قطعة قماش
هروبًا من أشياء هي في عقله قد لا يكون لها أساس في البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، يركض تجاه شروق الشمس، حيث المدينة التي تقع في منتصفها محطة قطارات السكك الحديدية، تلك المحطة التي طالما مر أمامها ممتطيًا الحمار، محملًا بالبرسيم ليبيعه في السوق القديمة التي تقع بجوار المحطة، ويعود من نفس الطريق، بعدما يبيع ووالده ما لديهم من برسيم، ويقفان أمام مطعم الطعمية، وكل نظره موجه تجاه القطارات التي تصادف وقوفها أو مرورها في ذلك الوقت، لا يحوّل نظره أبدًا عنها إلا عندما يلفت انتباهه سيارة تمر أو نسوة المدينة المتبرجات.
يلقي والده بالعديد من النصائح له، وهو يسمعها بلا اكتراث مما يُثير غضب والده، فيضربه بالعصا على ظهره، فيتألم وتتغير تعبيرات وجهه، ويسكب الدموع الغزيرة في صمت.
-"خد.. اطفح، أنت لا فالح في مدارس ولا حتى غيط".
يقول ذلك والده وهو يلكزه بالسندوتش، يلتهمه في صمت، وكل ما يدور في عقله، ويفكر به هو لماذا والدي يعاملني بقسوة؟ وما المدارس التي فشلت فيها وهو لم يدخلني في الأساس؟

يمتطي والده الحمار أمامه، ويلكز الحمار بقدمه، فيخنس برأسه أمام إحدى السيارات ولا يتحرك أبدًا، فيضربه على رأسه بالعصا، ولكن الحمار بذكاء شديد يلف برأسه بعيدًا عنه، فتفلت العصا من يده، فينزل ليلتقطها، وعندما يهم بالركوب يجده قد بال على نفسه من الخوف، فيضربه على وجهه، ويعود للركوب أمامه وهو ينفجر بسيل من الشتائم عليه وعلى شكله الدميم:
-"أنت مش ولدي، أكيد أنت ولد جن، أنت عفريت.. مسخ".
عندما يصلان إلى الكوخ وسط زراعات القمح والفول والبرسيم، ينطلق من خلف والده ويقف خلف أمه، وهو يبكي بصوت عالٍ، ويشتكي لها ما حدث من والده، فتنظر إلى والده دون أن تنطق، مجرد نظرات عتاب، فيمطرها بوابل من الشتائم، وينهال عليها بالعصا.
تأخذه في حضنه لتحميه من الضربات والركلات، وتنطلق إلى أحد أركان الكوخ، حتى لا يراها الجيران وهي تُضرب، ولكن هيهات، بمجرد انطلاق سيل الشتائم يتجمع الجيران ليس من أجل تخليصها والدفاع عنها ولكن للفرجة والشماتة.
يجلس الأب أمام الكوخ ومازال فهمه يطلق السباب والشتائم، وتتوارى هي في داخل الكوخ نائمة من شدة الضرب محتضنة صغيرها، الذي ينتفض فجأة ويجري إلى مكان ما داخل الكوخ، ثم يعود وبيده شظية من مرآة قديمة، ويقترب من أمه التي تنساب دموعها ويقول لها:
-"انظري يا أمي، هل شكلي دميم، وماذا يقصد أبي بقوله إنني مسخ وأشبه العفريت وابن جن، وكيف هو أبي وهو يقول إني لست بولده؟".
تنظر إليه أمه، وتقوم دون أن تنطق بكلمة، وتذهب تحضر إناءً، وتملأه من مضخة المياه اليدوية الموجودة بالمنزل، وتحضر الطشت، وتقوم بتحميمه، ثم تلبسه الملابس الجميلة النظيفة البالية، وتمشط شعره، وتحضنه، وتقول بصوت يكاد يكون مسموعًا:
-أنت يا حبيبي أجمل ولد في الدنيا، انظر الآن في المرآة، انظر إلى شعرك الجميل الناعم، انظر إلى…
يقاطعها وهو يُشير إلى إحدى عينيه المغلقة ويقول لها: "ولماذا لي عين واحدة، الثانية لماذا هي مغلقة، هل هي نائمة، هل هي لا تصحو أبدًا؟ ولماذا باقي الأولاد أعينهم صاحية.. لا توجد لأحد عين صاحية وأخرى نائمة غيري".
-"يا ولدي، دي خلقة ربنا"، تقول ذلك الأم وهي تمسح على شعره، وتقبل تلك العين المغلقة منذ مولده، وتقول والدموع تسبق كلامها: "ليتها عيني يا ولدي.. ليتها عيني".
واستمر الحال سنوات، الأب يضرب ويعنف، والأم تحمي، وكلما يمر من أمام محطة القطارات يحلم بركوبها والانطلاق إلى دنيا جديدة لا يعرفه فيها أحد، ولا يسخر أحد من شكله، ولكن كيف يهرب ويترك أحب الناس إليه؟ لم يتخيل أبدًا حياته بدونها، فهي كل شيء له.
في أحد الأيام والأم تدافع عن ابنها ضربها أبوه بالفأس على رأسها فماتت في الحال، وتجمع الناس، وجاء أهل الأم، والابن لا يفيق من غيبوبته إلا دقائق ويعود مرة أخرى إليها، وكل ما سمعه بعد أيام من الجيران: "أن الأب هدد أهل الأم أن هم أبلغوا الشرطة سوف يتهمها في شرفها، وخوفًا من الفضائح تم دفن الأم دون توجيه اتهام للأب".
بيده قطعة من قماش يجري قبل شروق الشمس تجاه المدينة، فقد سمع الكثير عن قطار السادسة والنصف الذي يذهب إلى العاصمة، لا يلوي على شيء ولا يفكر في شيء، فقط عينه الوحيدة مصوبة تجاه المحطة، وكأنه يراها مع أنها بعيدة جدًا.
وصل إلى المحطة في السادسة تمامًا، جلس على أرض المحطة، وكل بضع دقائق يفرد قطعة القماش الملطخة بالدماء ويقبلها ويكاد أن يغشى عليه، وأخيرًا انتفض سمعه على صوت نذير القطار فتراقص قلبه بين جوانحه، ومع دخول القطار إلى المحطة طارت قطعة القماش وسقطت على القضبان، تلك القطعة الباقية من أمه، إنها الإيشارب الذي كانت ترتديه على رأسها وقت مقتلها، فقفز ليلتقطها، وما إن أمسك بها حتى وجد الناس بالمحطة تحذره بأصوات عالية من الموت القادم إليه، لكن وجه نظره صوب القطار وفتح ذراعيه وابتسم.



