صلاح حافظ يكتب "رمضان.. وأنا"
نشرت مجلة روزاليوسف مقالًا للعملاق الكبير صلاح حافظ، منذ أكثر من 35 عامًا تحت عنوان "أوراق شخصية صلاح حافظ رمضان.. وأنا"، استعرض خلاله تجربته مع صيام شهر رمضان المبارك.
أصوم رمضان في سن السابعة
يقول الكاتب الكبير العملاق صلاح حافظ: بدأت أصوم رمضان في سن السابعة، ولم يكن ذلك طمعًا في الجنة، أو خوفًا من النار، إنما كان هدفي أن أغيظ أخي الصغير، وأتعالى عليه، وأبين له أننى صرت رجلاً، بينما هو "عيل" لايزال.
لكن أخي لم يلبث أن كبر بعد سنوات، وصام، ولم يعد يصلح هذا السلاح للتعالي عليه، فبدأت أصوم لوجه الله.
وذات رمضان، جلست أسلى صيامى بكتابة خطاب إلى أحد الأصدقاء، كان اليوم حارًا وطويلًا، يزهق الأنفاس، وكنت قد تعلمت التدخين، وصار الصوم بالنسبة لي قطعة من العذاب، فأطلقت قلمي على سطور الرسالة ينتقم، من رمضان.
هاجمته كما يهاجم المحامي خصمًا في المحكمة، واتهمته بكل ما يخطر بالبال، والخيال، وسقت في مواجهته ألف حجة فلسفية، وصحية، وجغرافية، وكيميائية، بل دينية أيضًا.
لم أكن وقتها أؤمن بحرف من هذه الحجج، ولكن كنت أشعر بلذة وأنا أصوغها، وأحبكها، وأنفس بها عما أعاني من صداع وعطش. ثم فجأة دخل والدي وضبط الرسالة.
وغاص قلبي حتى بلغ أطراف أصابع قدمي، فوالدي كان يعتبر كتابة أي شيء غير دروس المدرسة جريمة، وفسادا لا يغتفر. تناول والدي الرسالة وجلس على أقرب مقعد في الغرفة، وبدأ يقرأ، وتعلقت عيناي بملامحه أحاول أن أستشف منها مستوى العقاب الذي سيصيبني، وأتبين كم خيزرانة على وجه التقريب ستلهب ظهري بعد مدفع الإفطار.
لكن ملامح والدي -لأول مرة -لم تفصح عن رغبة في العقاب. وعندما فرغ من قراءة الرسالة لم يحاول حتى أن ينهض من مقعده، وإنما نظر إلىّ وعلى شفتيه ابتسامة هادئة، وقال مؤنبا برفق لم أتعوده منه:
- المرافعة معقولة، لكن مش معقول يكتبها واحد مسلم.
وكانت هذه أول مرة يناقش فيها والدي فكرة موضوع ضبطني أكتبه.
كان قبل هذا لا يعترف لي أصلا بحق الكتابة، وكان يعاقبني على أي حرف أضيع فيه وقتي دون أن يناقش فيما كتبت، إذن فقد اعترف لي بحق الكتابة. وكدت أقفز من مقعدي لأعانقه، وأحسست بأني مستعد أن أفعل أي شيء من أجل إرضائه.
وتحت تأثير هذه الرغبة في إرضائه كذبت عليه، قلت له إن ما قرأه هو الجزء الأول من مقال عن فضائل الصوم، وإنني خصصت هذا الجزء لسرد كلام الملحدين، تمهيدا للرد عليه في الجزء الثاني الذي لم أكتبه بعد.
ولا أدرى حتى هذه اللحظة هل صدق والدي هذا الكلام، أم أنه تظاهر بتصديقه، المهم أنه نهض، وأعاد لي الأوراق، وهو يقول: - لسه فاضل على المغرب كتير، اقعد كمل الموضوع، ثم تركني وخرج.
وبسطت الأوراق أمامي، أعيد قراءة ما كتبت، لكي أرد عليه. وكان الموضوع الذي سأكتبه قريبا إلى نفسي، ومعبرا عن عقيدتي، فالصوم بوجه خاص كان من أقرب العبادات إلى وجداني، وكان له عندي -في تلك السن -مذاق شاعري وعاطفي لا حدود لحلاوته، ولكن عندما شرعت في الكتابة، تعثر القلم في يدي، ضاعت الكلمات من ذاكرتي، صرت أجر الجمل جرًا كأنني بغل، وكأنها دبابة، لم يعد لكلامي بريق، ولم تعد حججي مقنعة، مع أننى أؤمن بها، ولم أعد أستمتع بما أكتب، مع أنني أعتنق كل حرف فيه.
وعندما قرأ والدي -بعد الإفطار -ما كتبت قلب شفتيه امتعاضًا وقال: - كلام الملحد في هذا المقال أكثر إقناعا من ردود المؤمن.
وبناءً عليه صادر المقال كله. وفي الأسبوع الماضي أهداني والدي، بمناسبة رمضان، ذلك المقال القديم الذي كان محتفظا به. وكم شعرت عندما قرأت المقال بأن والدي كان على حق عندما صادره.
كان الهجوم على رمضان أكثر إقناعًا ألف مرة من الدفاع عنه، كان الهجوم ساخنًا، والدفاع باردًا، كانت حججه إنشائية وغبية، بينما حجج الهجوم محكمة، ومقنعة وذكية.
يقال دائمًا إن الكاتب يكون أكثر بلاغة حين يقول ما يؤمن به، فلماذا في تلك الرسالة القديمة خذلتني بلاغتي وأنا أدافع عن رمضان؟ ولماذا كنت أبلغ وأنا أسوق ضده حججا لم أكن أؤمن بها؟
في اعتقادي أن السبب لا صلة له بإيماني أو عدم إيماني بما كتبت، سواء في الدفاع أو في الهجوم.
المسألة كلها هي أننى عندما هاجمت رمضان كنت أريد أن أهاجمه، وعندما كتبت عن فضائله كان والدي هو الذي يريد! صحيح أنني كنت مؤمنًا بما أراد والدي أن أكتبه، ولكن هذا الإيمان لم يستطع أن ينسيني أنني ألبي أمرًا لم يصدر من داخلي. ولأنه كان أمرًا، فقد لبيته بفتور.
ولأن الهجوم على رمضان لم يصدر به أمر، فقد أديته بحرارة، برغم عدم إيماني به.
فالكاتب فيما يبدو لا يعبر عن الحقيقة بقدر ما يعبر عن ذاته.
ولا فائدة من إرغام كاتب على أن يقول الحقيقة، إذا لم يصدر إليه الأمر بقولها من داخله.
لن يخدم أي كاتب في هذا العالم أية حقيقة، ما لم يرد هو أن يخدمها، ودون دعوة من أحد.



