ألطاف الله
سحبته من يده بسرعة خاطفة، فى لحظة مُدتها ثوانٍ، كنت أنتظر القطار فى مساحة ضيقة ضيق تلك اللحظة، نصف متر يفصلنا عن السكة الحديدية أنا وبعض المنتظرين. أطلق القطار صافرته التي يرتعش لها قلبى واستعد الركاب للهجوم على المقطورات، فجأة تعثر أحدُهم بجانبى، كان القطار بنفس قُربى منه، امتدت يدى.. تخدّر كامل جسدى.. تشتت حواسى.. سحبته نحوى.
لم نصعد من شدة خوفنا.. جف الكلام فى حناجرنا ورحنا نمشى جنبًا إلى جنب كاثنين يعرفان بعضهما منذ الولادة. - إنه شعورٌ غريبٌ يا آنسة! الإحساسُ بالخوف والأمان فى ذات اللحظة.

- نحن نشعر فى كثير من الأحيان بما وصفته، هى ابتلاءات وامتحانات الله، الضيق الذي يصاحبنا حين نحيد عن الطريق السّوىّ، الخوف من إضاعة السبيل، ثم الرضا والطمأنينة التي تحيط بنا كهالة وهّاجة لتأتى ألطاف الله، يسلط علينا الخوف وينسفه بالأمان فى لحظة.
- الأيام والليالى التي اضطربت فيها.. نومى وعلى قلبى أثقال جبال؛ تغدو كالريشة حين أصحو.
- أرأيت! إنها ألطاف الله.
- وأنت لطفٌ من ألطافه.
كان هذا الحديث كل ما دار بيننا فى تلك الدقائق، الكلامُ الوحيد الذي بُحنا به وأراحنا قبل أن تفترق سُبلنا.
توجهت نحو المكتبة بعدما فوتت موعدى مع صديقتى، قلبت صفحات الكتاب بلا مبالاة وجدفت بأفكارى بعيدًا عن تلك الأسطر. اهتز الكرسى بجانبى وإذ به يجلس قائلا: يا لها من مصادفة سارّة، الفتاة الجميلة تقرأ الكتب.
- هل تلاحقنى من مكان إلى آخر من دون خجل وتقول إنها مصادفة؟
قلّب علكته اللعينة بلسانه وقال: لست ألاحقك عزيزتى، لماذا هذه العصبية؟ ستضرين بصحتك وأنا لا أريد ذلك، كل ما أريده أن تفكرى فى طلبى، ففى المقابل صحة أمّك أهم شىء بالنسبة إليك كما أعتقد أليس كذلك؟
- يا لك من وقح، أخبرتك من قبل برفضى فلماذا ما زلت مُصرًا على مضايقتى؟ فلتنصرف وإلا أبلغت الأمن عنك.
نهض من الكرسى وقال باستفزاز: لا تفوّتى هذه الصفقة الرابحة صغيرتى، أنا أنتظرك بمكتبى.
تملّكنى العجز واستولى؛ خصوصًا أن صحة أمّى تتدهور يومًا بعد يوم ولا بُدّ من تلقيها العناية اللازمة لتستعيد الحركة، فإمكانية تحرّكها كبيرة للغاية هذا ما أكده لى الأطباء فى كل مرّة.
هناك عيادتان متخصصتان فى إعادة التأهيل فى ولايتى، لكن التكاليف مرهقة جدًا ولن أقدر لوحدى على توفيرها. الرجل البغيض الذي يُخيّرنى بين خسارة أمّى أو الزواج به هو مدير العيادة، وهو على قرابة منا أيضًا، استغل عجزى وقلة حيلتى ليطلب منّى طلبه اللعين مسميًا إياه بالصفقة. ظننت فى البداية أنى سأستطيع جمع المال إن عملت لكننى لم أفلح فى ذلك، ربما حان الوقت لأتزوجه ففى المقابل ستشفى أمّى ولست أريد من الدنيا غير شفائها.
فكّرت طويلا واستخرت لعلّ الله يرشدنى ويُطمئن قلبى، كنت ذاهبة إلى مكتبه، صورة أمّى لم تفارقنى لحظة، أفكارى تتناطح فى عقلى ودقات قلبى تتصادم بقوة، صعدت إلى ربوة عالية كى أهدئ روعى وأنظم أنفاسى حتى جاءنى صوته المرتعب من خلفى: سيُطمئن الله قلبك وينسف حزنك، ستغمرك ألطاف الله. كان الشاب الذي التقيته فى سكة القطار يتصبب العَرق منه كأنما كان فى سباق، قلت له مازحة: لا تخف، أنا لن ألق بنفسى من هنا.
- أعرف أنك لن تفعلى على الأقل من أجل والدتك. نظرت إليه باستغراب وقلت: وهل تعرف والدتى؟
أجابنى بثقة: أعرفكما بالقدر الذي أريده، ثم سأبوح لك بشىء لم أخبرك به ذلك اليوم.
- ما هو هذا الشىء؟
- لم أتعثر ذلك اليوم أمام القطار؛ بل تعمدت إلقاء نفسى أمامه، كنت سأنتحر وأنهى حياتى هكذا بجبن، فى لحظة خارت عزيمتى وشعرت بأن الدنيا لم تنصفنى، أخذت أحبتى وانهار عملى الذي كافحت من أجله سنوات طويلة، لكن خروجك فى طريقى وإنقاذك لى بكلماتك جعلنى أدرك ما غفلت عنه.
- إن الله يُسَخّر العبادَ لبعضهم البعض، والدنيا دار شقاء كما يقال.
- معك حق، فقد سَخّرنى الله لك أيضًا وسأرد الدَّيْن، أنا صاحب عيادة التأهيل فى المدينة، العيادة التي كانت ستغلق لولا لطف الله، سنستقبل أمّك عندنا لتُعالَج وتستعيد عافيتها، ولا تقلقى بشأن المال أبدًا، ادفعيه على أقل من مَهلك. أرأيت! إنها ألطاف الله.
- وأنت لطفٌ من ألطافه.



