١٤ يومًا في العزل.. تجربة إنسانية ملهمة في أقدم عواصم الصين!
شعرت بالكثير من الدهشة عندما أخبرنا الطبيب الصيني المتابع لنا في العزل بأن تجربة الحجر الصحي الذي نخضع له تجربة إنسانية مُلهمة سوف تكسبنا مهارات جديدة وستعلمنا ترويض النفس.
معايشة 14 يومًا في بمدينة هانغتشو

الطبيب كتب بالإنجليزية عدة إرشادات ونصائح وأنشطة يمكن أن نمارسها أثناء فترة الحجر؛ تخفف من وطأة الشعور بالعزلة ونمرر بها أيام الحجر.
في الحقيقة لقد مر عليّ أربعة عشر يوما وأنا هنا في الحجر الصحي بمدينة هانغتشو؛ عاصمة إقليم جيجيانغ وإحدى عواصم الصين القديمة السبع، والتي وصفها الرحالة الإيطالي ماركو بولو بالمدينة الأجمل والأكثر ترفًا في العالم.
ومع ذلك فتجربة الحجر الصحي حتى وإن كانت في أفضل مكان على وجه الأرض؛ ليست تجربة سهلة على أي شخص، فالحياة فيها تتحرك ببطء، وتتخللها مشاعر ولحظات وأيام صعبة.
وعلى الرغم من كل الرعاية والاهتمام، الذي حظيت بهما داخل الفندق الذي اقضي به أيام الحجر الصحي، وتقديم النصائح والإرشادات المستمرة من الطبيب المتابع، واتباع نظام صحي مفيد بدءا من تقديم المأكولات الصحية، وقياس درجة الحرارة مرتين صباحًا ومساءً، وتناول الفاكهة وشرب الكثير من الماء، وإبلاغ الطبيب بأي مستجدات صحية قد تطرأ على حالتي بشكل يومي، كان كل ما يهمني خلال الأيام الأولى من الحجر الصحي بالفندق؛ هو ألا أكون مصابة بالفيروس، خشية أن تطول فترة الحجر الصحي أو اضطر لقضاء تلك الفترة بالمستشفى.
فمن واقع تجربة الحجر الصحي لآخرين؛ فإن قضاء فترة الحجر الصحي في الفندق أخف وطأة من قضائها بأحد المستشفيات. إذ قد تمتد الفترة لمدة شهر كامل أو تطول.
مما لا شك فيه ان جهود الحكومة الصينية مع مكافحة الوباء، كبيرة جدًا، لذا كان لازما على الجميع الالتزام- سواء كانوا مسؤولين ومواطنين صينيين أو وافدين من الخارج- بجميع تعليمات التعامل مع الفيروس، لتحقيق النصر عليه.
وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية ليس هناك أدنى استغراب أن يتم إجراء مسحات متكررة لنا طوال فترة الحجر أو أن يكون هناك تعليمات صارمة بارتداء الكمامة حتى أثناء التقاط وجبات الطعام الموضوع لنا أمام غرفنا بالفندق.
ولا مجال للسخرية إذا علمت أن من لا يلتزم بتلك التعليمات قد يتعرض للمساءلة والتحقيق من قبل شرطة المدينة التي نخضع فيها للحجر، فالجميع هنا يعلم أن الدولة لا تتهاون في تلك المسألة- اقصد الالتزام بالتعليمات الصحية لتجنب تفشي الوباء– بل تعتبرها مسألة حياة أو موت حتى تعود الأمور لنصابها الطبيعي.
قد ينتقد الكثيرون هذه السياسة التي تنتهجها الدولة الصينية في مكافحة الوباء، ولكن إذا نظرنا إلى الأمور من منطلق ماذا لو تفشى الوباء في دولة بحجم الصين بمثل هذا التعداد البشري الضخم "1.45 مليار نسمة"؛ فبالتأكيد سيجدون ما يبرر هذه السياسة الصارمة. فعندما ظهر فيروس "كوفيد-19" لأول مرة في مدينة ووهان الصينية في أواخر عام 2019، لم تكن الصين مُستعدة لمواجهة مثل هذا المرض.

ولكن خلال العامين الماضيين، تمكنت الصين من تطوير وتنفيذ نظام استجابة لمكافحة تفشي الأمراض مدعومًا بعلم الأوبئة، في البلد بأكمله، بما في ذلك من خلال إجراء اختبارات بشكل منتظم وتتبع المخالطين، وإخضاع المُصابين للحجر الصحي المركزي، واستخدام البيانات الضخمة لمنع انتشار الفيروس بين المدن.
وفي حين تظل سياسات الصين لمكافحة الأوبئة أكثر استباقية وصرامة من تلك الموجودة في معظم البلدان الأخرى، فإن النتائج تتحدث عن نفسها. حتى الآن لم تُبلِغ الصين سوى عن 5,226 حالة وفاة فقط بسبب "كوفيد 19"، وقد تجنبت إلحاق أضرار جسيمة باقتصادها. ولذلك فلدى الصين سبب وجيه لفرض تدابير أكثر صرامة وعدم التخلي عن نهجها الديناميكي المُتمثل في بلوغ صفر إصابات بفيروس كورونا في الوقت الحالي.

لكن أعود مرة أخرى؛ لتجربة الحجر الملهمة كما أخبرنا الطبيب الصيني الذي لم يكن يكذب علينا أو يخدعنا.. نعم أعترف أن وصف الطبيب للحجر الصحي بأنه تجربة إنسانية ملهمة هو صحيح وصادق– بنسبة مائة بالمائة- من وجهة نظري أنا على الأقل. فقد منحتني تلك الفترة فرصة استثنائية كي أخلو بنفسي تماما بلا أي رفيق.. ويا لها من تجربة لإعادة اكتشاف الذات. أحسست لأول مرة وأنا الكائن الاجتماعي الذي لا يطيق الوحدة أنني كنت بحاجة ماسة إلى تلك التجربة الذاتية.
أنا الآن أقف أمام نفسي بمفردي أواجه مواطن الضعف والقوة فيها.. وجميع الهواجس والشكوك في قدرتي على تحقيق ما أصبو إليه؛ لماذا تأخرت عن تحقيق أهدافي وما السلبيات في نفسي التي تعوقني عن ذلك؟ وأسئلة أخرى من هذا القبيل؛ قادتني إلى إجابات متعددة حول ما أريده من هذه الحياة، ولم أنا موجودة؟ وما الطموحات التي أريد تحقيقها؟ وما الدوافع القوية التي تحركني؟

في الحقيقة ليست تجربة الحجر الصحي وحدها؛ ولكن السفر في حد ذاته تجربة ثرية بالخبرات دائما ما يجعلني قريبة من ذاتي.. أكتسب خلاله الكثير من المهارات التي تعيد إلى حيويتي ونشاطي ورغبتي في تطوير ذاتي. ولكن يضاف إلى تجربة السفر هذه المرة تجربة الحجر الصحي؛ والتي تعلمت خلالها دروسا ما كان ممكنا لي أن أتعلمها لو لم أسافر إلى الصين في ظل تلك الظروف الاستثنائية. ولعل أهم هذه الدروس التي تعلمتها هي كيف أُدير ما لدي من موارد قليلة بشكل جيد؛ كيف أشعر بالسعادة حتى وأنا بمفردي.. أنا لست دائما بحاجة إلى آخرين أو أشياء كثيرة لكي أعيش بشكل جيد، بل أن كثيرا مما نظنه من الضروريات ليس كذلك إلا لأننا توهمناه ذلك، وانه حين نضطر للتخلي عن الأشياء أو نختار التخلي عنها برغبتنا فإننا بالتأكيد سوف ننجح في ذلك. هذا ما علمتني إياه تجربة الحجر الصحي في الصين، فبكل تأكيد كانت بالنسبة لي تجربة هائلة وملهمة، قد مكنتني من التقرب من ذاتي بشكل أفضل والتعمق في اكتشافها بشكل لم يسبق لي أن جربته من قبل. لذلك لم يخطئ الطبيب الصيني عندما وصف التجربة بأنها تجربة إنسانية مُلهمة.



