عاجل
الخميس 2 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

جراح قلب

رسم: جمال هلال
رسم: جمال هلال

فلما التقيته وجدت روحي التائهة فعرفت نفسي التواقة للعشق طريقها لعينيه. فهذا القلب يحوي إعصار شوق يختبئ خلف تلك الخطوط العالقة بجبهته. ليس عجوزًا تخطى الستين من ذاك العمر الذي تحصيه الأيام عددًا. إنما شباب روح ونضارة، حيوية مفرطة، حنان واحتواء. تتعلق بأهدابه نظرات رأفة وشفقة وربما لهفة للقاء.



  كانت المرة الأولى، حينما دخلت عيادة طبيب أمراض القلب. وجدته بانتظار موعدي الذي حصلت عليه منذ شهرين ماضيين من طاقم التمريض الخاص بعيادته. لم يدعني أنتظر برهة من الوقت، فتح لي باب حجرة الكشف باهتمام كبير. انتابتني الدهشة لما لاقيت من مقابلته التي يكسوها مودة وحنان، وكأنما كان بيننا موعد طال عليه انتظاره.

  كيف ألاحق رقة حديثه ولطف كلماته؟ يسألني عن آلام قلبي، فبماذا أجيبه وأنا لا أشعر بآلام وأوجاع. هذه المرة الأولى التي يسأل فيها إنسان ما، ليس فقط عن أحوالي وصحتي، بل عن دواعي حزني وأشجاني. لا أستطيع أن أنكر فائض اهتمامه بي منذ أن تلاقت أعيننا، وهو لم يمل الحديث، ومحاولاته لكسب ثقتي لأحادثه عما يثقل قلبي من هموم.

  ينصحني ألا استسلم لوحدتي، وأن أزج بنفسي لعالم الأصدقاء والمرح. أن أعود لعملي كي لا تسيطر على عقلي أفكار وأوهام قاتلة. يدعوني ألا أترك نفسي لحزن أو ضيق، كي لا يمرض ذاك القلب الجميل، وهو في ريعان شبابه وربيعه. وأن الحياة تتفتح به ويزهو جمالها بين نبضاته.

 

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

شعور بالراحة والأمان يجتاح كياني. كيف ذهبت أوجاع شهور عديدة ماضية منذ أن رحل والدي عن الحياة، وتركني أقاسي عناء الحرمان. بالأمس كان بيتنا يأج أنوارًا وبهجة. لم تسكت أصوات الزائرين والأقرباء. تتعالى ضحكاتهم وسهراتهم التي لا تنقطع منذ أن تولى والدي منصبًا مهمًا بالوزارة ولم تتوقف مطالبهم ومكالماتهم الهاتفية ليلًا ونهارًا.

لم يمل والدي، ولم يحاول إجهاض محاولاتهم التقرب منه لقضاء مصالحهم بل كان هو الذي يسعى لمساعدة الجميع وتلبية احتياجاتهم دون المساس بكرامة أحدهم لم يرد سائلًا ذات مرة وكان يرى أن الله تكرّم عليه بذاك الوضع الجديد من أجلهم. تُرى أين ذهب ذلك الجمع؟ ولمن يلجأ الآن؟ وهل كنت أنا جسرًا لأحدهم كي يصل لمبتغاة، حين تهافت الراغبون بالخطبة والتعجيل بالزواج، ومازلت في الثامنة عشرة من العمر. أين توارى هؤلاء المغرمون! ألم يكن حلمهم وأمنياتهم الوصول إليّ وإرضائي بكل السبل!

لم يهدأ قلبي ساعة من ليل أو نهار ولم يكف عن أناته سوى تلك اللحظات، وأنا بين يدي جراح القلب. فهل يشفى القلب دون تدخل جراحي أو استعمال المشرط؟ هل هذا ما يلقب بالحب من النظرة الأولى؟

  كتب لي عقارًا لأقتنيه من الصيدلية الواقعة أسفل عيادته، وطلب مني الحضور لعمل استشارة وبعض الفحوصات الطبية بعد أسبوع من تناول العقاقير والأدوية التي لم أر لها ضرورة بعد الآن. فهل كنت أشكو علة أو مرضًا بالقلب يومًا ما؟!

مر من الأيام سبعة في عددها، دهرًا في مضمونها لما تحويه من شوق وحرارة الانتظار. وفي غرفة الاستقبال، مكثت أتطلع إلى الصور المعلقة بالجدران، ناطقة بعظمة الشخصية وتفوقها العلمي. جوائز عالمية وشهادات تقديرية تتصل بأسقف المكان. مضى من الوقت ما يزيد على الساعة، وأنا على حالتي، بنفس المقعد بنفس الحال من التأمل والشرود، أتلهف للحظة دخولي حجرة الكشف. يبدو أنه يؤدي عمله بدقة متناهية وإخلاص.

  فتح الباب ليكشف عن سيدة تقترب من الأربعين، لا يبدو على وجهها علامات الإجهاد أو آثار التعب المعتاد لمرضى القلب، كست وجهها ابتسامة وإشراقة جذابة. تطل السعادة من وجنتيها، وقد شغلت بمحاولة فك الاشتباك بين خصلات الشعر الذهبية، وبين سلسلة العنق المعلقة بجيدها، التي تحمل في طرفها ذاك القلب الفارغ، الذي تنتشر بأطرافه فصوص براقة لامعة تكاد تذهب بالإبصار.

  رأيته يودعها برقته المعتادة، وصل بصحبتها إلى باب حجرة الاستقبال؛ حيث انتظر الأذن بالدخول. لم يلحظ وجودي ولم يشعر بي، لم تلتفت عيناه عنها لحظات، لم يدع الفرصة ليمتد طرفه تجاهي فيراني، ولم يستطع إخفاء مشاعره وإحساسه بها.

تراها من تكون حبيبته!

  فهل كنت أنا في المرة السابقة، وهي تحتل نفس المكان الآن؟ أم مازال في جعبته الكثيرات! وكنت أنا الواهمة، وجعلت من رقة حديثه وحنانه نبضًا يخترق وجداني! وبنيت بداخلي قلعة من الأوهام!

  وهل أنا وحدي من تعلقت به روحي وانتظرت موعد لقائنا الثاني! وحدي بقيت أحصي ساعات اللقاء! وحدي أغلق جفوني على صورته ليأتيني في سهادي ومنامي! إنه لم يرني ولم تبصرني عيناه!

  هل كان ذاك أسلوبًا حديثًا، كما اعتدنا أن نسمع في الطب المزيد والمزيد! وأن يتخذ من العطف عقارًا يداوي به قلوبًا جريحة، هل كان سلاحه العلاج بالحب؟ ربما رأى في حالتي ما يغريه لممارسة العلاج النفسي، كما يلجأ إليه بعض الأطباء، لما تتطلبه الحالة التي أمامه، وكنت أنا "مجرد حالة"!

  حالة مرضية تستلزم هذا النوع من العلاج.

مازلت أُسرع الخطى مهرولة بعيدًا، تاركة روحي عالقة بتلك الجدران، وأنا لا أميز خطواتي من خطوات السيارات المتلاحقة من حولي. أجاهد أنفاسي وحنيني بألا أعود وألقاه باستشارة طبية ذات يوم، أو أن تخطو قدماي يومًا عيادة

  "جراح قلب"!  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز