عاجل
الأربعاء 1 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

الخلاص

رسم: سوزى شكرى
رسم: سوزى شكرى

على شجرة جارنا الطيب، تفاحة حمراء ناضجة وحيدة، أتأملها كل يوم من شرفة شقتي الأرضية، لأطمئن أنها لم تسقط بعد، من الصباح حتى يعتم المساء.



وذات صباح مشمس شردت مجموعة من أبقار البدو، ومكثت في ظل شجرة التفاح الوحيدة، بعدما شبعت من حشائش الحديقة الخضراء وعشبها الرطب.

جاء شابان يرتدي كل منهما جلبابًا رماديًا وعمامة، ونادوا الأبقار فقامت وسارت خلفهما في طاعة وتفهم كآدميين.

كان الروث أكوامًا تحت الشجرة، شعرت أن التفاحة ستهوي وسط الروث في أي لحظة، كنت أتخيل غصنها يتدلى بها للأسفل بإصرار وبطء. لم أستطع منع نفسي، سنواتي العشرون عجزت عن منحي الحكمة اللازمة والصبر.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

تسلقتها بعناء واحتراف وقطفت التفاحة الناضجة. كنت أتلفت يمينًا ويسارًا لأتأكد أن أحدًا لم يرني.

دعكتها دعكًا في قميصي الأبيض، فتركت فيه سوادًا باهتًا، ولم تترك من لونها الأحمر في قميصي أثرًا.

تأملتها وطاوعتني نفسي فالتهمتها ومضيت.

مرت أعوام عديدة، خلع جارنا الطيب شجرة التفاح بعدما شاخت ولم تعد تثمر، وأنشأ في الحديقة مسبحًا رخاميًا ومهد عشبها الأخضر بالجرانيت والأحجار الملونة والأصداف.

الشجرة العتيقة بلغت محطتها الأخيرة كعمود خيمة للبدو المعسكرين على أطراف القرية، وفي ترحالهم الموسمي أخذوا قماش الخيمة وتركوها وحيدة جرداء.

رغم مرور السنوات كان جاري الطيب يسألني دائمًا عن تفاحته الضائعة، وأنا رغم استهتاري كشاب مراهق لا يبالي، لم أغفر لنفسي تلك الخطيئة.

كان ندمي يكبر كل يوم كشجرة لبلاب تتعاظم حتى منعت ضوء الشمس من دخول غرفتي الواطئة.

وفي صباح بارد ماطر، شردت أبقار البدو.

لم أصدق ما أراه. الأبقار تحاصر سريري من كل الجهات، ولم يحتمل باب شقتنا الأرضية سوى نطحات محدودة أسقطته على الأرض، وخلع قلبي صوت ارتطامه المخيف.

حاولت أن أنتفض من سريري لأهرب لكنني تجمدت كأنني شجرة جميز قديمة غاصت جذورها في عمق الأرض. كان الأمر أشبه ما يكون بتنسيق واتفاق بين البهائم الخرساء.

وبينما كنت أرتعد رعبًا؛ استدارت الأبقار ووجهت ذيولها تجاه رأسي وانهمرت فوقي حمم الفضلات حتى غطتني تمامًا.

بصعوبة ومشقة وأنا أشعر بالأسى والقرف؛ زفرت ونفخت لأتمكن من التنفس.

غادرت الأبقار غرفتي في نظام وهدوء، عندما صدحت أصوات صفافير بالخارج استجابت لها وتركتني في وحلي القذر الكريه.

رغم بقائي في حوض الاستحمام لساعات طويلة، واستنزافي لعبوات الشامبو الجميلة الرائحة.

ظلت رائحة الروث في أنفي ومسام جلدي لسنوات متعاقبة.

صرت أذهب كل صباح إلى شجرة التفاح الجرداء المنصوبة كعمود خيمة، وأنا أتشمم رائحتي التي جعلت أهل القرية والكلاب والقطط والعصافير ينفرون مني حيثما تواجدت. 

عرافة البدو رأفت لحالي وهيئتي وعزلتي، التي تتضخم يومًا بعد يوم.

ولما كشفت لها سر التفاحة التي أكلتها منذ سنين.

قالت لي: عليك أن تشتري سلامك الداخلي من جارك الطيب.

كنت أنصت إليها باهتمام، رافضًا تمامًا للفكرة التي أعجز عن تنفيذها، وأنا أنتبه لأول مرة لتلك البئر العميقة، التي حفرها البدو لتخزين مياه المطر وغرق فيها طفل صغير، وحدث هرج كبير ولم يستطع أحد أن ينقذه.

مرت أسابيع وأنا أحاول أن أجد خلاصًا لعذابي، لكنني كلما نظرت للنجوم الطافية على صفحة ماء البئر؛ تمسكت بالحياة الكريهة التي أحياها تحت وطأة عذابي المقيم.

كان خلاء المكان بعد ارتحال البدو يمنحني وقتًا طويلًا كل ليلة لتجربة الخلاص الأخير.

وفي ليلة مقمرة كبرت الفكرة بداخلي، وقررت أن ألقي نفسي في البئر لأنهي مأساتي المعذبة.

اعتليت حافة البئر العالية، ونظرت للقمر الكامل في صفحة الماء؛ كنت أرتعش بكل ذرة في كياني؛ وبدت قدماي كحجرين ملتصقين بأحجار البئر.

انهمرت دموعي وانتحبت كطفل يتيم مطرود.

وعندما شعرت بهواني الكامل وضياعي، استجمعت شتاتي وقررت إسقاط نفسي.

أخرجني من صمت الليل المقمر صوت كروان، مر أمام عيني بطيئًا وعبر فوق شجرة التفاح العتيقة.

أذهلني ما رأيت، قفزت إلى الأرض ومشيت مسرعًا باتجاه الشجرة، كانت تفاحة حمراء لامعة كدرة من الياقوت تضيء في نور القمر على غصن أخضر على الشجرة، التي ماتت لسنين طويلة.

تسلقت الشجرة كقرد نشيط، وأنا مأخوذ بالفرحة العارمة، وجرى ريقي وتفتحت شهيتي لالتهام التفاحة التي أنقذتني في اللحظة الفارقة بين الموت والحياة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز