أشهر مناجم الذهب في السودان الغربي
تشتهر العديدُ من المناطق في القارة الإفريقية، كما هو معروف، بـ"الذهب"، وتقع مناجم الذهب في عدة مناطق داخل هذه القارة شرقًا، وغربًا، وكذلك جنوبًا، لا سيما في المناطق التي تُعرف باسم: (بلاد التكرور)، أو (بلاد السودان الغربي). ويُعرف الذهب باسم: التبر، وهو يعني في اللغة: ما كان من الذهب غير مضروب، "فإذا ضُرب دنانير، فهو عين".
وعن الفرق بين كل من الذهب والتبر في اللغة، يقول "الفخر الرازي" (المتوفى سنة: 666ه/ 1267م): "ولا يُقال تبرٌ إلا للذهب، وبعضهم يقول للفضة أيضًا".
ويُعرف "الذهبـ" أو "التبر" في بعض نواحي المغرب باسم "العبقر"، حيث يقول الجُغرافي الزهري (عاش إبان القرن 6ه/ 12م): "وهو التبر بلغتهم".
وتُعد بلاد السودان الغربي (غرب إفريقيا) من أهم المناطق في قارة إفريقيا التي تشتهر بوجود مناجم الذهب، وكذلك تجارته خلال حقبة العصور الوسطى. وكانت تجارة المعدن النفيس من أهم صنوف التجارة التي كانت تتم بين كل من التجار في بلاد السودان الغربي من جهة، وبلاد المغرب الأقصى وشمال إفريقيا من جهة أخرى، وذلك عبر طرق القوافل التجارية، لا سيما ذلك الطريق الذي اشتهر باسم: "طريق الذهب" الذي يبدأ من سجلماسة، ثم ينتهي في آخر المطاف إلى "تمبكتو" (تنبكت).
وكان التجار القادمون من بلاد المغرب (شمال إفريقيا)، ومصر، يتبادلون مع تجار السودان الغربي السلع والبضائع التي يأتون بها في مقابل الذهب، مثل: المنسوجات وكذلك الأقمشة، والملح، والسكر، والخيام، والروائح العطرية، وغيرها من المنتجات، وهو ما كان يعرف باسم "نظام المقايضة".
وقد نال الذهب القادم من أسواق مالي (بلاد السودان الغربي) إلى الأسواق المصرية أهمية كبيرة، خاصة بعد أن نضب معين مناجم الذهب في منطقة "وادي العلاقي" بالصحراء الشرقية، (أو أرض الذهب)، وهي المنطقة التي تقع شرقي الأراضي المصرية. ولعل أهم المناطق التي كان تتركز فيها مناجم الذهب في مملكة مالي: مناجم "بامبوك" التي توجد عند أعالي نهر السنغال، وكذلك مدينة "بيور" عند ملتقى نهر النيجر بفرعه "تينكيسو"، وكذلك مناجم مدينة "لوبي" عند أعالي نهر الفوتا، وكذلك في منطقة "ونجارة" التي كانت جزءًا من مملكة غانة، وكان الذهب يأتي من هذه المناجم حتى القرن 13ه/19م.
وتقع مناجم "بامبوك" Bambouk عند أعالي المرتفعات القريبة من ضفاف "نهر السنغال"، وهي منطقة كانت تشتهر بتجارة الذهب، وكان التجار القادمون من مناطق شمال إفريقيا وبلاد المغرب، فيما يذكر المستشرق "كارل جريمبرج" Carl Grimberg، إلى مدينة "جاو" Gao في غرب إفريقيا يقومون بتبادل السلع والبضائع (وكان بعضها يأتي من أوروبا حسب رأيه)، في مقابل الذهب من مناجم بامبوك، وكذلك العبيد. وهو ما يشير إلى شهرة منطقة بامبوك، وكذلك الذهب الذي كان يتم استخراجه المناجم التي توجد بها، حتى يُقال "إن الذهب كان يصب من مناجم بامبوك كأنه أمواج البحر..".
ولعل هذا ما يؤيد فكرة ثراء منطقة بامبوك بالمعدن النفيس. وعلى أي حال توجد بعض الإشارات التاريخية التي تُشير إلى أن مناجم "بامبوك" رغم أهمية الذهب الذي يستخرج منها، وكذلك شهرته، وقيمته الاقتصادية، إلا أنه لم يكن من السهل استخراج هذا النوع من الذهب، واستغلاله، وذلك مقارنة بالمناجم الأخرى التي تقع في بلاد السودان الغربي.
مناجم كوغة: تقع بالقرب من غانة، وتعتبر من أشهر المدن التي بها "مناجم الذهب" في السودان الغربي، ويذكر البكري (ت: 487ه/ 1094م) أنها تقع على مسيرة خمس عشرة مرحلة من غانة، ولعله يقصد مدينة غانة العاصمة، وليست المملكة كلها التي كانت تحمل ذات الاسم. ويؤكد أن أهلها كانوا مسلمين في أيامه، وهي تقع أيضًا على مسيرة تسع مراحل من مدينة أنبارة، وهي إلى الغرب من مملكة غانة. ويصف البكري هذه المدينة قائلًا: "وهي أكثر بلاد السودان ذهبا...". وهو ما يُشير إلى ثراء منطقة كوغة بالذهب، وكثرة المناجم بها. كما كانت المناجم تحيط بهذه المدينة أيضًا، ولم تكن داخل تخومها فحسب، ولهذا قال: "وحواليها من معادن التبر كثير...".
ولهذا ربما تكون مدينة كوغة، ومناجمها واحدة من أشهر المدن في بلاد السودان الغربي، ومن أكثرها ثراءً به.
مناجم بيوري: توجد مدينة "بيوري" Bure، وكذلك مناجمها عند المنطقة التي يلتقي فيها "نهر النيجر" بأحد فروعه الصغرى، وهو الفرع الذي يُعرف باسم "نهر تينكيسو" Tinkisso. وتتميز مناجم الذهب في بيوري بأنه من السهل الوصول اليها مقارنة بغيرها من المناطق، كما أن استخراج الذهب منها يتم بطريقة أكثر يسرًا من غيرها، مقارنة بـ"مناجم بامبوك". وعن هذه المنطقة، وأهميتها، يقول المستشرق (ك. ماكفيدي): "وكان الذهب فيه أسهل استخراجًا، مقارنة بحقول الذهب التقليدية بمنطقة بامبوك..".
وتتميز مناجم بيورى أيضًا بأنها أكثر غزارة بالمعدن النفيس من غيرها. وحسب (أسطورة أمطار الذهب) التي أنف الحديث عنها، فقد اشتهرت منطقة بيوري بالذهب بعد أن قُتل "الثعبان المقدس" (بيدا) في "مملكة غانة" (469-600ه)، ثم طارت رأسه إلى السماء حسب الأسطورة الغانية، ومن ثم نزلت الرأس على الأرض في منطقة "بيوري"، وصارت بفضل ذلك أشهر مناطق مملكة غانة بالذهب، وهو ما ذكرناه آنفًا.
مناجم غابات الأكان وفولتا السوداء: تعد "غابات الأكان" Akan Forests هي الأخرى من أشهر المناطق التي يتم بها إنتاج الذهب في مناطق غرب إفريقيا، وعلى هذا ذاعت شهرة مناجمها، وكذلك اشتهرت حقول الذهب في منطقة "فولتا السوداء" Black Volta لا سيما إبان حقبة ازدهار مالي. ورغم هذا فإنه لم تكن هذه المناجم تخضع بشكل أو بآخر لسيطرة تلك المملكة آنذاك. وكان الذهب المستخرج من هاتين المنطقتين يتدفق عبر الطرق البحرية، وكان يتجمع في مدينتي "جني" Jenne وتمبكتو (تنبكت) Timbuctoo. وصارت كلتا المدينتين محطتي تجارة هامتين لطرق القوافل التي كانت تعبر الصحراء شمالًا في اتجاه بلاد المغرب.
مناجم لوبي: تقع منطقة لوبي Lobi عند أعالي "نهر الفوتا" (فوتا حالون)، وتتميز مناجم نهر الفوتا بأنها ذات كميات كبيرة من الذهب، وتُعرف هذه المنطقة أيضًا باسم "مينا" Mine، وهي كلمة تعني باللغات الأوروبية: المنجم. وهي التي تعرف حتى الآن باسم "ساحل الذهب". وتعد تلك المنطقة من أهم مناجم إنتاج الذهب في غرب إفريقيا، وكان يتم نقل المعدن النفيس من هناك عبر مسالك الصحراء إلى المراكز الكبرى التي تتوقف بها القوافل التجارية، ومن ثم كان الذهب ينقل إلى أسواق مصر، وبلاد المغرب، وشمال إفريقيا بعد ذلك.
مناجم غياروا: تحدث عنها البكري، حيث يذكر أن (غياروا) كان بها أفضل أنواع الذهب في مملكة غانة. وتقع هذه المناجم على مسيرة 18 يومًا من المدينة التي بها ملك غانة، وهي في بلاد ينتشر فيها العمران، وتتصل بها البيوت والمساكن، وتقع "غياروا" على مسافة 12 ميلًا، وكان بها عدد كبير من السكان المسلمين، وذلك حسب رواية البكري، أي إبان حقبة النصف الثاني من القرن 5ه/ 11م.
متخصص في التاريخ والتراث الإفريقي



