عاجل
الأحد 3 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
من الصداقة بالمراسلة... إلي "الفيس بوك"

من الصداقة بالمراسلة... إلي "الفيس بوك"

بقلم : د. أحمد الديب
 
 
منذ زمن ليس بالقريب وليس بالبعيد ، كان ساعي البريد يطرق باب البيت ليعلن عن وصول رسالة جديدة باسمك ، تَعرف مصدرها بمجرد أن تطالع طابع البريد الذي يدل علي الدولة التي أُرسلت منها . تفتح رسالتك بمنتهي التلهف والفضول لتجد أن تاريخ كتابتها قد تجاوز الأسبوع وأنها من صديق لك بالمراسلة لا تعرفه ولا يعرفك إلا من خلال رسائلكما المتبادلة عبر البريد . هذا من المغرب وهذه من الجزائر وهذا من مصر لكنه من محافظة أخري ، تحمل أوراق الرسالة عبق المكان التي جاءت منه وتحمل سطورها روح كاتبها وتنم طريقته في الكتابة ونمط خطه عن شخصية ترسمها في مخيلتك لكنها لا تكتمل أبداً ، مما يضفي علي الأمر فضولاً غريباً وتشويقاً مثيراً لم يعد كذلك مع الجيل التالي الذي اتخذ من الفيس بوك بيته ووطنه ومكان معظم أنشطته الاجتماعية إن لم تكن جميعها.

في سنوات الجامعة ، كان التنافس علي أشده من أجل أن يفوز الطلاب بالمشاركة في المعسكرات الجامعية التي يتجمع فيها الطلاب من مختلف أنحاء الجمهوريه .يلتقي الطلاب من كل الجامعات فتمتليء أجندة كل منهم بأرقام هواتف منزلية وعناوين وكلمات الذكري التي يكتبها كل منهم بخط يده في أجندة . كيف يتثني لطالب صعيدي مثلي أن يفتح نافذة إلي الخارج تتسم بهذا التنوع الثقافي والاجتماعي واللغوي دون المشاركة في هذه الفعاليات .أتذكر كم كان معسكر إعداد القادة بحلوان بوتقة فريدة تنصهر فيها معظم ثقافات مصر من خلال طلابها ، كان المعسكر هدفه سياسي بامتياز تتخلل فعالياته السياسية فعاليات ترفيهية وثقافية ورياضية وفنية تتعدي فوائدها الترفيه لأبعد من ذلك بكثير.

ربما تكون تلك الأنشطة الجامعية قائمة حتي الآن ، ولكن لا أعرف مدي تأثيرها علي الطلاب الذين يحيون حياة افتراضية موازية عبر الفيس بوك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي يتواصل الجميع من خلاله من خلف حجاب فلا تكاد تعرف إن كان من أرسل لك وجه صغير يبتسم ، أهو يبتسم في الحقيقة أم لا ، ومن يقوم بمواساتك عندما تحتاج المواساة اهو ايواسيك فعلاً أم لا
.
أعرف عدداً ليس بالقليل من الشبان الذين تعرفوا علي شريكة حياتهم لأول مرة عن طريق الفيس بوك ثم تطورت الأحداث حتي الزواج الرسمي ، لا أعرف بالطبع ما آلت إليه أمور الزواج بهذه الطريقة ولا أعتقد أن ثمة دراسات اجتماعيه ترصد عن كثب هذه الظاهرة ، لكنها ولا ريب تمثل تطوراً نوعياً كبيراً. فبينما كانت أجيال سابقة تعتمد في الحب والزواج علي تواصل حقيقي ولقاءات عن قرب وجهاً لوجه ، أصبح الفيس بوك بديلاً اجتماعياً سائغا عن الكثير ، لا أستطيع الجزم بما إذا كان هذا التطور تطور طبيعي يحمل فيما يحمل مميزات كثيرة مع عيوبه ، كل ما أستطيع الجزم به أن بدايات افتراضية حتما ستؤدي الي تصورات ذهنية معظمها مغلوط ومن ثم قرارات وتوجهات خطيرة.

عندما تنظر إلي أجيال كانت كل نوافذها علي الدنيا لا تتعدي أثير إذاعة صوتية أو قناتي تليفزيون باللونين الأبيض والأسود تغلقان بثهما مبكرا ناهيك عن أجيال أسبق لم تشهد تلك الرفاهية النسبية ، ثم تعقد مقارنة سريعة مع جيل أبنائنا الذين فُتحت لهم كل نوافذ الدنيا وأبوابها علي مصراعيها ، فبينما تَربي جيلنا علي صوت مذيعي مونت كارلو وصوت العرب وإذاعة بي بي سي وإذاعة القرآن الكريم وبرنامج نادي السينما ولقاء الجمعة للشيخ الشعراوي ودمتم ، يحيا أبنائنا حياة افتراضية كاملة إما من خلال شاشة التابلت أو اللاب توب أو الهاتف المحمول مع إتاحة مخيفة لكل شيء ، فبينما كانت ندرة المعلومات في حالة الجيل الأول تخلق تخلق النهم للمعرفة ، يخلق توافر المعلومات وسيلانها عند الجيل الثاني نوعاً من الزهد ، فيفضلون الأفلام المتعددة الأبعاد والالعاب الإلكترونية ذات الطابع العدواني والمحادثات والصداقات الافتراضية .

قبل أن احيلك إلي دراسات موثقة بشان أضرار أو فوائد هذا التطور ، ربما يقول قائل أن هذا التطور الرهيب في الميديا ووسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية لا يضر بل يفيد بأي شكل من الاشكال ، ربما احيله الي مشهد يحتاج إلي الكثير من التأمل ، أسرة مكونة من خمسة أفراد أب و أم وثلاثة أبناء في مراحل متفاوتة من العمر، يجلسون علي طاولة في مطعم يتنظرون "الاوردر" لمدة عشرين دقيقة كاملة لم ينطق أحدهم ببنت شفة ، ولم تصدر من أحدهم أي التفاتة ، يحمل كل واحد منهم بين يديه هاتفه المحمول الفائق الذكاء ويجلسون كالغرباء صامتين كأن علي رؤوسهم الطير
.
أكثر ما يدهشك وما يحيرك أيضا هو قدرة الفيس بوك علي الجذب الذي لا ينافسه فيه شيء . ولا تقتصر قوته الجاذبة علي حديثي السن والشباب  ، بل استطاع لأسباب لست ملماً بها أن يستقطب كل الأعمار من الجنسين فأصبح الطريقة الوحيدة للتسرية عن النفس والترويح عنها لتجد ضالتك المنشودة في شتي مناحي الحياة. أصبح الفيس بوك منبر من لا منبر له ، فلم يعد الحديث عن الشأن العام مثلاً حكراً علي فئة بعينها ، فالكل يدلي بدلوه في السياسه والاقتصاد والفن والدين وكل شيء.

وهكذا يجور الفيس بوك علي الحياة الاجتماعية الواقعية ليعيش معظم الناس أغلب أوقاتهم أمام الشاشات المضيئة ، ربما بسبب ما أصاب الحياة الواقعية من الملل والرتابة علي أقل تقدير إن لم يكن الإحباط والاكتئاب وربما لأن الإنسان اجتماعي بطبعه ويكره العزلة ويجد في التجمعات إحساساً بالأمن الاجتماعي .

أصبحت البيوت والخصوصيات مخترقة إلي حد كبير ، معظم خصوصياتك أصبحت مشاعاً فلم تعد خصوصيات وإنما عموميات . صورك وصور أسرتك، حياتك الاجتماعية ، أنشطتك اليومية ، حتي مودك أصبح معلوماً للجميع . خالد يسافر إلي القاهرة ، خالد وصل إلي القاهرة ، خالد يأخذ قيلولة بعد الوصول ، صور خالد وهو يزور الأهرامات ، هكذا يريد أن يشاركه الناس  في كل شيء طوعاً أو هكذا يحلو له !.

لا أعتقد أن أحدا يمكن له أن يدرس الأثر الاجتماعي للفيس بوك  دون أن يتطرق فيما يتطرق إلي ظاهرة "العقل الجمعي" والتي تسمي في أحيان كثيرة "سلوك القطيع" .والتي تُبرز أثر السلوك الجماعي علي السلوك الفردي ، فيتبع الفرد الجماعة بغض النظر عن صحة توجهاتها من عدمها . وبما أن القطاع العريض من الجماهير يشترك ويتفاعل من خلال الفيس بوك مما يدفع الفرد وإن كانت له ميول أخري لأن يتبع العقل الجمعي العام و أن يسجل حساباً ليستكشف علي الأقل ، ثم ما يلبث أن يعتاد عليه كما اعتادت الجماعة.
 
في يناير الماضي أعلن"مارك زوكربيرج" المخترع والمؤسس والرئيس التنفيذي لفيس بوك عن وصول عدد مستخدمى الموقع إلى 1.59 مليار مستخدم حول العالم، موضحا استخدام مليار شخص للجروبات بالموقع، بالإضافة إلى اقتراب وصول عدد مستخدمى تطبيق واتس آب إلى المليار.و أعرب عن امتنانه من تحول موقع فيس بوك إلى منصة اجتماعية يستعين بها العالم فى تقديم التهانى والتعازى فى كافة المناسبات المختلفة ، حيث يستخدم ملايين الأشخاص يومياً الموقع فى التواصل والدردشة مع أحبائهم من أى مكان فى العالم. لا أعتقد أن هناك رجلاً أقوي من رجل يجتمع عنده أكثر من مليار شخص ، لذا أري أن "زوكربيرج" أقوي رجل في العالم بلا منازع .

أجرت العديد من المؤسسات الأكاديمية العالمية أبحاثاً مستفيضة عن الفيس بوك وتأثيره النفسي والاجتماعي ، تؤكد تقارير الواشنطن بوست أن الاستخدام الغير منضبط للفيس بوك يرتبط بأعراض اكتئابية وغيرها من الآثار النفسية السلبية والتي تُعزِي أسبابها إلي المقارنات الاجتماعية بين الأصدقاء . كما سلطت النيويورك تايمز الضوء علي دراسة نُشرت في دورية "الأكاديمية الوطنية للعلوم" في عام 2015 عن العدوي العاطفية التي تصيب الأصدقاء من بوستات أصدقائهم المحبطة ، والتي تؤثر سلباً علي الحالة المزاجية . كما أكدت دراسة أجريت بجامعة ميتشجن علي التأثير النفسي السلبي لاستخدام الفيس بوك لفترات طويلة .
 

الجيل الذي كان ينتظر مباراة الاهلي والزمالك وكأنها عيد ، ينتظرها مبتهجاً قبلها بأيام وأيام ، ويبقي تأثيرها إلي ما بعد المباراة أياماً عديدة أخري، لم يعد يبتهج وللأسف بمثل هذه الأشياء ، ربما لأن ذات الأشياء لم تعد مبهجة كما كانت ، أو لأن التغير قد طال النفس المستقبِلة ذاتها والتي لم تعد تبتهج إلا فيما ندر. لا أدري متي كانت بداية النهاية للعلاقات الاجتماعية الدافئة وللأشياء البسيطة المبهجة ، هل كان الفيس بوك ووسائل التواصل الاجتماعي الأخري أسباباً لبرود العلاقات الاجتماعية حتي الأُسرية منها أم أنها كانت من نتائج ذلك الخلل الذي أصاب حياتنا ، أعتقد أن الإجابة تحتاج المزيد من البحث وتقصي الحقيقة لعلنا نصل إلي التشخيص يوماً ومنه إلي العلاج.



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز