

د. شريف درويش اللبان
السبيكة المصرية
بقلم : د. شريف درويش اللبان
كتبت أنا تلميذتي أسماء فؤاد حافظ دراسة علمية موثقة نُشرت في شكل سلسلة من خمس حلقات بعنوان: "قراءة موضوعية فى تاريخ الفتنة الطائفية وواقعها المعاصر في مصر" على موقع "المركز العربي للبحوث والدراسات" خلال شهريْ يونيو ويوليو الماضييْن، ذكرنا في مقدمتها أن التنوع كان ولا يزال وسيظل أحد أهم ملامح القوى الناعمة التى يمتلكها المجتمع المصرى منذ آلاف السنين، حيث لم تؤد خبرة التعايش بين المصريين المختلفين فى المعتقد الدينى إلى مشكلات كبرى تظل عالقة بالذهنية الجمعية المتوارثة للشعب المصرى. وتتعدد محددات وعوامل العلاقة بين المسلمين والأقباط، سواء كانت داخلية أو خارجية، والتى تشكل فى مجملها السياق العام، والبيئة المحددة لأنماط التفاعلات بين المسلمين والأقباط فى مصر عبر العصور المختلفة.
ويمكن من خلال استقراء العلاقات بين المسلمين والأقباط عبر العصور المختلفة، القول إن المجتمع المصرى لم يدخل يومًا فى حزام المجتمعات الطائفية بشكلها المعروف، وإن كانت هناك بعض التفاعلات من آن لآخر لم تخل من أعراض تشى بطابعها الطائفى. فحتى لفظ "قبطي" المستخدم لوصف المسيحيين فى المجتمع المصرى قد اُستخدم كثيراً لا تعبيراً عن الدين ولا طموحاً فى إيجاد وحدة سياسية أساسها الدين، ولكنه استُخدم بمعنى "المصرى الأصيل" مسيحياً كان أو مسلماً، واستُعمل هكذا ليميز المصريين "الأصلاء" عن المتمصرين، أى أنه فى الماضي كان لفظ "قبطي" يعنى "مصري" بغض النظر عن الديانة التى يعتنقها، إلا أن الشائع بين المؤرخين وجموع المثقفين والعامة أيضًا أن الأقباط هم المصريون الذين يدينون بالمسيحية، ولكن فى النهاية فإن أقباط مصر ومسلميها تجمعهم الجامعة الوطنية.
ولم يتحرك الأقباط فى المجتمع يومًا من منطلق أنهم جماعة مغلقة أو ذات عناصر متماثلة، حيث أدى انتشارهم فى جسم المجتمع، وتنوعهم الطبقى والفئوى، إلى الارتباط العضوي بالسياق الاجتماعى الثقافى المصرى، فيقول "المقريزى" عن أوضاع الأقباط فى ظل الدولة العثمانية: "كان منهم كُتاب المملكة ومنهم التجار، والباعة، ومنهم الأساقفة والقساوسة، ومنهم أهل الفِلاحة والزراعة، ومنهم أهل الخدمة والمهنة". كما حرص الأقباط على الاندماج فى المجتمع، الأمر الذى دعم مسيرة الحركة الاستقلالية، التى برز دورها الواضح فيما بعد تولى محمد على، وتأسيس ما اصطُلح على تسميته بالدولة الحديثة فى مصر، والتي تجسدت فيها الجماعة الوطنية وتكامل مكوناتها وبزوغ المواطنة.
وقد أكد التقرير الذى أعده "جون بوزنج" المبعوث الإنجليزى إلى "بلمرسنون"، وزير الخارجية البريطانى عام 1837، على العلاقات الودية التى تربط بين المسلمين والأقباط وعدم وجود فوارق ملموسة فيما بينهم فى مختلف القطاعات وعلى شتى المستويات. كما يشير التقرير إلى أن "التسامح قد خطا خطوات فسيحة فى السنوات الأخيرة وأن الفوارق بين المسلمين والمسيحيين آخذة فى الاختفاء وأن المسيحيين يُرقون إلى أعلى المناصب فى الدولة ولا يوجد من يتعرض لأقل مضايقة بسبب عقيدته الدينية".
ولعل هذه السبيكة المصرية بعنصريْها المتحديْن ذات الخواص المتفردة الناتجة عن انصهار معدنيْن أصيليْن فيها يمت نسبها إلى النبي عيسى بن مريم والنبي محمد بن عبد الله عليهما الصلاة والسلام هى التي تستعصي على كل محاولات الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في مصر منذ الاحتلال الإنجليزي لمصر وحتى عصرنا الحديث انتهاءً بتفجير الكنيسة البطرسية منذ أيامٍ قليلة؛ وليس أدل على ذلك سوى مشهد تلاوة القرآن فى عزاء مسيحي من شهداء حادث الكنيسة الأثيم، وهى الصورة لن تجدها سوى فى مصر. إن السبيكة بهذا المعنى لن تستطيع فيها أن تفرق بين المسلم والمسيحي لأن كلاهما متحابان وإخوة على مر الزمان، وهو ما يؤكد أن ما يردده الإعلام الغربي عن الطائفية فى مصر غير صحيح.
وما يؤكد ذلك أيضًا أن موطنيْن أقاما عزاءً مشتركًا لشهداء الشرطة فى حادث انفجار قنبلة بالهرم وشهداء انفجار الكنيسة البطرسية، وذلك أمام كنيسة العذراء بمنطقة عين شمس السبت الماضي، حيث قدم قسيس وشيخ وعظًا للمعزيين. وجاءت فكرة إقامة عزاء مشترك لشهداء الشرطة فى حادث الهرم والكنيسة البطرسية لتعبر عن أن الحزن مشترك على الشعب المصري، وأن الإرهاب الغاشم لا يستثنى أحدًا، فهو يقتل الأطفال والكبار والشيوخ والنساء، حيث كان الفرق بين الحادثيْن يوم واحد فقط.
ووعظ الشيخ داخل سرادق العزاء أمام كنيسة العذراء، عن سماحة الإسلام وعن مكانة العذراء مريم فى القرآن وأن الإسلام حرم قتل النفس، وأضاف أن مصر بلد الأمان، وأن الله عز وجل هو من سيحاسب الإنسان وليس البشر وأن جميع الديانات ذكرت اسم مصر فهى محفوظة من الله، مشيرا إلى أن شعب مصر طول تاريخه واحد "حنا جنب محمد" قائلا: "التحدى حد يفرق المسيحى من المسلم الموجود فى العزاء".
بينما قال القسيس فى العزاء أن على أسر شهداء حادث الكنيسة البطرسية عليهم إلا يحزنوا فأبنائهم نالوا اكليل الشهادة ولحقوا بالقديسين، مشيرا إلى أن الإرهاب لا دين ولا وطن له فهو مثلما قتل المصليين فى الكنيسة قتل قبلها رجال شرطة أمام المسجد وهذا يدل على أن المستهدف هو الشعب المصرى لإسقاط الدولة.
ومن نماذج الوحدة الوطنية أيضًا ماحدث السبت الماضي كذلك ، حيث بدأت مديرية أمن سوهاج، إجراءات الصلح النهائى فـى الحادث الثأرى بين عائلتيْن قبطيتيْن، بتلاوة آيات من القرآن الكريم.
إن السبيكة المصرية بعنصريْها المسلم والقبطي عصية على التحلل مهما استُخدمت نيران الفتنة ضدها، فالنار في مصري لا تحرق مؤمنًا، سواء كان مصريًا أو مسيحيًا؛ فالمسلم والمسيحي يساوي واحدًا مصريًا صحيحًا مبرأً من أعراض الفتنة مهما طال الزمان ومهما تكررت محاولات الإرهابيين الجبناء.
حَفِظَ اللهُ مِصْرَ بأبراجِ كنائسها ومآذن مساجدها، وبجلجلة الأجراس وترانيم الصلوات وصوت الآذان والابتهالات.