رشدي أبو الحسن ينتصر لكل ما هو "مصري"
أعبر عن سعادتي بكتاب "55 سنة صحافة"، الصادر مؤخرًا عن دار ميريت للكاتب الكبير ابن "روز اليوسف"، رشدي أبو الحسن، لأكثر من سبب؛ أولًا أنه كتاب غزير المعلومات، ويحتاج إلى الكثير من التركيز لقارئ كبير قبل أن يكون صحفيًا كبيرًا، وثانيًا لأن الكتاب يقدم لنا بشكل غير مباشر صورة واضحة عن قوة مصر الناعمة طيلة الخمسين عاما الأخيرة، ولا يعيب الكتاب سوى الأخطاء الإملائية الكثيرة جدا، والتي لا أعلم سر وجودها في الكتاب بهذا الشكل، خاصة أنه من إصدارات دار ميريت المعروفة.
والكتاب يقدم لك رحلة الكاتب الكبير رشدي أبو الحسن في عالم الصحافة، والتي بدأها عام 1962 عندما كان طالبا في السنة النهائية بكلية الآداب، وحتى عام 2017، وهو العام الذي قرر الأستاذ رشدي أن يسجل رحلته مع الصحافة، وكنت أظن أن الكاتب سيقدم مذكراته في الكتاب قبل قراءته، خاصة أن رحلة الأستاذ رشدي كبيرة ومتشعبة بين الصحافة والعمل السياسي، ولكن خاب ظني عندما انتهيت من قراءة الكتاب.
وقد رأى الأستاذ رشدي لأسباب لا أعلمها أن يقدم لنا جزءا مهما من رحلته الصحفية فقط دون السياسية، وربما يقدم الأخيرة في كتاب منفصل. وهذا ما أطالبه به خاصة أنه واحد من الشهود الاساسيين في الحياة السياسية في مصر منذ السبعينيات وحتى الآن كما أنه اقترب من جيل اليسار الذي سبقه، ويعرف الكثير.
رحلة مع الصحافة
عودة إلى رحلة أبو الحسن مع الصحافة، نلاحظ أنه سجلها بطريقة مختلفة فهو لم يقدم الرحلة في سياق تاريخي كما حدثت، بل إنه قدمها من خلال عدة أجزاء بدأها بمقدمة وافية شرح لنا فيها كيف بدأ رحلته مع الصحافة، في دار أخباراليوم، وبالتحديد في مجلة آخر ساعة التي بدأ العمل فيها متدربا وحتى تعيينه فيها، ثم رحيله إلى "روز اليوسف"، في السبعينيات ليكون أحد نجومها.
ويشرح الأستاذ رشدي للقارئ هذه الرحلة التي دخلها، باحثًا في قسم الأبحاث المنتظر إنشاؤه في آخر ساعة، ثم عمله بالسكرتارية ومساهمته فيها، وتمسكه بالفرصة التي حصل عليها ولا تأتي كثيرا، كما أنه مؤمن بأن الله يساعد الذين يساعدون أنفسهم ويصف حضوره اجتماع مصطفى أمين مع المحررين بأنه يساوي سنة دراسية في قسم الصحافة، ورغم هامشية ما كان يقوم به داخل "آخر ساعة"، إلا أنه نجح في نشر بعض الموضوعات الصحفية، ثم تتغير الأمور بعد أن يتولى أحمد بها الدين رئاسة تحرير المجلة، ويستعين بكل من الكاتب الكبير صلاح حافظ، والكاتب الكبير ومؤسس هيئة قصور الثقافة فيما بعد سعد كامل، واللذين علماه الكثير واستفاد منهما في الصحافة والعمل السياسي، أيضا، إلى أن نجح في التعيين بالمجلة عام 1963.
ويحكي أنه في هذا الوقت لم يكن مشغولا بالعمل الصحفي فقط، بل كان يقاسمه اهتماما عميقا بالشأن العام والقضايا الوطنية والقدرة علي تغيير العالم، وشهوة إصلاح الكون على حد قوله.
عالم أكثر رحابة
ويحكي أبو الحسن كيفية انتقاله إلى عالم أكثر رحابة وحنوا، وإتاحة للفرص عام 1974، وهو دار "روز اليوسف"، وبالتحديد مجلة "صباح الخير"، وذلك عندما تولى أنيس منصور رئاسة تحرير مجلة "آخر ساعة" وصدمه صراحة بقوله "إنني رئيس تحرير فقط ليظهر مقالي في أفضل صورة ممكنة"، وهو ما وصفه أبو الحسن بأنه جو غير مريح، وكانت هناك ظروف مواتية ساعدته في الانتقال إلى "روز اليوسف"، عندما كان يتولى المسؤولية فيها عبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح حافظ، وحسن فؤاد، عندما سعى سعد كامل لنقله إلى "صباح الخير"، وكانت تربطه بهم صداقة قوية.
وعمل أبو الحسن متدربًا من الخارج وبالقطعة وبدون اسم حتى لا يهبط بالبراشوت بناء على اقتراح حسن فؤاد، حتى تم نقله من "أخبار اليوم" إلى "روز اليوسف"، وهو ما وصفه بأن خبرة حسن فؤاد التي خطط لها جعلت انسيابه في نهر مجلة "صباح الخير" طبيعيًا، ولم يسبب أي درجة من المزاحمة والتنافس له ولغيره.
ويحكي الأستاذ رشدي قصة كتابه "55 سنة صحافة" بأنه لم يكن يحتفظ بأعماله، وظل يبحث عن أعماله ولم يصل إلا لحوالي ثلاثمائة موضوع فقط، أعاد قراءتها، وقدمها للأجيال التالية لعلهم يستفيدون بها.
نخبة رائعة تواصل الرسالة
والسؤال ماذا أراد الأستاذ رشدي أبو الحسن، أن يقدم في هذا الكتاب الذي أصفه بأنه كتاب مصري حتى النخاع؟
يجيب أن الكتاب أو المقالات التي أعاد قراءتها دارت حول عدة محاور أولها وأهمها: جاء بعنوان "نخبة رائعة تواصل الرسالة"، وهو عن النخبة المصرية التي ولدت من رحم الطبقة المتوسطة وصنعت سجل النهضة المصرية، مع تولي محمد علي السلطة في مصر، ومواجهة تركة التخلف والاستسلام أو ما يسميه قوة مصر الناعمة، والأسماء التي كتب عنها الأستاذ رشدي تعكس روح هذه النخبة بأجيالها المختلفة، وهم مسلمون ومسيحيون، راديكاليون وإصلاحيون، مشهورون ومجهولون، ولكن الراية التي تجمعهم والهدف المشترك هو السعي لبناء دولة حديثة ديمقراطية منتجة ومن أمثال هولاء: رفاعة الطهطاوي، لويس عوض، أحمد بهاء الدين، رشدي سعيد، خالد محمد خالد، فؤاد زكريا، حامد عمار، عبد المنعم سعيد، علي سالم، حافظ إسماعيل، وسعد كامل وآخرون، يكتب عنهم الأستاذ رشدي بمحبة، وقراءات كثيرة لهم وعنهم، مؤكدا "ليس في ذهن أحد من هؤلاء الرواد انتظار التصفيق أو البحث عن شهادة جودة، إنهم مندفعون في طريقهم، لا يشغلهم سوى وضع الأسس التي يقوم عليه البناء".
ومحور ثانٍ مهم في كتاب "55 سنة صحافة"، يدور حول عدد من قضايا التنمية الاقتصادية والسياسية بتجلياتها المختلفة، ونجاح هذه التنمية - كما يقول الأستاذ رشدي - هو وسيلتنا للنهوض والتقدم، وناقش في هذا المحور قضايا مهمة مثل زراعة الصحراء ومشكلات النيل والمياه والألغام وتنمية سيناء، ومعرفة الآخر وفصل الدين عن السياسة، وصولا إلى قضية فلسطين.
أما المحور الثالث من الكتاب، الذي جاء بعنوان "أحداث شخصية وأصدقاء ومعارف"، فتناول قضايا ذات طابع شخصي، أو تبدو كذلك لأنها تنزلق من الخاص إلى العام مثل قضايا التربية وتعليم الصغار، والاستفادة من القراءة والكتب، وفيه أيضا مقالات عن الفنان التشكيلي كنعان، والأديب عبد الله الطوخي، والرسام العبقري حجازي، الذي يصفه بأنه سليل الملوك، وفيه أيضا مقال محب عن الساعي عم حسين عبد الجليل، أشهر سعاة مجلة "صباح الخير"، وكاتم أسرار رؤساء التحرير من إحسان عبد القدوس إلى حسن فؤاد، ويكتب في نفس المحور عن لويس جريس، وحسن فؤاد، وهي كتابة رائقة تقدر دور هؤلاء، وتمنحهم حقهم وتكشف عن دورهم، وما قدموه لغيرهم.
وفي كتاب "55 سنة صحافة"، محور عن الكتب والأفكار يقدم فيه الأستاذ رشدي بتحليل ممتاز مجموعة من الكتب التي قدمها للقراء في تاريخه الصحفي ومنها كتب؛ قلب جراح عن الجراح الروسي الشهير فيودور أوجلوف، وكتاب من والد إلى ولده.. رسائل في التربية والتعليم والآداب لأحمد حافظ بك عوض، وكتاب وقائع خروج أسرة يهودية من مصر للكاتبة الصحفية الأمريكية لوسيت لنيادو، وكتاب عن أزمة الزواج في مصر لجنان خلوصي، وكتاب للباحث سمير شحاتة عن ثقافة العنبر، والذي قضي عمل فيه الباحث عاملا داخل مصنع غزل لمدة عام حتى يكتب عنهم، وكتب أخرى قدمها الأستاذ رشدي للقراء يستلهم منها الفكرة، ويركز على ما ينفع المجتمع المصري، ويسهم في تقدم مصر ودفعها إلى الأمام.
مصر تستحق النهضة والتقدم
وهو ما سيبدو لك واضحا إذا قرأت الكتاب بتركيز، فالأستاذ رشدي أبو الحسن يكتب بروح الباحث وليس الصحفي، وكتابته ممتعة مثل كل جيله الذي كان مسلحا بالثقافة والمعرفة، وتشعر بأنه يكاد يقول لك في كل صفحة من صفحات الكتاب الخمسمائة أن مصر تستحق النهضة والتقدم برغم التحديات الكثيرة التي مرت، ولاتزال تمر بها.
كتاب "55 سنة صحافة"، للأستاذ الكبير رشدي أبو الحسن كتاب مهم للأجيال الحالية لمن يريد أن يري مصر الثقافية وقوتها الناعمة في الخمسين عاما الأخيرة، ولأهمس في أذن الأستاذ رشدي بشيئين أولهما: أن يصحح الأخطاء الكثيرة جدا في الكتاب ويضبط أرقام الفهرس، والأمر الثاني أن يقدم مذكراته أو شهادته السياسية للقراء حتى تتعرف الأجيال الحالية عن جزء من تاريخ مصر.



