قصة "قلنا هانبني وادي إحنا بنينا السد العالي"
في الذكرى الخمسين للسد العالي، وفي طبعة خاصة أعادت الهيئة العامة للكتاب، برئاسة د. هيثم الحاج علي مؤخرا إصدار كتاب "السد العالي حاضره ومستقبله"، لمؤلفه الكاتب الصحفي الراحل إبراهيم راشد، وهو كتاب مهم للباحثين وكل المهتمين بقصة السد العالي والكفاح الذي كان وراءه حتي خرج للنور وتحدى الجميع.
والكتاب يحتفي بالسد العالي، بمناسبة يوبيله الذهبي، حيث افتتح المشروع نهائيًا في عام 1971 في عهد الرئيس "أنور السادات".
وهنا نقدم قراءة في هذا الكتاب المهم الذي يقول المؤلف في مقدمته، إن النيل نهر إفريقيا العظيم وثاني أطول نهر في الدنيا بعد نهر المسيسبي، وهو واهب الحياة على ضفتيه.. ومنذ شق النيل طريقه عبر بلادنا وهو يفيض بالخير والنعمة حتى إن الفراعنة قدسوه، وكثيرا ما كان يخلف وعده فيشيع الجفاف والعدم ثم يقابلها بكرم زائد فيدفع مياهه لكي تهلك الحرث، ولذلك فكر المصريون القدماء في ترويض النهر العظيم وإخضاعه لإرادتهم حتى يمكن أن يكون عادلًا في كرمه وفي نقمته حتى جاء الحل الكامل على أحدث ما وصل إليه العلم الحديث في بناء الخزانات والسدود، متمثلا في السد العالي.
هكذا عبر المؤلف عن الهدف الرئيس من كتاب "السد العالي حاضره ومستقبله"، الذي صدر في وقت سابق وأعادت هيئة الكتاب إصداره مرة أخرى.
وليس في العالم - كما يقول المؤلف- بلاد تدين بكيانها ووجودها وتتوقف حياتها على ماء نهر كما تتوقف حياة مصر على ماء نهر النيل.. هذا النهر الذي خلق الله به مصر وأجراه فيها يدر الخير على البلاد جيلًا بعد جيل.
ويؤكد المؤلف أن تقلبات النيل موجودة منذ زمن وتتراوح بين الوفاء والجفاف وليس أدل على تلك التقلبات مما يحكيه القرآن الكريم في قصة سيدنا يوسف وموقفه من سنوات الجدب والرخاء فقد أوصى يوسف بتخزين المحاصيل أثناء سنوات الرخاء لمواجهة سنوات الجدب، وذلك بسبب تذبذب النيل وتقلباته.
وقد أشار يوسف على فرعون بالعمل على تخزين المياه مستقبلا، وبالفعل بعد المجاعات التي واجهت مصر فكر المصريون في ترويض النهر والاستفادة بكامل مياهه، فأقاموا سد ركاميا بوادي الجروي بجنوب شرق حلوان، وكان أقدم سد أقيم من نوعه
واستمرت محاولات المصريين، كما يقول المؤلف في دراسة النهر والإلمام بأطواره ورصد مناسيبه وتسجيلها على مقاييس خاصة أقامتها لهذا الغرض مثل مقياس جزيرة الروضة، الذي يعود تاريخ إنشائه إلى عام ٦٤١ قبل الميلاد ولاتزال مناسيبه ترصد وتسجل حال الآن.
وهكذا نرى مع المؤلف إبراهيم راشد أن مشكلة ترويض هذا النهر ومحاولة الاستفادة الكاملة بالكنز الضائع الذي بحمله بين جوانبه، والذي ينساب إلى البحر سدى هي مشكلة توارثناها منذ أقدم العصور حتى قدر الله لها الحل الكامل، ممثلا في السد العالي، والمؤلف في صفحات كتابه يحكي حكاية هذا السد العالي العظيم، منذ أن كان فكرة وحتى ظهوره إلى النور واستفادة مصر منه في مختلف المجالات المرتبطة بالمياه والكهرباء والصناعات المرتبطة بها.
ويتناول المؤلف فى هذا الكتاب كل ما يتعلق بالسد العالي كمشروعات ضبط النهر والتصميم المبدئي ومحطة توليد الكهرباء وفكرة السد العالي، ووصف المشروع وأثر السد العالي على الصناعة ومجالات البحث العامة والنتائج الاجتماعية والاقتصادية، وغيرها مما يتبع هذا المشروع العظيم.
ويحلل الكاتب أسباب مشروعات ضبط نهر النيل المتعددة، ومنها زيادة عدد السكان والرغبة في التوسع الزراعي، وكيف تم التفكير في تلك المشروعات من نهايات القرن التاسع عشر، مرورًا بخطط إقامة السدود والخزانات طوال النصف الأول من القرن العشرين، وصولًا إلى التفكير في السد العالي في خمسينيات القرن وتبني الرئيس عبد الناصر لإقامة السد للمساهمة في تنمية البلاد،
وشرح المؤلف إبراهيم راشد الدراسات والأبحاث والتصميمات المبدئية للسد، وكيفية التغلب على هذه الصعوبات عن طريق خبراء أجانب ومدربين.
ويشير إبراهيم راشد إلى أن السد العالي، يمثل أسطورة القرن العشرين، وقد استطاعت أمة صغيرة أن تتحدى أكبر الدول بإيمانها، وأن تحقق المعجزة وتجعل منه منطلقًا لكي تحقق به أهدافها في التنمية حتى يمكن إتاحة الفرصة أمام أبنائها لكي يحصلوا على حقهم في الحياة.
ويرصد الكتاب كتابات الأجانب المنصفين عن السد العالي وأهميته، ومنهم الكاتب الإنجليزي توم استيل، ويفند المؤلف مزاعم التوراة التي تتوقع أن يبنى سد في مصر من الرمال وينهار، بل إن التجارب وتصميم السد بشكل علمي ردت على تلك المزاعم، وجعلته يبقى ويقاوم ما يفعله النهر بالرمال.
ويشير الكتاب إلى معركة تمويل السد العالي، وأنها جزء من محاربة مصر من جانب قوى الاستعمار التي كانت تريد هزيمة مصر وقتها، ولكن ثورة يوليو لم تشغلها تلك المعارك المفتعلة وسعت لتنفيذ برنامجها لتطوير اقتصاديات البلاد، ومنها تنفيذ مشروع السد العالى الذي انتهت مرحلة البحوث الفنية فيه إلى الحكم بسلامته فنيًا واقتصاديًا، كما وضحت أهميته في تطوير الاقتصاد المصري لصالح كل الأجيال، وقد تكلف تمويل السد ومحطته الكهربائية وملحقاتها نحو ٢١٠ ملايين جنيه زادت إلى ما يربو على ٤٠٠ مليون جنيه.
ويشرح المؤلف خطوات بناء السد بالتفصيل والأرقام إلى الانتهاء منه كاملًا، ويتناول أثر السد على الصناعة والنتائج الاقتصادية والاجتماعية لبناء السد العالي، وهي كثيرة ومفيدة.



