السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

سبق  أن حذركم!

رسم: سوزى شكرى
رسم: سوزى شكرى

يصل الدكتور صلاح مكتبه فى مستشفى العباسية للأمراض العقلية والنفسية الذي يعمل به منذ عشر سنوات حتى أصبح مديرًا لأحد أقسامه, تدخل الممرضة بكشوف روتينية عن أحوال المرضى وتطورات حالاتهم والمرضى الجُدد الذين سيجرى عليهم الكشف, كانت حالة وحيدة جديدة, رجلا يدعى خالد, رافق صلاح الممرضة إلى حيث مرافق الحالة الجديدة, أراد صلاح أن يلتقى بالمرافق أولاً ليعرف التفاصيل السابقة لحدوث الأزمة, كان أحد أصدقاء المريض, حكى صديقه أن الأمر بدأ بوفاة زوجة خالد, كانت الوفاة بسبب حادث سيارة, كان يقود مسرعًا وهى جانبه, ثم ظهرت شاحنة مسرعة قطعت عليه الطريق, واصطدمت بسيارته, توفيت زوجته فور وصولها المستشفى بينما ظل هو فى غيبوبة لأسبوعين, عاد خالد بعد الغيبوبة إلى شقته, وبدأ يحكى عن أن زوجته تظهر له فى الليل فى صورتها التي يتذكرها لها بعد الحادثة قبل أن يفقد الوعى, وأنها دائمًا ما تتوعده بالانتقام لأنه السبب فيما حدث لها, حتى إن جيرانه قد حكوا عن عدة مرات سمعوا فيها صراخه ليلاً وركضه فى طرُقات الشقة كأن هناك من يلاحقه, حتى كان أحد الأيام حين مررت عليه صباحًا ولم يفتح الباب, استخدمت نسخة للمفتاح كان قد تركها معى, وجدته على سريره بجواره سكين كان قد استخدمه فى محاولة قطع أوصال يده, لكن تم إنقاذه لاحقًا فى المستشفى, وقال حينها إن زوجته هى من حاولت قتله, سأله صلاح عن علاقة خالد بزوجته, أخبره أن المشاكل كانت كثيرة بينهما فى الآونة الأخيرة قبل الحادثة وأن خالد كان يتشاجر معها أثناء رحلة ما قبل الحادثة مباشرة, كان الانطباع الأولى لصلاح أن خالد مصاب بهلاوس حادة نتيجة الحادثة وما رآه من تبعاته قبل وقوعه فى الغيبوبة وأن محاولة الانتحار كانت من تبعات محاولة نفسه التخلص من تلك الهلاوس المتتابعة.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

جلس بعدها د. صلاح مع خالد, لم تكن له انفعالات زائدة أو تصرفات زائدة, سأله عن الحادث فحكى تفاصيل عن مشاجرة بينه وبينها ثم شاحنة تقطع الطريق, ثم محاولة خروجه من السيارة المحطمة ورؤيته لها تلفظ أنفاسها الأخيرة وفقده للوعى, سأله عمّا يحدث له فى الشقة ليلاً, أخبره أنها دائمًا ما تظهر له وتردد عبارات التوعد بالانتقام وتتهمه بأنه السبب وراء موتها وأنه لم يحاول حتى إنقاذها, سأله عن محاولة الانتحار فأنكر تمامًا أنه قد حاول الانتحار وأصر على أنها قد حاولت قتله لكن صديقه قد أنقذه, كانت انفعالاته تتلخص فى رعشات يده البسيطة مع عينيه الزاغتئين أحيانًا, كان حديثه يحمل لهجة لم يتعوّدها صلاح مع مرضى الهلاوس, قرر د. صلاح أن يضعه فى أحد العنابر المشتركة مع مرضى آخرين, ووضع له بعض الأدوية كبداية لخطة العلاج.

كان لدكتور صلاح غرضٌ من وضعه فى عنبر مشترك بدلاً من غرفة منفردة وهو ألا يدع مساحة كبيرة لهلاوس خالد وبالتالى لا يسمح لها بأن تسيطر عليه؛ حيث كانت ظروف تواجده وحده فى شقته تساعد على حدوث مثل تلك الهلاوس, بعد عدة أيام طلب د. صلاح الطبيب المرافق لحالة خالد وكان طبيبًا شابًا يُدعى كريم, وسأله عن آخر التطورات التي لاحظها, أخبره كريم أن حالة خالد لم تتغير كثيرًا فيما يخص مشاركة الغرفة مع آخرين؛ حيث استمر فى شكواه المتكررة من نفس الهلاوس عن زوجته وتهديدها, كما أن زملاءه فى العنبر قد اشتكوا من تكرار ركضه أثناء الليل واستغاثاته, حتى كان المشهد الأبرز بالأمس, حين أنقذه أحد زملائه فى العنبر من محاولة انتحار أخرى؛ حيث كان يتدلى برأسه من مشنقة صنعها فى السقف بإحدى قطع الملابس، وكان ذلك بعد الفجر بقليل, طلب د. صلاح استدعاء زميله ذاك, سأله عما شاهده تحديدًا, أخبره أنه استيقظ صدفة بعد الفجر بقليل, رأى خالد الذي يقبع سريره فى طرف العنبر مُعلقًا من رأسه فى السقف, حين اقترب منه وجده يحاول الاستغاثة أو الصراخ لكنّ شيئًا ما يمنع خروج صوته.

بعدها جلس صلاح وحده يستجمع تفاصيل ما سمع, لم تتحسن الهلاوس بالأدوية أو مشاركة الغرفة مع آخرين, محاولة انتحار أخرى, لكن لحظة.. كيف وصل خالد إلى سقف الغرفة ليعلق بها مشنقته من إحدى قطع ملابسه؟!, هو يعرف أن الوقوف على السرير لا يصل به أبدًا إلى السقف, كما أنه شدد مرارًا على عدم تواجد أى كراسى بالعنابر حتى لا يؤذى أحدهم بها الآخر, استدعى ممرضة العنبر وسألها عن نفس الأمر, فأكدت أن الكراسى ممنوعة تمامًا داخل العنابر, أثارت تلك اللقطة مزيدًا من التفكير داخل رأسه, قرّر بَعدها أن يعود لنقطة الصفر, أن يحادث خالد مرّة أخرى.

ذهب بنفسه للعنبر, وتحدّث معه, سأله عن محاولة الانتحار, كان انفعال خالد عصبيًا بعض الشىء هذه المرّة, أصر أنه لم يحاول الانتحار أبدًا, وأنها حاولت تلك الليلة مجددًا الانتقام منه, لكن بطريقة أخرى, قرر د. صلاح بعدها نقله لعنبر منفرد حتى لا يزعج مرضى آخرين ويكون تحت المراقبة دومًا, وأوصى إحدى الممرضات بألا تغيب عنه ليلاً وأن تطل عليه كل ساعة وأن تكون قريبة من غرفته حتى فى أوقات عدم تواجدها حتى تلاحظ أى صراخ أو استغاثات منه, وشدد على أن تكون الأدوية فى ميعادها. 

كان عقله فى نزاع بين ما درسه وكل ما تعلمه من أمارات تقول إن خالد مصابٌ بهلاوس حادة نتيجة الحادث وما رآه فيه وأن انتحاره هو ناتج عن محاولته الخلاص من ضغط تلك الهلاوس, وبين تلك الشكوك فى رأسه عن كيف وصل إلى السقف واستغاثته المكتومة التي تحدّث عنها المريض الآخر, كان يخفى سؤالاً يتردد فى عقله كل لحظة..أحقًا يمكن؟

فى الأيام التالية, لم تتغير الأمور كثيرًا, نفس التقارير عن الهلاوس الليلية واستغاثات وزوجته التي يزعم أنها تتوعد بالانتقام كل ليلة, لكن على الأقل لم تحدث محاولة انتحار أخرى, كان هذا لسان حاله وهو يستمع لتطورات الحالة من الدكتور كريم, فى العموم كان الأمر مبشرًا قليلا بالنسبة له. 

فى صباح أحد الأيام, بينما د. صلاح فى طريقه للمستشفى, وصله اتصال من كريم, أخبره أنه أثناء المرور الصباحى على الغرف, أراد أن يدخل عنبر خالد لكن الباب كان مغلقا بقوة, وشعر أن خالد وراء الباب يحاول منع دخوله, وأنه استعان بأحد أفراد الأمن ليحاول فتح الباب بقوة لكنه استغرب تلك القوة الكبيرة من خالد لمنع فتح الباب, أخبره صلاح أنه سيصل فى غضون دقائق قليلة للمستشفى, وكانت الاحتمالات تلعب برأسه, حين وصل مكتبه كان كريم ينتظره هناك, كرّر على مسامعه نفس القصة وأخبره أنهم لم يفلحوا فى فتح الباب حتى منذ دقائق قليلة, رافقه صلاح مسرعًا إلى حيث العنبر واقترب من الباب, حاول فتح الباب, فتفاجأ إذ انفتح بسهولة, فتحه برفق, كان المشهد كالتالى.. خالد يرقد مستندًا بظهره إلى ركن الغرفة البعيد عن الباب, اقتربوا منه ببطء.. كان خالد قد فارق الحياة, علامات كدمات قوية وواضحة على مؤخرة رأسه, صلاح يتفقد الغرفة بعينيه, لم يكن بها إلا بعض قوارير المياه الفارغة, التي لن تُحدث أبدًا مثل تلك الكدمات, يقرر أن يبلغ الشرطة حالاً, يحتار ضابط التحقيق لعدم وجود أى أحراز أو أسلحة أو أى خيوط للحادث غير تلك الكدمات على رأسه, يأمر برفع الجثة وتوجيهها إلى المشرحة بسبب الشبهة الجنائية, يطلب منه د. صلاح إبلاغه بآخر التطورات.

فى أحد الأيام, قبل أن يغادر صلاح مكتبه, يدخل ضابط التحقيق, يستأذن صلاح فى بعض الوقت, فيأذن له وعلامات التحفز تملأ وجهه, يتحدّث الضابط عن تقرير المشرحة أولاً.. تقول المشرحة إن الكدمات حدثت نتيجة الاصطدام المتكرّر بالحائط, وتقول إن الوفاة حدثت فى الخامسة فجرًا تقريبًا, يقطع صلاح حديث الضابط: أى قبل محاولة فتح الباب بساعتين! كما أن الجثة كانت على الجهة البعيدة من الباب.. ماذا يعنى هذا إذن؟!! يسكت الضابط لبرهة ثم يقول: الأمر كله لا يبدو له أى تفسير منطقى عندنا.. يسكت الرجلان لدقائق قبل أن يستأذن الضابط فى الانصراف, قبل أن يخرج من الباب يلتفت لصلاح ويقول: صحيح نسيت أن أخبرك أمرًا, وجدوا ورقة فى جيب القتيل.. كتب بها: سبق أن حذركم.>  

تم نسخ الرابط