السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

عـزيــــــــزة

رسم: عبدالعال
رسم: عبدالعال

"عزيزة!".. "عزيزة!" ها أنتِ ذا، أين كنتِ؟! استيقظت الهانم الصغيرة من حوالى ربع ساعة، هيا اسرعى.... آه يا وداد انتبهى على الفستان إنه يساوى راتب عام كامل لك..  

كان الوضع يشبه خلية النحل لكن بصورة هادئة، خَدَمٌ يسيرون بخطوات منظمة لكن خفيفة. 

يحدث كل ما تحدّثنا وسنتحدّث عنه داخل جدران منزل عبود باشا.. 

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

فى غرفة من الغرف تجلس فتاة بشعر أسْوَد متوسط الطول، وجَمال عادى فقط ما يبرزه مجموعة الملابس الفخمة والزينة.. 

- آه ها أنت ذا يا وداد، ساعدينى فى ارتداء الفستان كى لا أتأخر أكثر. 

على مائدة طعام تتسع لـ 20 فردًا، لم تشغل عائلة عبود باشا سوى 3 مقاعد فقط، زوجته، وصفية، وعلى رأس الطاولة هو، السيد عبود. 

- لا أريد الذهاب للحفلة التنكرية اليوم.. قالتها صفية وهى تنظر لطبَقها، كادت تنفعل والدتها لكن صدّها رَدُّ زوجها الهادئ "ستذهبين، لا يجوز ألاّ تحضر ابنة عبود باشا حفلة كهذه". 

استأذنت صفية فى حركة احتجاجية طفولية تعلم جيدًا أنها لن تجدى نفعًا ورحلت. 

على بُعد خطوات تقف الخادمات  يستمعن للحديث فى هيئة تماثيل جامدة. 

- وداد، لمَ قد لا تريد السيدة الصغيرة حضور الحفلة؟

- لا أعلم يا عزيزة، ربما لأنها اعتادت الحفلات من صغرها فلا تبالى بتفويت بعضها. 

- أتمنى حضور حفلة كهذه، وأن أرتدى فستانًا أنيقًا، ويأتى شابٌ لطيفٌ يراقصنى طوال الحفلة. 

- بالطبع يمكنك حضور واحدة، فى أحلامك، أمّا عن الشاب الوسيم؛ فهم هكذا طالما يملكون المال، المال يجعلهم جميلين، انظرى إلى نفسك، أنتِ تشبهين السيدة الصغيرة، لكن لا أحد يستطيع أن يرى ذاك الشبه من وراء مجوهراتها الثمينة. 

جلست صفية أمام مرآتها صامتة، تنظر بشرود إلى اللا شىء، حتى أعادها للواقع صوت عزيزة وهى تعرض عليها فنجان القهوة.. 

- سيدتى أنتِ بخير؟ 

- نعم ياعزيزة شكرًا لكِ... أيمكنك الجلوس معى قليلًا.

عادت عزيزة من جوار الباب  لتقف بالقرب من سيدتها.. 

-اجلسى أمامى. 

 بعدما جلست تناولت صفية الفنجان وبدأت تتحدث..

- لا أريد الذهاب إلى الحفلة، لا أطيق النظر إلى وجوههم ولا أن أسمع نصائحهم وتعليقاتهم، أشعر أننى مقيدة، لا أختار ماذا أرتدى ولا ماذا أقرأ، كل شىء محكوم، حتى إننى لا يمكننى شرب القهوة بالطريقة التي تعجبنى ويجبروننى على رفع إصبعى الصغير بتلك الطريقة السخيفة عند مسك الفنجان. 

- سيأتى يوم تتزوجين فيه وترحلين عن هذا المنزل سيدتى، أظنه سيكون شخصًا لطيفًا لا يبالى بآرائهم. 

- أنت على حق، لمعت عينا صفية..  

- استأذنك الآن كى أعود لعملى. 

بعد ساعتين من خروج عزيزة من غرفة السيدة الصغيرة، وفى غمرة انشغالها فى العمل، لمحت صفية وهى تسير بحذر نحو باب جانبى حتى لا تمر على الصالون؛ حيث تجلس والدتها، شىء ما بداخلها جعلها تناديها بصوت هامس.. 

- سيدتى! أين تذهبين؟ 

لم تستطع صفية التمثيل أنها لا تسمعها؛ إذ كانت عزيزة تقف على مسافة قريبة منها، التفت وقالت "سـ أتمشى فى الحديقة قليلًا"..

- فى هذا الجو، الشمس حارقة فى الخارج، ثم إن مصفف الشعر سيصل بعد قليل.. 

- نَعَم فى هذا الجَوّ، ويمكن لمصفف الشعر الانتظار. 

التفتت لها مرّة أخرى "لا تخبرى أحدًا، سأعود سريعًا".

راقبتها عزيزة وحجمها يصغر كلما اشتد مَشيها حتى صارت بقعة صغيرة فى نهاية الطريق. 

دخلت عزيزة إلى غرفة صفية كى ترتبها كما تفعل يوميًا، إلاّ أنها تجرّأت هذه المرّة لغياب صاحبة الغرفة، اقتربت من خزانة الملابس وقرّرت أن تجرّب فستان السهرة المنتظرة، ارتدته ببطء ورهبة كأنما تغير جلدها، نظرت لنفسها فى المرآة لترى سيدتها، كانت تشبهها حقًا، ظلت تدور يمينًا ويسارًا بالفستان وتحاكى رقصة متخيلة وجود شاب يمسك بيدها حتى دق الباب فجأة. 

- سيدتى، مصفف الشعر هنا.

كان صوت وداد على الباب، ستعرفها من النظرة الأولى إذا رأتها، عليها أن تنزع الفستان بسرعة وترتدى ملابسها.

 فتحت وداد الباب فى اللحظة التي كانت فيها عزيزة متمسكة بسحاب الفستان ودخل وراءها مباشرة مصفف الشعر، صمتت وداد قليلًا قبل أن يتحدث مصفف الشعر ليخبرها أن الفستان رائع وأن برأسه تصفيفة تليق به، وطلب من وداد أن تساعد سيدتها فى تبديل ملابسها. 

وقفا وراء الستار الخشبى، همست عزيزة "لمَ لم تخبريه أننى لست هى؟!". 

اهدئى، لقد جاءتك الفرصة لتحققى حلمك، لا تفوّتيها إذن، لن يعلم أحدٌ مَن تكونين، سترتدين القناع طوال الحفلة ولن تتحدثى كثيرًا، لن يتعجب الباشا وزوجته صمتك إذ يعلمان أن صفية لا تريد حضور الحفلة". 

- ماذا إذا عادت السيدة؟ 

لن تعود السيدة قبل أن تنتهى الحفلة، لقد قرأت رسالة قادمة لها من ذاك الشاب، سيكونان سويًا الليلة، هيا. 

نزلت عزيزة بخُطى تبدو هادئة، شعرت وهى تنزل الدَّرَج أن العالم ينظر لها ويفغر فاه، إن خطوتها تحطم الأرض تحتها، لكن فى الواقع لم يكن أحدٌ يهتم لأمرها سوى وداد. 

دخل الجميع إلى الحفلة، مكان ملىء برائحة الثراء، سيدات مثقلات بحُلىّ باهظة، ورجال فى ملابس فاخرة، بقيت عزيزة تقف فى ركن هادئ خشية أن يكشف أمرُها، لمحت بابًا مفتوحًا فى نهايته سماء، ذهبت إليه، كانت شرفة واسعة جميلة، وقفت تنظر للسماء كانت بلا أى نجوم بسبب الإضاءة، "حتى مَنظر النجوم يختلف فى ملابس الأغنياء".

- مرحبًا. 

انتفضت عزيزة لسماع الصوت، ورأت شابًا نبيلًا. 

- اعتذر إن كنتُ أزعجتك، لكننى رأيتك لا تندمجين مع المحيطين، ففتحت باب الشرفة آملا أن تدخلى، أنا أيضًا لا أحب الزحام، ترقصين؟ 

تحدّثا طويلًا، عن كل شىء، جرّبا الرقص وكانت فظيعة، ضحكا كثيرًا كانت سعيدة حقًا، إلا أنهما أرادا لو تستمر تلك الليلة أعوامًا، لكنها انتهت. 

عادوا إلى المنزل، لوهلة نسيت مَن تكون وصعدت على الدَّرَج بسعادة نحو غرفتها كـ صفية، وارتمت على السرير الذي ظنته مِلكها، دقائق وفتح باب الغرفة بعنف ووقف أمامها عبود وزوجته وفى أعينهما نظرات خوف وفزع ممزوجة باندهاش وتفحّص، انفرج فم عبود باشا عن الأسئلة..

- مَن أنتِ؟ مَن تكونين؟!، كيف جئت إلى هنا؟، لمَ أنتِ هنا بينما جثة ابنتى مُلقاة فى أحد الشوارع! 

جلست عزيزة على السرير مجددًا.. 

- أنا عزيزة، الخادمة عزيزة.

انهارت الزوجة، بينما بقى لدَى عبود باشا بعضٌ من قوة ليستمع إلى عزيزة ويعلم أن ابنته هى مَن رحلت بإرادتها والرسالة التي وضعتها عزيزة فى يده برهانٌ على ذلك. 

نهض وطلب من عزيزة أن ترحل ولا تعود أبدًا، رحلت مع الفجر. 

- مَن أنتِ؟ 

- أنا عزيزة، لقد كنت خادمة من قبل، أحتاج إلى عمل.. 

حزن الشابُ عليها سنوات، حتى تزوج فقط ليكمل نسل العائلة، وأسْمَى ابنته الأولى "صفية" ظنًا منه أنها حقًا صفية.  بقى فى قلبها ذكرَى السماء فى تلك الليلة، وبعض من الضحكات، بقيت تلك الأشياء عالقة برأسها كحلم جميل، بقيت محتفظة بمشبَك الرأس الذي نسيت أن تنزعه عند رحيلها، حتى ظن أولادها أنه إرث من أجدادها الأثرياء، وأنهم لولا الظروف لكانوا يحضرون تلك الحفلات.> 

تم نسخ الرابط