عاجل
الأربعاء 1 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

الخطاب الوردي

رسم: كريم عبد الملاك
رسم: كريم عبد الملاك

اللون الوردي- غالبًا- يمثل العناية، الرحمة، الحب والتفاهم غير المشروط، ويرتبط بإعطاء وتلقي الرعاية، وفور رؤيته يُوحي بالسعادة، البهجة، النعومة والأنوثة، لذلك اخترته لونًا لفستان خطبتي.



 

لازلتُ أقف محملقة لنفسي في المرآة، بعد الانتهاء من تزييني الهادئ الذي لم يخفِ ملامحي، فقط أظهرها وأنار وجهي، اكتفيت بتحديد عينيّ مظهرة أهدابي الطويلة دون تغيير للونيهما العسلي، بوضع أي عدسات، فستاني الوردي البسيط متناسق على جسدي حتى خصري النحيل، ثم يزداد اتساعًا نحو الأسفل، مع حجاب فضي هادئ اللمعة، أضبط من وضعية العقد الفضي الرقيق، وأنا سعيدة للغاية وراضية عن هيئتي.

 

التفتُّ للواقفات خلفي من صديقاتي وقريباتي من قُمنَ بتزييني، مرسومة على وجوههن ابتسامة السعادة الحقيقية، إنهن فرحات لأجلي بحق. لكني التفتُّ بعسليتيّ نحو جدتي الجالسة دامعة عيناها من فرط سعادتها بي، أمسكتُ طرف فستاني الوردي وتحركتُ نحوها أعانقها أشتمُ فيها رائحة أمي الراحلة.

 

ابتلعتُ ريقي متماسكةً، لئلا أبكي فتفسد كل زينتي، لكنها نظرت لي نظرةً ذات مغزى، فاعتدلتُ واقفة متحدثة لهن بلطفٍ ورجاء: "هل تسمحن بتركي وحدي للحظاتٍ قبل الخروج للمدعوين؟".

 

نظرن لبعضهن البعض بدهشةٍ، لكنهن غادرن ثم جلستُ جوار جدتي التي ابتسمت لي فتقلصت تجاعيد وجهها، ثم قالت بتأثرٍ ورفق: "كم تشبهين أمك، خاصةً في ثوبك الوردي!". تنهدتُ بهدوء وأومأتُ أجيبها: رحمة الله عليها، بالرغم من أنكِ كنتِ دائمًا أمي، لكني حتمًا أفتقدها، خاصةً اليوم، مؤكد كانت ستسعد كثيرًا وتغدقني بحبها، عطفها ونصائحها الغالية.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

ربتت جدتي على فخذي، وهي تومئ برأسها توافقني، لكنها مدت يدها في جيبها ثم أخرجت خطابًا ورديًّا لم أنكر شعوري به وكأنه شيءٌ ثمين!

 

تحدثت إلى جدتي مقدمة الخطاب الوردي: "هذا الخطاب كتبته أمك في أيامها الأخيرة قبل رحيلها، وطلبت مني أسلمه لكِ يوم خطبتك، كما كتبت غيره ليوم عُرسك".

 

أمسكت الخطاب بيدين مرتعشتين، بل إن هذه الرجفة قد سرت في كل جسدي فجأة، ابتلعت ريقي مجددًا ألتقط أنفاسي ولازلتُ أتماسك لئلا تغلبني العَبرة، فتحتُ الخطاب الوردي ثم قرأته بعينيّ: "ياسمين، وردتي وابنتي الغالية، اشتقتُ لكِ كثيرًا  -فهمستُ بل اشتقتُ لكِ أكثر أماه-  عندما تقرأين كلماتي هذه، فهذا يعني أن اليوم خطبتك، مباركٌ لكِ وردتي الصافية، كم تمنيتُ حضور خطبتك ومشاركتك في كل شيء، لكنها مشيئة الله  -فتمتمتُ- ونعم بالله".

 

كم تمنيتُ- أيضًا- لو ارتديتِ ثوبًا ورديًّا بلون حياتك التي أتمناها لكِ! لكن لا بأس لو اخترتِ لونًا آخر فستكونين جميلة في جميع حالاتك، فابتسمتُ قائلة: "اطمئني هو ثوب وردي بالفعل!".

 

لا تنسي وعدك جميلتي، عليكِ بإكمال تعليمك وحصولك على مؤهلك الدراسي قبل خطوة الزواج، وأنصحكِ بالعمل فالعمل يلهي الفرد كثيرًا، لولا العمل في حياتي لا أدري كيف سأتحمل ما لاقيته من أبيكِ - سامحه الله-  اهتمي بنفسك جيدًا عزيزتي، ونصيحة لن يقولها لك أحدٌ غيري، إياكِ أن تتزوجي إلا من يحبك وتحبينه مهما انتظرتِ ومهما كبر عمرك، فالحب مهم، ويضفي مذاقًا مختلفًا في الحياة، وحتى إن وجدتيه فلا تنسي عقلك واجعليه ملازمًا لقلبك وابتعدي فورًا واتركي ذلك الخطيب إذا وجدتِ منه بعض الصفات التي لن تتغير إطلاقًا؛ لأنها طبع يجري مختلطًا مع دمائه في شريانه ولا مفر من الخلاص منه، بل إنها قد تكون رسائل خفية لرؤية الأمر بوضوح، فلا تجعلي مرآة الحُب تعميكِ.

 

 

 

من يتركك حزينة بالأيام؛ اتركيه لأنه بعد الزواج سيصير أكثر جفاءً وبُعدًا، وانتبهي إن حاول التقرب الجسدي منكِ تحت أي مسمى وبأي صورة، ومهما هددكِ أن يتركك أو افتعل المشكلات، اتركيه؛ لأنه بعد الزواج سيكون أنانيًّا لا يتذكرك إلا وقت رغبته فقط. 

 

أعلم جيدًا أن فترة الخطبة تخفي الكثير، لكن هناك بعض الصغائر التي تكون رسائل حقيقية لنعيد التفكير.

 

تذكري ابنتي أن الخطبة ليست إلا وعدًا بالزواج دون أي حقوق فلا تنساقي خلف مشاعرك، انتهزيها وحاولي الاستفادة منها والتمتع بها أيضًا، لكن بما يرضي الله، واعلمي أنكِ حرة حتى آخر لحظة قبل عرسك فأحسني استخدام حريتك، ولا تلغي عقلك، استدعيه وقيّمي الأمور كلما استدعى الأمر لذلك، واضبطي درجة التضحية فلا تصل حد التنازل وإهدار الحقوق سواء لكِ أو له.

 

ولا تنسي أن تكوني معتدلة، عزيزة النفس، وإياكِ أن تكوني متطلبة فترهقيه بكثرة طلباتك غير المبررة، احفظي ماله وأشعريه بذلك، أطيعي أوامره مادامت في حدود المسموح، ولا توغري صدره بكثرة عصيانك أو عنادك، بل تناقشي معه بلطف كي تكوني مقتنعة أو تقنعيه برأيك.

 

ياسمينتي، يا ذات القلب الأبيض، احتفظي بنقائكِ وطيبتك، لكن لا تسمحي لأي شخص باستباحة نفسك.

 

احفظي كلماتي يا ابنتي وطبقيها جيدًا حتى تصلي ليوم عُرسك وأنتِ بكامل سعادتك، حماسك واقتناعك لخوض حياتك الحقيقية التي ستكونين فيها زوجة عظيمة وأُمًّا فاضلة، يومها انتظري خطابي الأبيض فلنا وقتها حديث آخر لتحققي المعادلة الصعبة، حياتك الوردية التي أتمناها لكِ، وإلى ذلك اليوم أتمنى لكِ السعادة والتوفيق في حياتك، أحبكِ كثيرًا ولكِ قبلاتي".

 

أنهيتُ خطاب أمي محاولة الاحتفاظ بثباتي دون انهيار دموعي، ثم عانقت الخطاب بقوة مغمضة عينيّ محاولة استحضار صورة أمي وكأني أعانقها وأشعر بحنانها، لكني لم أستحضر سوى ومضاتٍ لبكائها، تألمها ومعاناتها طوال حياتها، سواء مع أبي أو مع مرضها.

 

زفرت أنفاسي بهدوء وتمتمتُ في نفسي: سأعِي كل كلمة يا أُمي وأطبقها، أعلم أسبابك جيدًا ولن أكرر أخطاءك وسأنفّذ كلمات خطابك الورديّ آملة أن أحيا حياة وردية أو الأقرب لها.

 

لكن أخرجني من حالتي صوت طرقات الباب تخالطه أصوات قريباتي تتعجلن خروجي، استعدتُ نفسي وطويت الخطاب بسرعة ثم حفظته في أحد الأدراج.

 

عُدت للمرآة مجددًا ملقية نظرة على هيئتي قبل ذهابي لأخطو أول خطوة في حياتي الوردية.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز