آلام مضاعفة
يجلس وحيدًا بين أربعة جدران بيدهِ هاتفه المحمول الذي يُومضُ بأخبار العالم المنكوب، فَيشعل النارَ في قلبهِ المغترب، لا شيءَ سوى أنه يقرأ أعداد الوفيات والإصابات التي تزدادُ بشكلٍ مُخيف، عقلهُ يَعيثُ بالروحِ فسادًا، فيأخذه إلى وطنٍ ربما لن يستطيع العودة إليه حتى لو أرادَ ذلك، إلى أهلٍ يتبادل معهم تلك الجمل عند كل مكالمة هاتفية: لا تخرجوا من البيت، لا تقتربوا من المصابين بالمرض، اِنْتَبِهوا.....، وهم بدورهم يكررون له نفس الجُمَل، لعل في ذلك مقدارُ ذرةٍ من طمأنينة.
فجأة أسكت ضجيجًا داخله صوت جرس الباب، تبعثر كيانه كأن قلبه قد تنبأ بزلزالٍ قادم، يتقدم نحو الباب كَمن يتقدم نحو مقصلةِ الإعدام ويقول بصوتٍ كأنه يأتي من أعماق الوادي: مَن هناك؟، طلبوا منه بلطف فتح الباب للتكلم معه بأمرٍ مهم، فتح الباب ثم تراجع للخلف متوترًا، سأله أحدهم: هل أنتَ عُقَاب؟، بعد صمتٍ مُبهَم: نعم أنا، أنت تعرف هادي أليس كذلك؟، هل تقصد هادي الذي كان يسكن معي هنا؟، أجل إنه في المشفى الآن لقد تبين أنه مصاب بفيروس كورونا وأنت مِن مخالطيه عليك أن تأتي معنا للفحص، خرَّ صَعِقًا من هولِ الخبر، ربما لأن كورونا بالنسبة له كان مجرد شرير صغير يَقرأ عنه في وسائل الإعلامِ فقط، وهو كالكثيرين كان يظن هذا الشيء الذي لا يُرى قصة خيالية بعيدة جداً عن حدوده.
فتح عينيه في أحد غرف المشفى كطفلٍ خطفته العصابات، قفز عن السرير وركض نحو الباب، بدأ يهرول في الممرات ويصرخ: قبحكم الله، اتركوني، أنا لست مصابًا، لم يبدِ له أحد أي ردة فعل، لم يقترب منه أحد، كان هناك صمت ونَظرات متبادلة فحسب، طلبت منه إحدى الممرضات العودة إلى غرفته، فقال لها: هل أنا حقًا مصاب، لماذا لا أشعر بالألم؟، ودرجة حرارتي ليست مرتفعة!، لا يوجد ألم في الحلق!، لماذا أنا هنا، ألا يوجد مرضى أحق بالتواجد هنا مني؟، ماذا تريدون أنتم؟، الممرضة: ما زالت الأعداد في بلادنا منخفضة جدًا، ونحن نبذل كل جهدنا لحصر العدد بهذه الطُرق، عُقاب بسخرية: حسناً هل أنا مصاب أم غير مصاب؟، الممرضة: هل أخذوا منك عينة للفحص؟، عُقاب: لا أعلم عندما أتوا للقبض على فقدت الوعي واستيقظت هنا، ثم لماذا تسأليني أليس هذا عملكم؟، تبسمت الممرضة وقالت له: حسنًا عُدْ أنت لغرفتك ونحن سَنَهتم بالأمر.

عاد عُقاب إلى الغرفة وبدأ بنوبة من الضحك الهستيري، دخلت الممرضة لِأخذ العينة وقالت له: ما هذه المعنويات المرتفعة؟، عُقاب: لا أضحك من المعنويات المرتفعة، أسلوب جمع المخالطين كأنهم هاربين من العدالة يضحكني، لقد ظننت أنني مصاب، كدت أموت من الخوف، الممرضة: وردة فعلك قبل قليل كانت مضحكة أيضًا.. يبدو أنك لست من هنا أليس كذلك؟، عُقاب: نعم، جئت هنا للدراسة. بعد لحظات قالت له: لقد تم الأمر، نعلمك بالنتيجة عند صدورها، عُقاب بسخرية: لا أظن أني مصاب أساسًا، الممرضة: أتمنى ذلك، نحن لا نريد أن يصبح عدد المصابين في بلادنا أكثر، نحاول جاهدين حصر العدد، عقاب ضاحكًا: حقًا ما نعيشه شيء لا يُصدَّق.
في اليوم التالي عاد عُقَاب إلى مكان سكنه؛ فقد كانت نتيجته سلبية، غير مصاب بالفيروس، ولكن عليه أن يخضع للحجر المنزلي، ألقى جسده الهزيل على السرير، سَمع صوت مِعدَتِه ولكنه لم يأبه لها، ثم نهض فجأة وبدأ يبحث عن هاتفه. عندما وجد الهاتف رأى العديد من المكالمات الفائتة والعديد من الرسائل التي بدأ يقرأها وهو في قمة الاِستنفار: أين أنت يا صغيري، عُقاب لماذا لا تُجيب على الهاتف؟، أخي أرجوك عاود الاتصال بنا أبي في المستشفى.
كان قلبه بين ضلوعه، ولكنه الآن هبط منه خوفًا وحزنًا، مسك الهاتف وبدأ يصرخ: هيا يا أمي أجيبي.. ليتني لم أرحل، ماذا أفعل هنا الآن ؟...، أجابت أمه على الهاتف: عُقاب أين أنت منذ البارحة؟، عُقاب: ماذا حصل لأبي، أم عُقاب باكية: آه يا ولدي على الحال الذي وصلنا له، إنه على أجهزة التنفس حالته حرجة، عُقاب: هل بسبب مرض السكري؟، ماذا حصل فجأة؟، الأم: والدك مصاب بفيروس كورونا وأنا وإخوتك ننتظر نتائجنا، عُقاب.. عُقاب هل تسمعني؟، عُقاب أجبْ.
الكلمات تخرج بصعوبة من فمه: يجب أن...، ألقى الهاتف من يده مُجبرًا؛ لأن الصداع بدأ يهاجم رأسه، أمسك رأسه بقوة ثم بدأ يفقد توازنه،لا يرى بوضوح، توجه نحو الباب ليطلب المساعدة، يمشي بصعوبة، فتح الباب وسقط على الأرض.
ربما كان الخبر الذي سمعه عُقابًا مؤلمًا، ولكنه ليس أكثر ألمًا من الخبر الذي سمعته أم عُقاب حينما اِتصلت به تطلب منه العودة ليودع جثمان والده الذي فارق الحياة، فردَ عليها أحدهم ليقول لها إن ابنها المغترب عن حضنها وقلبها قد فارق الحياة بسبب تعرضه لجلطة دماغية مُفاجِئة، وربما الأكثر إيلامًا من ذلك كله حينما منعوها وأولادها من توديع جثمان زوجها؛ لأنه توفي وهو مصاب بالفيروس؛ فمعانقتهم له للمرة الأخيرة قد تنقل لهم العدوى، وما جعل قلبها رمادًا لا حياة بهِ، هو إغلاق الحدود ومنع التنقل بين الدول الذي أدى إلى اِحتجاز جثمان ولدها عُقَاب، لحين الحصول على قرار يسمح بنقله إلى أرض الوطن.



