزمن فات تلك الصيغة، والزمن زمن المعلومات التي بات القارىء يريدها ليفهم ما يدور في المنطقة العربية التي كانت تغلي و تفور بعد حرب أكتوبر.

 

من جهة أخرى فإنَّ عدم ائتلاف طبع ياسر هواري مع ما ساد الصحافة في ذلك الوقت، وما اصطلح في الأذهان من مفهوم الصحافة المنافحة، جعله يفكر مع تصاعد التوتر إلى إغلاق "الديار" وترك البلد.

 

في سنة 1976 غادر لبنان إلى باريس، فكانت "الديار" بالنسبة لي آخر المطاف.

وحدث أن التقى هواري في باريس ذات ليلة سليم اللوزي، فعرض عليه تولي رئاسة تحرير "الحوادث"، فقد كان اللوزي قد قرر أن يأخذ إجازة طويلة تسمح له بـ "لمّ" شمل عائلته والاستجمام. 

 

وقَبِل ياسر هواري عرض اللوزي، وصار يقضي خمسة أيام في لندن، ويعود في عطلة الأسبوع إلى باريس, حيث عائلته.

 

اعتقد سليم اللوزي أن مجيء ياسر هواري يمكنه أن يحدث نقلة نوعية في المجلة، لكن سرعان ما تبين له بعد فترة وجيزة أن "هواري" ليس ضالته المنشودة، فقرر دفعه إلى الخروج بوسائل غير مباشرة (ستكون لي رجعة إلى ذلك متى حان وقتها في "الغربة الثانية" إلى لندن).

 

وخلال تواجده في لندن كان رياض شعيبي، الفلسطيني الأردني، مدير تليفزيون دبي، يبحث عن محررين لهم خبرة لتأسيس جريدة "البيان" في دبي، فعقد اتفاقاً مع سليمان الفرزلي، للتحرير, وياسر هواري، كمستشار فني. وظن كل من "الفرزلي" و"هواري" أن رياض شعيبي تعاقد معهما كنواة تأسيسية للجريدة، بحيث يتولى الأول التحرير والثاني الإشراف على "الماكيت"، ثم تبين لهما أنه خدعهما، فهو استقدم جهاز تحرير كامل من الفلسطينيين والأردنيين و المصريين، أما هما فكانا أشبه بديكور لبناني كما قال الفرزلي، حتى أنه وضع تصميم ماكيت الجريدة ونوع ولون ورقها زهرياً، مثل ورق "فايننشيال تايمز" اللندنية، وجعل اسم الجريدة مائلاً على الطرف، بدلاً من الوسط، أما رئيس التحرير فكان الصحافي الفلسطيني – الأردني إبراهيم سكَّجها.

 

حاول ياسر هواري جاهداً تغيير ما كان قد وضع، إلا أنه اصطدم بعوائق كثيرة، وصدر العدد الأول وفشل فشلاً ذريعاً، ولم يستطع لا سليمان الفرزلي ولا ياسر هواري الاستمرار، فعاد الأول إلى لندن والثاني إلى باريس. وخلال احتدام الحرب مع طهران، قررت بغداد إصدار مجلتين سياسيتين، واحدة في باريس "كل العرب" وتولاها ياسر هواري، وأخرى في لندن "التضامن" ويرأسها فؤاد مطر.

 

لم يستمر ياسر هواري في "كل العرب" والأسباب متشعبة، ليس هنا مجالها، لينصرف بعدها إلى العمل فى التقريب بين المُفكرين من فرنسا والشرق الأوسط، فكان يُدير صباح كل يوم سبت بمقهى بالقُرب من "تروكاديرو" Trocadero  نقاشات غير رسمية بين صحافيين فرنسيين و عرباً، وسُرعان ما تحولت هذه الجلسات العَرَضية إلى ندوة أخذت بُعداً رسمياً عندما أوجد ياسر هواري "نادي الصحافة العربي"، ويضم أكثر من 120 صحافياً، وبحضور وزير الخارجية الفرنسي وقتها أوبير فيدرين  Hubert Védrine. 

 

وعاد حنينه إلى النشر يلح عليه، فأسس شركة Mediaquest للنشر والعلاقات العامة، وأصدر مجلة Arabies أو "عربيات" باللغة الفرنسية، والتي انتشرت في الدول الفرنكوفونية كما في الدول الأوروبية، وقد حملت أخبار العرب وقضاياهم، وإلى جانب "ميديا كويست" أسس شركة "كومونيكيت" للتسويق والترويج التي تسلمها ياسر الإبن، وصدر عنها مجلة Trends .

 

وفي 26 آذار/ مارس2014 سقط القلم من يد ياسر هواري.. كان في الخامسة والثمانين من عمره.

 

ما تركه من صحف أصدرها هو السحر الحلال، بما أضفى عليه من جمالية في انتقاء الصور، وجمالية في وضعها وتظهيرها، وجمالية في التصميم والإخراج.

 

ظاهرة كان في الصحافة اللبنانية، وظاهرة سيبقى على مر الزمان.

 

 

تم نسخ الرابط