أغلال الحرية
في الشفق تلوح أمام أعيننا الأحلام، تتهادى بخفة على أول الطريق الخاوي من البشر، تسير بخفة مزهوة بأنها تسير دون أن يزاحمها شيء، حيث لا بشر ولا دواب، فقط رهط من الطيور التي تسبق أشعة الشمس معلنةً عن بداية جديدة.
تتلقفها قلوبنا بلهفة وأمل كبير فتُرمم أرواحنا المهترئة وتشرق من جديد صدورنا المتصدعة.. هكذا تبدو نسمات الصباح المحملة بالتباشير وبالآمال الواسعة.. ولكن!
مضى على مكوثي هنا ما يُقارب العشرين عامًا، ولكنها مرت كآلاف من السنوات، لقد ساقوني إلى هنا وكان عمري لم يتجاوز السبعة وعشرين عامًا، لا تبرحني صورة ذاك الشاب الذي كان يحمل بين جنباته قلبًا لا يكف عن النبض وعقل لا يتوقف عن نسج الآمال والتطلعات وجسدًا مفعمًا بالحيوية والشباب.
لقد كان هذا قبل أن يُقدر لي أن ينقضي شبابي هنا.

هنا خلف تلك الجدران القميئة والبشر الآليين، الذين كانوا جامدين إلى الحد الذي خُيل لي أنهم مجرد آلات تعمل، لا يهز مشاعرهم شيء ولا تدمع أعينهم على أحد، لا تجزع قلوبهم لشيء. العشرات هنا ينفقون كالأنعام دون أن يلتفت لهم أحد، والمئات يئنون طوال الليل ويستغيثون دون أن ينظر إليهم أحد. لقد اعتاد كل من هنا الجمود والقسوة.
هنا كانت لي أرواح عديدة زُهقت جميعًا الواحدة تلو الأخرى، هنا في عتمة الأيام والليالي هنا بداخل مستشفى الأمراض العقلية والنفسية.
أمس بُلغت قرار خروجي من المستشفى ذاك الذي ارتقبته أعوامًا طويلة، استقبلت الخبر بشعور غريب لم أفهمه لا هو بالفرح ولا بالحزن، شعور يشبه حياتي التي اعتدتها هنا حيث الجمود في كل شيء وفي ردة الفعل، يبدو أنني كذلك صرت لا أعبأ، فقد ألمَ بروحي الخوار والوهن.. حقيقةً ما جعل قلبي يعتصر ألمًا أن أهم ما كانت نفسي تصبو إليه، وكنت أحيا فقط لأجله ألا وهو خبر حريتي وخروجي من هنا أستقبله، هكذا دون أن يخفق قلبي لسماعه وتزهر روحي وأتراقص فرحًا بمفعول وقعه على نفسي.
لا أدري كيف انقضت ليلتي بعد هذا الخبر، كم كانت ليلة طويلة تراءت أمام عيني فيها حياتي قبل أن يُزج بي هنا.
أذكر رائحة الخبز التي كانت تتسلل من خلال تنور بيتنا بالقرية فتزكم أنفي، لقد كانت لي أم طيبة وشقيقة تصغرني ببضع سنوات، ووالدي كان قد توفي ونحن أطفال. كانت لنا حياة هادئة وبسيطة لا تحمل أحداثًا ولا تفاصيل. وكان لنا أرض وأيضًا أعمام طامعون بالأرض ولأجل الطمع والحقد يقتل المرء أخاه. نعم إنها حقيقة الوجود منذ أن خلق الله آدم عليه السلام البغي والعدوان.
لقد حاكوا جيدًا المكيدة ليستولوا على أرضي فأدخلوني مستشفى الأمراض النفسية والعقلية.. هكذا تخلصوا مني وأجبروا شقيقتي على الزواج من أحد أبنائهم ليكونوا بذلك وضعوا أيديهم على أرضنا.. قالوا عني غريب الأطوار، قالوا مجذوبًا، شديد الخطورة، يُشكل تهديدًا على من حوله.. قالوا وقالوا وعضدوا أقوالهم وإفكهم بالرشاوى.
شريط من الأحداث مر أمام عينيّ وتذكرت ما به من قهر وألم وخيبات، والآن تملأ نفسي الريبة والمخاوف مما هو قادم، وكيف سأحيا بالخارج.. وما يحزنني أنه لا أعرف لمن سأذهب فوالدتي قد توفاها الله بعد أن ملأت حياتها الحسرة وتبدلت الأحوال بها من الحياة الهادئة والرخاء إلى الغم والحزن، لا أحد ينتظرني.. لا أحد!
أن تنظر إلى ذاتك التي أهملت النظر إليها بالمرآة التي تعج بأكوام الغبار فصارت تطمس المعالم أكثر مما تُبديها، كما لو أنها أرادت أن تُخبرك بمضي السنوات، والتي طُمست معها معالمك وروحك وعمرك، وكل شيء.. أجدني أجاهد لمسحها ثم أحدق عينيّ لأرى على أي شاكلة أضحيت فلا أرى سوى شبح لرجل لا أعرفه، نعم أرى آخر لا يشبهني، لا يشبه ذاك الشاب الذي كانت شفاه تتفوه بأن (حياة واحدة لا تكفي لتحقيق أحلامي).
ترنو نفسي إلى هذا اللقاء، ينبعث بداخلي فيض من المشاعر الغزيرة من الحب والحنان، وأود أن أجد عوض الله في أبناء شقيقتي فأسعد بهم وأجد السكينة بينهم والعائلة والمكان الذي وددت بأن أنتمي إليه، ليس لي بالحياة غيرهم، ورغم أنه من الصعوبة أن أذهب إلى شقيقتي في منزلها؛ لأنها متزوجة من ابن عمي الذي اشترك مع البقية من أعمامي في ظلمي، إلا أنني على استعداد لتحمل أي شيء بل وأن أغفر لهم في سبيل أن أحيا بالقرب من شقيقتي وأبنائها، فهم كل ما لي بالحياة.
أما عن اللقاء، الذي كنت ارتقبه، فكان صفعة أفاقتني على الحقيقة.
الحقيقة التي لم أفطن إليها، وهي أنني موصوم وظهوري بحياة "حنان" شقيقة روحي سوف يوصمها ويفسد حياتها الجديدة، فقد علمت بعد أن ذهبت إلى القرية أنها منذ أمد انتقلت للعيش بحي راقٍ بالقاهرة، وودعت إلى الأبد حياة الأرياف، بعد أن باعوا الأرض وتقاسموا بينهم غنيمتهم، ورقصوا فوق أشلائي!
"حنان"، التي ليس لها من اسمها نصيب فكم هي قاسية وفظة، كيف قويت على صدي وخذلاني بهذه الطريقة، كيف لم يرق قلبها بدافع الأخوة والدم، يا لها من قاسية القلب.. ولكن عليّ أن أتفهم موقفها وأكون أكثر عقلانية فما فعلته هو بدافع خوفها على حياتها وعلى أبنائها ومصلحتهم وزواج ومستقبل ابنتها التي حتمًا لو علم خطيبها الطبيب وعائلته الكبيرة بأن لها خالًا قد كان بمستشفى أمراض عقلية ونفسية حتمًا سيتركها، كذلك عائلة زوجة ابنها الكبير لو علموا بأمري فهذا سوف يُسبب لهم العار، وبذلك قد أفسد عليهم حياتهم.
اليوم يُريعني أن الحرية التي كنت أنشدها، وكنت أدفع عمري ثمنًا لنيلها، هي أغلال من حديد تقبض روحي وتُكبل جسدي المنهك الهزيل، بل صارت سيفًا على رقبتي يجعلني أرفض الحياة بالخارج؛ حيث إن الجميع يرفضني فلقد خسرت دفء الحياة العائلية بعد أن علمت الحقيقة وتصرفت بالمنطق وغادرت حياتهم بلا عودة، وتعثرت بالحصول على مهنة شريفة توفر لي حياة كريمة ومسكنًا متواضعًا؛ حيث لا أحد يتقبلني.. لا أحد يريدني.
على أعتاب المستشفى وقفت أتحسس نيل الغفران والرحمة وأن يتقبلونني بينهم ثانية، بعد أن وليت عنهم مدبرًا لأجل الحياة بالخارج، ما كنت لأعلم أن الأغلال والظلمة كانت تنتظرني بالخارج، وأن الحرية والرحابة كانت هنا.. وها أنا أترقب أن يخرج أحدٌ من الذين كانوا أحن عليّ من أقاربي ليراني، عساه يشفق على حالي ويصطحبني معه إلى الداخل حيث الأمان والملاذ.



